“أسعار النفط تنخفض، هذا أمر عظيم، يشبه أكبر خفض ضريبي لأمريكا والعالم، استمتعوا بالانخفاض الذي وصل من 82 دولارًا إلى 54 دولارًا، شكرًا للمملكة العربية السعودية ولتخفض الأسعار أكثر”، بهذه الكلمات أغدق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعض الثناء على المملكة العربية السعودية خلال عطلة عيد الشكر، على خلفية انخفاض أسعار النفط، فهل تستحق المملكة كل هذا الثناء؟
هل كانت السعودية مسؤولة فعلاً عن الهبوط الأخير في أسعار النفط العالمية؟
منذ أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول، خسرت أسعار عقود النفط الآجلة نحو ثلث قيمتها تقريبًا، ووفقًا لبيانات تعود لوكالة “بلومبيرغ”، وصل سعر برميل خام برنت إلى نحو 59 دولارًا في سوق العقود الآجلة، ليسجل بذلك انخفاضًا بنسبة 32% تقريبًا عند مقارنته بسعره الذي بلغ 86.29 دولار في الـ4 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الذي يمثل أعلى مستوى وصل إليه سعر النفط خلال هذا العام.
في الفترة بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين، رفعت المملكة العربية السعودية إنتاجها من النفط بواقع 127 ألف برميل يوميًا، وفقا لبيانات منظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك”
وخلال تعاملات نهاية الأسبوع تراجعت أسعار النفط في تداولات الجمعة بسبب القلق من زيادة المعروض المفرطة في الأسواق الناشئة في ظل رؤية غير واضحة لنمو الاقتصاد العالمي، إذ انخفضت العقود الآجلة لخام غرب تكساس تسليم يناير بنسبة 2.6% إلى مستوى 53.21 دولار للبرميل لتتداول قرب أدنى مستوياتها في أكتوبر 2017، متجهة لتسجيل أطول سلسلة خسائر أسبوعية منذ أغسطس.
السبب الرئيسي وراء الانخفاض الأخير لأسعار النفط يعود إلى زيادة السعودية – وبعض الدول الأخرى – إنتاجها من النفط، ففي الفترة بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين، رفعت المملكة العربية السعودية إنتاجها من النفط بواقع 127 ألف برميل يوميًا، وفقًا لبيانات منظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك”.
Oil prices getting lower. Great! Like a big Tax Cut for America and the World. Enjoy! $54, was just $82. Thank you to Saudi Arabia, but let’s go lower!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) November 21, 2018
كان إنتاج السعودية الأخير على الأرجح استجابة لقلق الرئيس ترامب من ارتفاع أسعار النفط، فضلاً عن ضغوطه التي يمارسها على المملكة، ففي نهاية يونيو/حزيران الماضي، غرد ترامب على “تويتر” كاشفًا فحوى اتصال هاتفي بينه وبين الملك سلمان بن عبد العزيز، طلب خلاله زيادة إنتاج السعودية من النفط لتعويض النقص الناجم عن الاضطراب والعجز في إنتاج إيران وفنزويلا، ثم ختم قائلاً إن الملك سلمان وافق على ذلك.
وهنا يكمن واحد من الأسباب التي تسببت في انخفاض الأسعار، وهو أن ارتفاع أسعار النفط ينتج عنه ضرائب إضافية على المستهلكين الذين سيشاركون في الانتخابات النصفية للكونغرس، وقد ركز ترامب على أسعار النفط لأن الناخب الأمريكي سيهتم بارتفاع سعر الوقود الذي يدفعه من جيبه أكثر من اهتمامه بإيران وضرورة الضغط عليها.
رغم كثرة الانتقادات التي انهالت على قرار الرئيس ترامب عدم معاقبة الرياض فيما يتعلق بقضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ورغم إقراره بترجيح احتمال أن يكون ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على دراية بما جرى، يواصل ترامب الدفاع عن قراره والدفع بأهمية التحالف بين بلاده والرياض، ليس على المستوى الأمني والإستراتيجي وحسب، بل حتى على المستوى الاقتصادي.
مقتل خاشقجي منح الكثير من الفرص لترامب كرجل أعمال، سواء على مستوى أعماله الشخصية أو مصالح بلاده
وعلى الأرجح، فإن مقتل خاشقجي منح الكثير من الفرص لترامب كرجل أعمال، سواء على مستوى أعماله الشخصية أم مصالح بلاده، ولكنه عالق بين مصالحه الشخصية التي قد تجعل حساباته المصرفية متخمة بالأموال خاصة مع زبائن وشركاء أعمال أثرياء كالمملكة، والضغوط الداخلية لاتخاذ موقف متشدد مع السعوديين كردة فعل على مقتل خاشقجي.
ومن ناحية أخرى، فإن ترامب أمامه فرصة محتملة لتأمين مليارات الدولارات لبلاده وسط تلك الأحداث لتقوية صورته الداخلية، وربما يفسر هذا الأمر تصريحاته المتأرجحة بين الفينة والأخرى، فتارة يدعم السعوديين في موقفهم، وبعد فترة يعود للضغط والهجوم عليهم، في لعبة يبدو أنها ستستمر طالما أنها ناجحة، وطالما أن المملكة تلبي رغبات ترامب، فتارة تدفع المليارات مقابل السلاح، وتارة أخرى تزيد إنتاجها من النفط وفقًا لأوامره.
زيادة الإنتاج لمواجهة إيران
لم تكن المملكة البلد الوحيد الذي أغرق السوق بالنفط، فهناك دول أخرى رفعت إنتاجها، ما أدى إلى هبوط أسعار النفط عالميًا فمثلاً، في الفترة بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين رفعت الإمارات إنتاجها إلى 142 ألف برميل، وكذلك فعلت غيرهما من الدول، وهو ما ساهم في تعويض ما تنتجه إيران.
هنا تتضح الأمور أكثر، فإن فرض عقوبات على إيران يعني عدم السماح لها بتصدير النفط، ولسد هذا العجز فعلى الدول الحليفة لواشنطن – وفي مقدمتها السعودية والإمارات – أن تزيد إنتاجها للحفاظ على انخفاض الأسعار، خصوصًا مع دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ مطلع الشهر الحاليّ.
ترامب وبوتين ومحمد بن سلمان هم من سيحددون مسار أسعار الخام في العام المقبل وما بعده، عبر تصريحاتهم وتغريداتهم، لكن كل واحد منهم يريد شيئا مختلفا عن الآخر
وبحسب تقرير لوكالة “بلومبيرغ“، فإن ترامب وبوتين ومحمد بن سلمان – وهم قادة لثلاث أكبر دول منتجة للنفط في العالم – من سيحددون مسار أسعار الخام في العام المقبل وما بعده، عبر تصريحاتهم وتغريداتهم، لكن كل واحد منهم يريد شيئًا مختلفًا عن الآخر.
ورغم هذا اتفقت الدول الثلاثة على زيادة الإنتاج، فروسيا – وهي ليست عضوًا في أوبك – زادت إنتاجها بمقدار 260 ألف برميل يوميًا، خلال الربع الأول والثاني من هذه السنة، كما قفز خلال المدة نفسها إنتاج النفط الأمريكي بمعدل 850 ألف برميل في اليوم، وقد ساعد هذا الدعم على تعويض النقص الذي خلفه انقطاع إيران عن تزويد السوق بنحو 156 ألف برميل يوميًا خلال الفترة نفسها.
وتعاني الجمهورية الإسلامية من العقوبات التي فرضتها واشنطن على قطاعها النفطي، وبشكل عام انخفض إنتاج إيران بأكثر من نصف مليون برميل يوميًا منذ الربع الثاني، ومع ذلك، أعلنت الولايات المتحدة عن عقوبات – غير التي دخلت حيز التنفيذ في أوائل نوفمبر الحاليّ – في مايو الماضي لمنح مشتريي النفط الوقت لتغيير الموردين.
ومثل أي مكان آخر في العالم، يختلف إنتاج النفط باختلاف السعر، فعندما بلغ النفط أدنى مستوى له تحت 30 دولارًا للبرميل في أوائل عام 2016، توقف بعض المنتجين الأمريكيين عن الحفر لأنه يكلفهم أكثر من بيعه، لكن مع ارتفاع الأسعار عاودوا الإنتاج مرة أخرى، حتى أصبحت الولايات المتحدة تسبح في النفط مرة أخرى، فبحسب ما جاء في تقرير حديث صادر عن شركة الوساطة المالية، يبلغ إنتاج الولايات المتحدة من النفط “أكثر من ضعف المستويات قبل 10 سنوات”.
معدل أسعرا النفط النفط خلال هذا العام – المصدر: CNBC
وبينما تكافح منظمة “أوبك” لإيجاد هدف مشترك، تهيمن الولايات المتحدة وروسيا والسعودية على الإمدادات العالمية من النفط، حيث تنتج مجتمعة ما يفوق إنتاج أعضاء المنظمة، فإنتاج روسيا يبلغ 12.3 مليون برميل يوميًا، وإنتاج السعودية 12.2 مليون، في حين يصل إنتاج الولايات المتحدة 15.2 مليون.
وقد دعت السعودية وروسيا “أوبك” والمنتجين خارجها إلى تخفيف القيود المفروضة على الإنتاج والمطبقة منذ بداية العام 2017، كما أنهما رفعتا إنتاجهما إلى مستويات قياسية أو قريبة منها، في ذات الوقت الذي ارتفع فيه الإنتاج الأمريكي بشكل غير متوقع.
كيف سيتأثر الجميع بانخفاض أسعار النفط؟
يمثل انخفاض أسعار النفط الخام مشكلة كبيرة للسعودية التي لا تستطيع أن تتحكم في تلك الأسعار وحدها، فالأداء الضعيف والمخيب للآمال للاقتصاد السعودي مع استمرار الاستنزاف في اليمن، يستدعي ارتفاع أسعار النفط لتمويل خطط الإصلاح الاقتصادي التي يقودها ولي العهد.
كان ابن سلمان يأمل من طرح “أرامكو” جمع نحو 100 مليار دولار تُمكّنه من تمويل رؤية 2030 مشروعه الأثير وإرثه الذي لا يكف عن الحديث عنه، لكن تعثر طرح أسهم “أرامكو” بالفعل، رأس حربة رؤية ابن سلمان الاقتصادية الشهيرة إعلاميًا، وبدأ البحث عن بدائل لتمويل خطط الإصلاح الاقتصادي ورؤية 2030.
وبالنسبة لروسيا، فإن الهبوط في أسعار النفط العالمية من المرجح أن يضع المزيد من الضغوط على الاقتصاد في تلك البلاد، حيث تشكل عائدات النفط نحو 45% من ميزانية روسيا، وكانت خطط الإنفاق الحكومي تفترض أن الأسعار ستبقى في حدود 100 دولار للبرميل، وإذا استمر النفط في الانخفاض أكثر من ذلك، فإن روسيا ستضطر لأن تسحب من 74 مليار دولارًا هي احتياطياتها من النقد الأجنبي، أو تقليص الإنفاق المخطط له.
أما بالنسبة لتراجع أسعار النفط في الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن يكون له آثار أكثر تنوعًا، فلكثير من الناس، ستقدم الأسعار المنخفضة دفعة اقتصادية لطيفة، فانخفاض أسعار النفط يعني انخفاض أسعار البنزين، وهو ما يعني السماح للأسر باستخدام تلك الأموال للإنفاق على أمور أخرى، من ناحية أخرى، فإن الولايات المنتجة للنفط مثل تكساس ونورث داكوتا من المرجح أن تشهد انخفاضًا في الإيرادات والنشاط الاقتصادي.
ويمكن لانخفاض الأسعار أيضًا أن يحفز الناس على البدء في استخدام المزيد من النفط، مثال على ذلك: في السنوات الأخيرة، تسببت أسعار البنزين المرتفعة في شراء الأمريكيين لسيارات أصغر حجمًا وأكثر كفاءة، لكن إذا انخفضت أسعار البنزين، فإن سيارات الدفع الرباعي الكبيرة يمكنها أن تعود من جديد.
كثير من صناع السياسة سيستخدمون انخفاض أسعار النفط على اعتبار أنه أمر مستمر للأبد، وكذريعة لتقليص تدابير الكفاءة أو البحث في بدائل الطاقة
وفي إيران، أحد مشكلاتها الكبيرة أنها تحتاج أن تكون أسعار النفط مرتفعة لمعادلة ميزانيتها، خاصة بعد أن صعّبت العقوبات الأمريكية من تصديرها للنفط الخام، وإذا واصلت أسعار النفط الهبوط، فإن الحكومة الإيرانية قد تحتاج لتعويض الإيرادات في قطاعات أخرى، أو حتى في قطاع الطاقة المحلي، عبر تقليص ميزانية دعم الوقود المحلية، وهو ما يضع اقتصاد البلاد أمام حالة من عدم الاستقرار.
وفي صحيفة “فاينانشال تايمز”، كتب خبير الطاقة” مايكل ليفي عن كيفية استفادة الولايات المتحدة ودول أخرى من انخفاض أسعار النفط في إجراء إصلاحات لازمة في سياسات الطاقة، مثل إنهاء دعم الوقود الحفري، من أجل الإعداد لذلك اليوم الذي سترتفع فيه الأسعار حتمًا مرة أخرى، لكن هذا في الغالب لن يحدث، فكثير من صناع السياسة سيستخدمون انخفاض أسعار النفط على اعتبار أنه أمر مستمر للأبد، وسيستخدمونه كذريعة لتقليص تدابير الكفاءة أو البحث في بدائل الطاقة.
وإذا ما تحققت هذه المفارقة، فمن السهل أن نشير إلى ترامب نفسه على أنه جزء متورط في انهيار أسعار النفط، فلطالما كان دور “أوبك” في موازنة سوق النفط نقطة خلاف بين ترامب ومؤيديه في مجال صناعة الطاقة، وفي حين يتفاخر الرئيس الأمريكي في تغريداته بانخفاض سعر النفط، فإن ذلك قد يكون علامة على التراجع الاقتصادي.