لا يُنتظر الهدوء على حدود الطرفين، بعد ضم روسيا القرم لأراضيها واستمرارها في دعم حركات التمرد الانفصالية في 3 ولايات أوكرانية.
وأوردت وكالات الأنباء الإقليمية والدولية مساء 25 من نوفمبر/تشرين الثاني، أنباءً عن حدوث مناوشات بين القوات البحرية الروسية والأوكرانية في البحر الأسود.
ووفقًا للرواية الروسية، فإن زوارق دورية روسية احتجزت 3 سفن تابعة للبحرية الأوكرانية في البحر الأسود قرب القرم، مستخدمةً الأسلحة لإجبارها على التوقف، وأسند جهاز أمن الاتحاد الروسي تحركه على هذا النحو إلى ذريعة “اقتحام الزوارق الأوكرانية المياه الإقليمية الروسية وتجاهلها التحذيرات بضرورة انسحابها”.
من جانبه، نفى الجانب الأوكراني الرواية الروسية، مشيرًا إلى أن البحرية الروسية “أقدمت على مهاجمة سفن أوكرانية غادرت المياه الإقليمية البالغة 12 ميلًا، وقد تراجعت السفن باتجاه ميناء أوديسا المُطل على البحر الأسود، غير أن روسيا تحتجز إلى الآن 3 سفن أوكرانية”.
بالتمعن في سياق تصريح وزارة الخارجية، يُلاحظ أنها تتبنى الرواية الأوكرانية في تعرضها لهجومٍ من الزوارق الروسية
وفي حال ثبوت عدم صحة الرواية الروسية، وصحة الرواية الأوكرانية التي تدعي اعتداء الزوارق الروسية على سفنها، فقد يؤدي ذلك إلى تصعيد أوكراني ضدها، ولو دبلوماسي على الأقل.
وفي سياق ذلك، دعا الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” الطرفين إلى نزع فتيل التوتر، مطالبين روسيا بأن تضمن حرية العبور في مضيق كيرتش.
وانطلاقًا من محاذاتها للبحر الأسود، وعلاقاتها المتينة مع الطرفين، تساءل كثيرون عن طبيعة موقف تركيا المُحتمل من الأزمة؟
ولعل توصيف الموقف التركي حيال الأمر بشكلٍ منطقيٍ، يتم من خلال التمعن في تصريح وزارة الخارجية التركية إزاء الحدث، فقد ذكرت وزارة الخارجية التركية، عبر موقعها الإلكتروني، أنها “تتابع التوتر المُتصاعد والتطورات الساخنة الدائرة في محيط مضيق كيرتش في بحر آزوف، وأنها تلقت الأنباء التي تُشير إلى فتح النار ضد سُفن أوكرانيا، مما أدى إلى جرح بعض أفراد طواقمها، بحالةٍ من القلق.
“إننا كدولة مُطلة على البحر الأسود، نؤكّد ضرورة عدم منع حركة المرور عبر مضيق كيرتش، وندعو إلى تجنب الخطوات التي قد تُعرض الاستقرار والسلم الإقليميين لأي خطر، وإظهار احترام للقانون الدولي، بالإضافة إلى التصرف بحكمة واعتدال”.
بالتمعن في سياق تصريح وزارة الخارجية، يُلاحظ أنها تتبنى الرواية الأوكرانية في تعرضها لهجومٍ من الزوارق الروسية، وإشارتها لتعرض سُفن أوكرانية لهجوم مُضاد ومطالبتها باحترام القانون الدولي، خير دليل على إيمانها بمحاولة الزوارق الروسية إعاقة تحرك السفن الأوكرانية في المياه الدولية، غير أن تجنبها لذكر روسيا بصورةٍ مباشرة،ٍ يوحي بحرصها على البقاء في سياق الموضوعية والحيادية التي تحفظ لها ميزان قوى مُعتدل مع الطرفين.
يبدو أن الموقف التركي القائم على سياسة “السعي لإبقاء ميزان القوى مع الطرفين قائمًا على الاعتدال”، هو الموقف الأفضل من أجل الحفاظ على مسار مصالحها المترابطة مع الطرفين
بإيجاز، وفقًا لتصريحات وزارة الخارجية التركية أعلاه، يُلامس أن أنقرة تحاول من جهة التصرف وفقًا لدورها كدولة عضو في “الناتو” الذي طالب روسيا بضمان حرية العبور في مضيق كيرتش، وبالتالي دعم تطبيق قواعد القانوني الدولي التي اُنتهكت بحسب رواية الجانب الأوكراني الذي أثبت، عبر فيديوهات، أنه مُنع من حرية العبور عبر المضيق، لكنها من جهةٍ أخرى تحاول عدم الخروج عن السياق الدبلوماسي العادي في مطالبة روسيا بذلك، حفاظًا على علاقاتها المُتطورة معها على أصعدٍ عدة.
وعلى الأرجح، في حال اشتدت المناوشات بين الطرفين، فإن تركيا قد تتجه نحو سياسة النأي بالنفس للحفاظ على توازن علاقاتها مع الطرفين قائمًا، وقد تدعو، كما كان موقفها إبان الحرب الروسية ـ الجورجية، إلى ضبط النفس وسلوك سبيل الحوار والتفاوض، لكن لا يمكن إغفال احتمال أن تكون تصريحاتها الرسمية مُتناسقة مع تصريحات “الناتو” الذي اعتاد تحميل روسيا مسؤولية حدوث أزمات ومناوشات في إقليمها.
وعن الباعث الأساسي لطبيعة الموقف التركي، يبدو أن الترابط الاقتصادي والعسكري والأمني الوثيق بينها وبين الطرفين، كل على حدة، يلعب دورًا في دفعها نحو اتباع سياستي “النأي بالنفس” و”الحفاظ على ميزان القوى مُعتدل”، لأن تبنيها دعم طرف على حساب الطرف الآخر بالكامل، يعني تسجيلها موقفًا خاسرًا على نحوٍ تاريخيٍ، فهذا الموقف يُفقد ثقة الطرف الذي وقفت ضده على نحوٍ إستراتيجي، وهو ما لا يخدم مصلحتها القومية.
ويظهر الترابط الوثيق بين تركيا وأوكرانيا من جهة وروسيا من جهةٍ أخرى على النحو التالي:
ـ على الصعيد السياسي ـ الأمني:
يرتبط مسار آستانة لتسوية القضية السورية بتعاونٍ دبلوماسي وأمني وطيد، أوصلهما إلى شافة إنهاء الأزمة الفاعلة منذ عام 2011، لذا يبدو من الصعب على تركيا أن تتجه نحو التصعيد نحو روسيا، حفاظاً على ملفات التعاون المُشتركة في الملف السوري على وجه التحديد، بالإضافة إلى ملف تأسيس المُفاعل النووي، وبناء منظومة الدفاع الجوي آس 400، وأخيراً ارتباط الطرفين بخط “السيل التركي” الذي يمر من تركيا، ومن خلاله تسمح روسيا لتركيا “بتوزيع” غازها الطبيعي إلى الدول الأوروبية.
في إطلالها على البحر الأسود، أهمية كبيرة لتركيا، لفتح ملف تعاون أمني مُشترك معها في توفير الأمن في البحر.
على صعيدٍ آخر، تتوافق تركيا مع أوكرانيا حول عدم شرعية السيطرة الروسية على القرم، انطلاقاً من ارتباطها، أي تركيا، العضوي القومي مع سكان الجزيرة، فضلاً عن المُنطلق التاريخي الذي يُشعر تركيا بتحمل مسؤولية كبيرة حيال الحفاظ على استقلال القرم عن روسيا، حيث وقعت بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية حرباً شرسةً حول مصير الجزيرة. وعلى الأرجح، لا زال يدفع المُنطلق التاريخي الذي يُشكّل تأثيراً فاعلاً في النفس الوطنية القومية، تركيا نحو السير على نهج سلفها الدولة العثمانية. كما تم، عام 2011، رفع العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأوكرانيا إلى مستوى تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، وهو ما يُوجب على تركيا إظهار حساسية تجاه علاقاتها مع أوكرانيا، في تعاملها مع الأزمة الأخيرة.
وانطلاقاً من جملة نابليون “الجغرافيا تُحدد مصير الدول”، يحظى الموقع الجغرافي بأهمية جيوسياسية كبيرة بالنسبة لتركيا، حيث تُحد روسيا، وتُطل على البحر الأسود، لذا يوفر لتركيا و”الناتو” الذي يضم تركيا كعضو، ميزةً في استغلال موقعها في إطار سياسة “تطويق” روسيا أمنياً واقتصادياً، للضغط عليها في ملفات التعاون. وفي إطلالها على البحر الأسود، أهمية كبيرة لتركيا، لفتح ملف تعاون أمني مُشترك معها في توفير الأمن في البحر. وفي ضوء ذلك، قبلت تركيا، عام 2016، تأسيس مجموعة تنسيق التعاون التقني والعسكري مع أوكرانيا، ومن ثم توصل الطرفان عام 2017 إلى توقيع اتفاقية التعاون العسكري، حيث تنص هذه الاتفاقية على بيع تركيا لأوكرانيا، مع التعهد بتدريبها لعددٍ من ضباط الجيش الأوكراني.
ـ على الصعيد الاقتصادي:
يبلغ حجم التبادل الاقتصادي بين الطرفين 38 مليار دولار، ويُقدر التبادل الاستثماري بقيمة 10 مليار دولار. وتُعدّ روسيا المُزود الأول لتركيا بالطاقة، لا سيما بالغاز الطبيعي. وقد بلغ عدد السياح الروس القادمين إلى تركيا خلال عام 2014، 4.5 مليون سائحًا، وتحاول تركيا استقطاب أعداد أكبر من السياح الروس. وتُظهر المؤشرات حجم الاعتماد الاقتصادي المتبادل الوثيق بين الطرفين.
يظهر التبادل الاقتصادي بين تركيا وأوكرانيا هوة كبيرة مقارنة بالتبادل بينها وبين روسيا
أما حجم التعاون الأوكراني ـ التركي المُتبادل بين الطرفين، فقد بلغ 3.7 مليار دولار. وتنشط 600 شركة تركية في مجالات استثمارات مُتنوعة، لا سيما في مجال إنشاء البنية التحتية، في أوكرانيا. وبحسب إحصاءات وزارة الخارجية التركية، بلغ عدد السياح الأوكران الوافدين لتركيا عام 2016، 1 مليون و45 ألف سائحاً.
وقد يظهر التبادل الاقتصادي بين تركيا وأوكرانيا هوة كبيرة مقارنة بالتبادل بينها وبين روسيا. لكن لا يُمكن اعتبار أن هذا العامل هو العامل الأساسي في تحديد موقف تركيا تجاه الطرفين. فالطرفان، كلاً على حدا، يتمتع بميزات جيوسياسية واقتصادية مُختلفة تمكّن تركيا من الاستفادة منها في سبيل موازنة علاقاتها ومصالحها وأدوات ضغط عليهما، وهذا ما جعلها، على الأرجح، نحو اتباع سياسة “مُتزنة” بعيدة عن “الانحياز” لصالح طرف على حساب الآخر.
في الختام، يبدو أن الموقف التركي القائم على سياسة “السعي لإبقاء ميزان القوى مع الطرفين قائماً على الاعتدال”، هو الموقف الأفضل من أجل الحفاظ على مسار مصالحها المترابطة مع الطرفين، لا سيما وأن الطرفين في نهاية المطاف، سيتجهان نحو التفاوض أو التهدئة على الأقل. لذا لا داعي لتسجيل موقف مُتحيّز لا يعود عليها بأي فائدة.