شن جيش الاحتلال في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري عملية عسكرية تستهدف مدينة جباليا ومخيمها، استخدم خلالها قوة غاشمة جدًّا في مهاجمة المخيم منذ اللحظات الأولى، مرفقًا معها خرائط لإخلاء سكان مخيم جباليا، تبعها بتوسعة الخرائط لتطال غالبية المناطق السكنية في شمالي قطاع غزة.
شمل الهجوم الأعنف على شمال قطاع غزة من مايو/ أيار المنصرم تهديدًا مباشرًا من جيش الاحتلال للمستشفيات الثلاث الوحيدة، التي لا تزال تعمل في شمالي القطاع بغرض إخلائها من طواقمها الطبية والمصابين وإغلاق أبوابها، إضافة إلى فرض حصار شامل يمنع وفقه كل أشكال الوقود والطعام من الوصول إلى مناطق الشمال.
أعاد الهجوم الإسرائيلي، الذي جاء قبيل الذكرى الأولى لـ”طوفان الأقصى”، إحياء الكثير من السيناريوهات حول خطط جيش الاحتلال لتحويل منطقة شمالي قطاع غزة إلى منطقة عازلة خالية من السكان، لم يتوانَ في خلال عام من حرب الإبادة عن استخدام شتى صنوف القتل والتطهير العرقي لتهجير السكان قسريًا من شمالي القطاع إلى جنوبيه.
ما الذي يريده الاحتلال من هجومه الكبير على شمالي قطاع غزة؟ ففي وقت سبق أن أعلن فيه الاحتلال مرات عدة أن مرحلة العمليات العسكرية الكبرى في قطاع غزة قد انتهت، وصولًا إلى إعلان القطاع جبهة قتال “ثانوية” مع تركيز كل الجهد القتالي شمال فلسطين المحتلة، إلا أن الواقع مغاير تمامًا، فزخم وحجم العملية الحالية في شمالي القطاع لا يقل حجمًا ولا إجرامًا عن أكبر العمليات العسكرية في أشهر الحرب الأولى، والأمر سواء في الأهداف الكامنة خلف هذا التحرك.
عرض هذا المنشور على Instagram
ثقل وحضور تاريخي
يتمتع مخيم جباليا، مخيم اللاجئين الأكبر في قطاع غزة، بثقل تاريخي، يجعل للمخيم دورًا محوريًا في معادلات القيادة والتأثير، ليس في شمالي قطاع غزة فحسب، بل على مستوى محافظات القطاع عمومًا، إذ إن معادلة التأثير لجباليا تعود لحجم مساهمة وحضور جباليا ومخيمها في أبرز المحطات النضالية للشعب الفلسطيني، والانخراط النوعي لمخيم جباليا في كل محطة فيهم.
شكّلت جباليا ومخيمها حاضنة لأولى مجموعات الفدائيين التي بادرت إلى تجميع سلاح جيش التحرير الفلسطيني والقوات العربية التي انسحبت من القطاع، لتبدأ معهم بوادر الكفاح المسلح الفلسطيني، عبر عمليات إطلاق النار على دوريات الاحتلال وإلقاء القنابل اليدوية من أزقة المخيم وشوارعها على سيارات ضباط الاحتلال والإدارة المدنية.
منذ الأيام الأولى للكفاح المسلح، حاول الاحتلال مرات متعددة إعادة هندسة المخيم جغرافيًا وديموغرافيًا ارتباطًا بمعادلات المواجهة المستمرة، وعليه خضع مخيم جباليا لمحاولات تفكيك البنية السكانية، وتهجير أجزاء من سكانه إلى أحياء جديدة، مثل مشروع بيت لاهيا ومنطقتي الجرن والنزلة، وهدم المئات من المنازل في المخيم، تحت دعاوى التوسيع وفتح الشوارع بما يسمح لدوريات الاحتلال بالتحرك بأريحية داخل أزقة المخيم.
شكّل المخيم الأكثر كثافة في العالم، الذي يقطنه وفقًا للأونروا” ما يقارب 116 ألفًا و11 نسمة يتوزعون على مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلومتر مربع، شرارة التفجير الأولى لانتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، عندما دعس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين في حاجز إيريز، ما أسفر عن استشهاد 4 عمال وجرح 7 آخرين.
وتحولت جنازة الشهداء إلى مظاهرات كبيرة سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة والضفة الغربية، واستمر المخيم على مدار سنوات الانتفاضة في الحفاظ على الزخم والاشتعال الدائم.
عرض هذا المنشور على Instagram
مع اندلاع انتفاضة الأقصى قدّم المخيم مساهماته النوعية منذ اليوم لها، إذ قدمت جباليا أولى العمليات الاستشهادية في الانتفاضة، وأبرزها عمليات اقتحام المستوطنات، مثل عمليات اقتحام مستوطنتَي دوغيت وإيلي سيناي على الحدود الشمالية لقطاع غزة، إضافة إلى الدور البارز في أولى عمليات إطلاق النماذج الأولى للصواريخ تجاه مستوطنة سديروت.
خاض مخيم جباليا عدة مواجهات مع محاولات جيش الاحتلال المتكررة لاجتياح المخيم، كان أكبرها في فترة 29 سبتمبر/ أيلول-16 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 في اجتياح “أيام الغضب”، حسب تسمية المقاومة، التي أرادها الاحتلال “أيام التوبة”، نجحت خلاله المقاومة في رفع كلفة محاولة الاحتلال اجتياح المخيم، وأوقعت خسائر كبيرة في القوات المهاجمة، وثبّتت نموذجًا من أكثر نماذج الالتحام والمواجهة صلابة في انتفاضة الأقصى، وقد شهد الاجتياح بدايةً الظهور الواضح للناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، في المؤتمرات الصحفية التي عقدتها الكتائب لاستعراض حصاد المقاومة خلال أيام الاجتياح.
على مدار سنوات، شكّل المخيم أحد أهم عناوين المواجهة، وقد كان له دور رئيسي في كل جولات الاشتباك والمواجهة التي خاضتها المقاومة في قطاع غزة تصديًا لموجات العدوان الإسرائيلية في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021.
شكّل مخيم جباليا مركز ثقل رئيسيًا وأساسيًا هامًّا ونوعيًا لكل فصائل العمل الوطني والإسلامي، وقد تجلى هذا بوضوح في حجم العمليات المشتركة التي انطلقت من المخيم، وقد تعمّد بدرجة أكبر في عمليات الاغتيال التي ارتقى فيها قادة من مختلف الفصائل في المخيم، كان أبرزها عملية اغتيال القيادي في كتائب شهداء الأقصى حسن المدهون، برفقة القيادي في كتائب القسام فوزي أبو القرع، في عملية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
عرض هذا المنشور على Instagram
“طوفان الأقصى”: مركزية جباليا في معادلات صمود شمالي قطاع غزة
مع استعار حرب الإبادة بحقّ الشعب الفلسطيني، حدد جيش الاحتلال شمالي قطاع غزة بوصفه الهدف الأول والأكبر للمرحلة الأولى من العدوان، وهو تحويل شمالي القطاع إلى منطقة عازلة، تشكّل فاصلًا جغرافيًا خاليًا من السكان، ما بين الكتلة البشرية في قطاع غزة ومستوطنات غلاف غزة.
مثّل مخيم جباليا، بوصفه مركز الثقل القيادي والمعنوي والكتلة السكانية الأكثر تماسكًا وكثافة، هدفًا دائمًا للقصف والدمار والمجازر، التي شملت مسح مربعات سكانية كاملة في المخيم بمن فيها من السكان أدى إلى مسح عائلات بأسرها من السجل المدني، ضمن أكبر المجازر منذ حرب الإبادة.
خلال حرب الإبادة المستمرة، شنّ الاحتلال 3 عمليات عسكرية كبرى استهدفت المخيم، كان أولها في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وثانيها في 11 مايو/ أيار 2024، وثالثها في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، هدفت جميعها إلى تحييد المخيم من مشهد المواجهة، إضافة إلى إخراجه من معادلات الصمود والثبات.
خلال جولات العدوان، تعرّضت المنشآت الرئيسية ومقومات الحياة في جباليا وأحيائها إلى الاستهداف والضرب، فقصف الاحتلال آبار المياه والمخابز، كما حاصر ودمّر المستشفيات الثلاث الفاعلة في شمالي قطاع، ومراكز الرعاية الأولية والخدمات الصحية.
عرض هذا المنشور على Instagram
تعرّض المخيم، كما تعرّض كل شمالي قطاع غزة، إلى حرب التجويع والقتل البطيء، كما لم تتوقف الغارات التي تستهدف البيوت والمنازل والعائلات فيه يومًا على مدار عام، فيما لم يتوانَ المخيم وأهله عن إعادة لملمة أوراقهم وترتيب أوضاعهم وتقديم أرقى وأعظم نموذج تكافل داخلي، جعل من تماسك الكتلة السكانية في المخيم أمام حجم الهجوم والضربات والتجويع عامل صمود هامّ.
شكّل نموذج مخيم جباليا عامل تجميع هامّ وصمام أمان رئيسي لمناطق شمالي قطاع غزة، إذ مثّل قِبلة النازحين من بيت حانون وبيت لاهيا، في وقت العمليات العسكرية في المدن الحدودية، ليعودوا أدراجهم إلى مناطق سكنهم فور انسحاب الجيش، وهو ما جعل من وجود مخيم جباليا وتماسكه بوابة تماسك لكل مدن وأحياء شمالي القطاع.
على المقلب الآخر، فإن البيئة المتماسكة، وحجم البنية التحتية للقوى والفصائل، سمحت لأن يشكّل مخيم جباليا مركزًا رئيسيًا لقيادة العمل الوطني، وبوابة محورية في إفشال خطط الاحتلال، خاصة إجهاض كل محاولة لتخليق نموذج متعاون، كان يفترض أن يكون شمالي قطاع غزة محطته الأولى.
كان مخيم جباليا محطة الانطلاق الرئيسية في شمالي قطاع غزة لنشاط لجان الحماية الشعبية، التي تولت تأمين قوافل المساعدات، ومنعت محاولات الاحتلال إحلال الفوضى في شمالي القطاع مدخلًا لإحلال نظام بديل تشكّل عصابات البلطجة عماده الرئيسي، كما شكّل المخيم الأرضية الصلبة التي يستند إليها كل أحياء شمالي قطاع غزة لإعادة مظاهر الحياة والثبات على الأرض والإفشال المستمرة لمحاولات تحويل الشمال إلى منطقة خالية من السكان.
ما بين الفقاعات الإنسانية و”خطة الجنرالات”
حلَّ العدوان على مخيم جباليا بعد أسابيع من الحرب النفسية التي شنّها الإعلام العبري على أهالي شمالي قطاع غزة، شملت الحديث عن سيناريوهات وخطط متعددة يعدّها الاحتلال بمستوياته السياسية والعسكرية والأمنية، بهدف الإجهاز على الحضور السكاني لشمالي القطاع.
كان مخيم جباليا الحاضر الرئيسي في كل السيناريوهات التي شملت اقتراح شتى صنوف القتل والدمار والقتل والتجويع والتهجير، للقضاء على مشهد الصمود في شمالي قطاع غزة، وإنهاء النموذج الأول لإفشال أهداف الاحتلال، المتمثل بصمود أكثر من نصف مليون فلسطيني في شمالي القطاع في وجه كل محاولات القتل والدمار.
ترتكز “خطة الجنرالات”، التي أعدّها جنرالات سابقون في الجيش الإسرائيلي، من أبرزهم رئيس مجلس الأمن القومي سابقًا غيورا آيلاند، وقُدّمت إلى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وهيئة أركان الجيش، على ضرورة القضاء الكامل على أي وجود للمقاومة في شمالي قطاع غزة، من خلال إفراغ المنطقة من سكانها تمامًا، وتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة، ومنع دخول المساعدات الإنسانية إليها، وعدَّ كل من يتبقى في داخلها جزءًا من المقاومة، والعمل على تصفيته.
عرض هذا المنشور على Instagram
على المقلب الآخر، تستهدف خطة “الفقاعات الإنسانية”، التي قدّمها وزير الحرب الإسرائيلي يؤآف غالانت، الهادفة إلى خلق نماذج مصغّرة من الحكم المدني المتعاون مع الاحتلال، إنجاز أول نموذج من هذه الخطة في مناطق شمالي قطاع غزة، تستهدف منطقة العطاطرة في شمالي بيت لاهيا، وتتالي النماذج في المناطق ذات الأغلبية العشائرية، لتنفيذ هذا النموذج الذي لم يكتب له أن يرى النور أبدًا.
في شمالي قطاع غزة أيضًا، اقترح وزير المالية والوزير في وزارة الحرب في حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، أن يتولى الجيش مسؤولية توزيع المساعدات في شمالي قطاع غزة، وهو طرح أيّده بنيامين نتنياهو، الذي بات على اقتناع بأن من يتولى مسؤولية المساعدات يستطيع السيطرة على السكان.
تستوجب كل هذه الأفكار، كل هذه السيناريوهات التي تستهدف شمالي قطاع غزة كمادة رئيسية، كخطوة أولى للتخلص من مركز التصليب والتجميع، من مركز القيادة والتثبيت، وعنوان المواجهة الذي يشدّ عضد بقية مناطق شمالي قطاع غزة، حيث يتطلب القضاء على مخيم جباليا وتحييده من دائرة الفعل والتأثير القضاء عليه كنموذج، والقضاء عليه كواقع، لتسهيل تحويل هذه الأفكار أو إحداها إلى واقع وفق تقديرات الاحتلال.
خلاصة
يعي الاحتلال تمامًا أهمية النموذج، ومدى مركزية اختراق الحاجز النفسي في تحقيق أهدافه لدى سكان قطاع غزة الذي لم ينفكوا من الرهان على جدوى المقاومة وقدرتها على الصمود، وبالتالي إن القضاء على الرمزيات الفلسطينية في قطاع غزة، وتحييد نماذج الصمود والتكافل، يقع ضمن صلب أهداف العدوان الإسرائيلي في كل المراحل، ويشكّل عنصرًا أساسيًا في الاستراتيجية الحالية.
يهدف الاحتلال إلى تحويل ورقة الاحتفاظ بالأسرى إلى عامل ضغط كبير على المقاومة، وعكس معادلة الضغط على الاحتلال، بحيث يتحول كل يوم من أيام التحفظ الفلسطيني على أسرى الاحتلال إلى أيام من النقمة والعدوان المستمر على قطاع غزة، وهو ما يعمل الاحتلال على تعزيزه كفكرة في عقول أبناء القطاع الذين يُدفعون إلى النزوح مرات ومرات.
يريد الاحتلال أن يضاعف الضغط على قيادة المقاومة، بتصعيد هذه النقمة، وأن يحول معادلات النزوح المستمرة إلى ورقة ابتزاز مستمرة لتقليم وتحجيم أدوات المواجهة لدى المقاومة، ويظهر هذا جليًّا في تهجير كل منطقة تخرج منها صواريخ تستهدف مستوطنات ومغتصبات الاحتلال، لتحويل الصاروخ ومطلقه إلى مصدر لاستمرار هذه العذابات.
على المقلب الآخر، إن مشهد الصمود في مخيم جباليا يتعدى ويفوق كل قدرة على التخيُّل، ويحمل في مضامينه إصرارًا على التمسك بالأرض والمواجهة غير مرتبط بالبنية الفصائلية بالضرورة، بقدر ما هو مرتبط بالثبات المبدئي لأهالي مخيم جباليا والمسؤولية الذاتية والجماعية التي يتمتعون بها وهم يدركون محورية دور ومكانة مخيمهم.
وبالتالي، فإن ملامح الصمود السائدة، وحالة الرفض الجمعي لخيار النزوح، والتبني لفكرة الثبات التي يعكسها صلابة مستشفيات شمالي قطاع غزة، ورفض إخلائها والاستمرار في عملها رغم كل تهديدات الاحتلال، وداب صحفيي الشمال، ومثابرة طواقم الإسعاف والدفاع المدني، ترسم جميعًا نموذجًا حول أفق نجاح الخطة الإسرائيلية القادمة الهادفة إلى تحييد مخيم جباليا وتصفيته.
لا يمكن الجزم بأن الاندفاعة الإجرامية الإسرائيلية ستصطدم بحائط الصدّ الشعبي وستتراجع سريعًا، بل سيعمد الاحتلال إلى إطالة أمد العملية، والعمل على التفكيك التدريجي لمربّعات الصمود في مخيم جباليا وعبره في شمالي قطاع غزة، إلا أن عوامل المواجهة الرئيسية سترتبط ارتباطًا مباشرًا في مدى دعم صمود أهالي شمالي قطاع غزة، ومدى التركيز الإعلامي على رفض السماح للاحتلال باستثمار الانشغال العالمي بالتصعيد على الجبهة اللبنانية في تحقيق وقائع على الأرض تقضي بإفراغ شمالي قطاع غزة من سكانه، أو تحييد مقومات الصمود والمواجهة فيه وتهيئته لتمرير مخططات الاحتلال.