غالبًا ما ننساق نحو الكثير من العادات الغذائية دون أنْ نعرف سبب ذلك، فقد يكون الأمر تأثّرًا بالمجتمع أو الإعلام أو الدعايات أو مواقع التواصل الاجتماعي. ومع صعود موجة الطعام الصحّي في السنين الأخيرة، تتسابق تلك الأدوات في عرض أفكارها والترويج للكثير من السلع باعتبارها صحية للغاية.
خذ على سبيل المثال عصير البرتقال، ذلك المشروب الصحّي الذي غالبًا ما يرافق وجبات الفطور المبكّرة، أو في أوقات المرض والتعب ونزلات البرد، أليس كذلك؟ تخبرنا العديد من المعلومات بأنّ عصير البرتقال مغذٍّ وصحّي للغاية، فهو يحتوي على فيتامين سي وكميات كبيرة من البوتاسيم وحمض الفوليك والثيامين المهمّة للصحة. لكن هل فكّرت يومًا بحقيقة هذه المعلومة ومدى دقّتها؟
عصير البرتقال ليس صحيًّا كما نعرف!
تعدّ مشكلة نقص الألياف في عصير البرتقال هي المشكلة الأساسية. إذ تعمل عملية العصر على إطلاق السكّريات من الفاكهة وإزالة الألياف غير القابلة للذوبان والتي من جهتها تساعد في معالجة سكّر الفركتوز الموجود في الفاكهة داخل الكبد. فكمّية صغيرة من الفركتوز، على سبيل المثال في التفّاح أو البرتقال، لا تسبّب أيّ ضررٍ لأنها تُستهلك وتُعالج مع الألياف التي تحمي من تأثيرات الفركتوز عن طريق إبطاء امتصاصها، عوضًا عن أنها تجعلنا نشعر بالشبع والامتلاء.
يحتوي عصير البرتقال على كمية كبيرة من سكر الفركتوز التي قد تؤدي لمشاكل في الكبد والسمنة ومرض السكري2 وزيادة الدهون في الجسم
وبالتالي، يمكننا القول أنّ جميع عصائر الفاكهة التي نشربها تحتوي على كمّيات أكبر من السكّر المضرّ بالصحّة، مثلها مثل جميع المشروبات السكّرية، وذلك لانعدام الألياف فيها. ويقول بعض الخبراء أنّ شرب الفركتوز في شكل سائل يوقف الكبد عن القيام بعمله بشكل صحيح، الأمر الذي قد يؤدّي إلى مجموعة من المشاكل الصحية، بما في ذلك السمنة والنوع الثاني من مرض السكري وزيادة إنتاج الدهون في الجسم. فيما تشير دراسات أخرى إلى أن الفركتوز يخدع أدمغتنا بالتفكير بأنّنا ما زلنا جائعين فنتوق للمزيد من الطعام، وقد نصل إلى مرحلة الشراهة أو النهّم في تناوله.
فكيف أصبح عصير البرتقال وغيره من الفواكه ضمن قائمة المشروبات الصحية التي يبدأ بها الأفراد نهارهم مع وجبات الإفطار أو يلجؤون إليها في أوقات نزلات البرد والإنفلونزا والهزَل أو الخمول الجسدي وغيرها من الحالات؟
الرأسمالية تتحكّم في طعامنا “الصحّي”
قبل قرنٍ من الآن، تواصلت شركة Beech-Nut الأمريكية مع إدوارد بيرنيز، ابن أخت سيغموند فرويد الذي أخذ بيد نظريات خاله من صفحات الكتب واستخدمها بهدف إقناع الناس بشراء المنتجات والأفكار وما إلى ذلك. أرادت الشركة من بيرنيز أن يساعدهم في التسويق الحم المقدّد الذي يقومون بإنتاجه.
استعان بيرنيز بصديقه الطبيب الذي قام مع مجموعة من الأطباء بالتأكيد على “دراسة” تشجّع المجتمع الأمريكي بتناول وجبة أدسم من الفطور تحتوي على اللحم المقدّد والبيض لما فيها من فوائد صحية وطبّية كثيرة. وبالفعل، انتشرت “الدراسة” في الصحف والمجلّات الكبرى في ذلك الوقت، ليقبل الأفراد على الفكرة بانفتاحٍ كبيرٍ أدّى إلى زيادة مبيعات الشركة وارتفاع أرباحها بشكلٍ محلوظٍ خلال مدّة قصيرة جدًا.
الكثير ممّا نظنّه طعامًا أو مشروبًا صحّيًا هو بالأصل نتيجة حملاتٍ دعائية استغلت الحشود غير العقلانية والمدفوعة بالمشاعر والعواطف وتلاعبت بعقولهم بالاستعانة بالكثير من نظريات علم النفس
والأمر تمامه حصل مع عصير البرتقال. إذ تعود القصة أيضًا إلى أوائل القرن العشرين حين قام عددٌ من أصحاب مزارع البرتقال في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بحملاتٍ تسويقية واسعة النطاق بالاستعانة بعددٍ من الأطباء والمشاهير الذين روّجوا للفوائد الصحية والطبّية لعصير البرتقال. ولم يلبث الوقت طويلًا حتى بدأت مبيعات العصائر تزداد بشكلٍ سريعٍ ومثيرٍ للتعجّب بحيث أنّ الحملة لم تكتفِ بسكّان كاليفورنيا، بل امتدت إلى جميع ولايات أمريكا ومن ثمّ إلى العالم أجمع.
ولو بحثنا في المصادر المختلفة، لوجدنا أنّ الكثير ممّا نظنّه طعامًا أو مشروبًا صحّيًا هو بالأصل نتيجة حملاتٍ دعائية استغلت الحشود غير العقلانية والمدفوعة بالمشاعر والعواطف وتلاعبت بعقولهم بالاستعانة بالكثير من نظريات علم النفس التي تعرف بدورها كيف يمكن استغلال الجماهير في التسويق والدعاية والاستهلاك وغيرها الكثير من الأمور.
كيف تخدعنا تلك الإعلانات؟
الأمر بسيطٌ للغاية. تخدعنا الإعلانات باستغلالها لعواطفنا ومشاعرنا. ففي كتابه “الإعلان اللاوعي: كيف يعزّز علم الأعصاب التسويق“، أشار دوغلاس برايت إلى أن الأفراد لا يفكرون للوصول إلى حلول وقرارات منطقية، وإنما يفضلون الشعور على العقل، فالعواطف عندهم هي الركيزة ولا يرون فيها أيّ عائق في طريق قراراتهم.
يدعم استغلال المشاعر هذا ظهور مَن يتّصف بالمصداقية والموثوقية، كالأطّباء على سبيل المثال، لدفع الأفراد لشراء المنتَج والوثوق به وبخواصّه الصحية والطبية. ويكمن السبب هنا في أنّ الأفراد عادةً لا يشكّكون عادةً بمن يمتلك السلطة بمختلف أشكالها، بما فيها الطبّية. تخبرنا “تجربة مستشفى هوفلنج” بذلك وتؤكد عليه.
باستغلالها لعواطفنا ومشاعرنا، تستعين الإعلانات بطبيبٍ ما، غالبًا ما يكون حسن المظهر والشخصية، ليقوم بالتأكيد على أهمية المنتج وفوائده الصحية والطبية ونتائجه الفعّالة جدًا
ففي عام 1966، أجرى الطبيب النفسي تشارلز هوفلينغ تجربة ميدانية أراد من خلالها قياس قدرة الأفراد على طاعة من يمتلك السلطة في إطار مستشفىً طبيعيّ، حيث تم إرسال الأوامر لعدد من الممرضات من قبل أطباء يعملون بالمستشفى بإعطاء المرضى جرعى زائدة من عقار “وهميّ”، مع علمهنّ بأنّ الأمر غير مصرّح لا سيّما وأنّ الأوامر جاءت عبر الهاتف. وجد هوفلنج أنّ 21 من أصل 22 ممرضة قامت بإعطاء المريض جرعةً زائدة من الدواء، لإحساسها بمصداقية الطبيب ووثوقها بسلطته.
وهذا ما تقوم به الإعلانات والدعايات التي تروّج للكثير من أشكال الطعام الصحي. فهي تستعين بطبيبٍ ما، غالبًا ما يكون حسن المظهر والشخصية، ليقوم بالتأكيد على أهمية المنتج وفوائده الصحية والطبية ونتائجه الفعّالة جدًا، تمامًا كما حدث مع اللحم المقدّد والبرتقال اللذين تحدثنا عنهما مسبقًا. فهي تعلم مسبقًا أنّ الأفراد يثقون بالطبيب فيما يتعلّق بصحّتهم ومرضهم، وظهور طبيبٍ ما في الإعلان يعني مزيدًا من مصداقيته الوهمية التي يعتقد بها الناس. ولا بدّ أنك تدرك جيّدًا كم أنّ الأمر ناجحٌ للغاية وفعّال.