لا تعدّ الجمعة السوداء حدثًا جديدًا البتة، إذ يعود بدايةً إلى عام 1951 حيث استخدمه البعض في ولاية فيلادلفيا للتعبير عن حركة المرور المزعجة التي تحدث في اليوم التالي لعيد الشكر، ثمّ ما لبث أنْ حوّله تجّار التجزئة إلى حدثٍ يحقّقون من خلاله الأرباح الهائلة مستغلين عيد الشكر بوصفه مناسبةً اجتماعية يجتمع عليها الكثيرون.
وفي حين كان أمر التسوّق المحموم هذا شبه مقتصر على بداية رأس السنة والأعياد والاحتفالات الخاصة به، إلا أنه في العشر سنوات الأخيرة أصبحت مواسم التنزيلات والتسوّق تأخذ أشكالًا مختلفة وأسماءً متنوعة؛ فإلى جانب “الجمعة السوداء”، ظهر لدينا ما يُعرف بمصطلح “الإثنين السيبراني” أو “Cyber Monday“، وهو مصطلح تسويقي ليوم الاثنين الذي يلي عطلة عيد الشكر في الولايات المتحدة استُخدم لأول مرة عام 2005 وأصبح مع الوقت واحدًا من أشهر أيام التسوّق الإلكتروني أو الأون لاين.
حمّى الدوبامين: نحنُ نحبُّ الاندفاع والتهوّر
من الناحية العصبية، فإن الجواب الذي نبحثُ عنه هو الدوبامين. إذ أنّ فكرة حصولنا على شيء جديد بصفقة جيّدة تعمل على تحفيز أدمغتنا وأجسادنا للتفاعل بإفراز هرمون الدوبامين وغيره من الهرمونات المرتبطة بالاندفاع والسعادة والتواصل مع الآخرين والشعور بالرغبة بالتفاخر أمامهم لما حصلنا عليه مثل السيروتونين والأوكسيتوسين.
الدوبامين الزائد هو المسؤول عن كلّ أنواع الإدمانات والأفعال غير المحسوبة والمتهوّرة التي نقوم بها، تمامًا كما التسوّق المحموم في مواسم التنزيلات.
لكنّ المشكلة الأساسية فيما يتعلّق بالجمعة السوداء وغيرها من مواسم التنزيلات هي أنّ أدمغتنا تركّز فقط على إفراز الدوبامين، المسؤول عن الشعور بالحداثة والمغامرة والحصول على شيء جديد. يحدث الإفراز بكميّات كبيرة تعمل على تغييب هرمون السيروتونين المسؤول عن اتخاذ القرارات بحكمة وفاعلية لإبقاء الأمور تحت السيطرة. وفي الواقع، الدوبامين الزائد هو المسؤول عن كلّ أنواع الإدمانات والأفعال غير المحسوبة والمتهوّرة التي نقوم بها، تمامًا كما التسوّق المحموم في مواسم التنزيلات.
الخوف من تفويت الفرصة: اليوم سينقضي بسرعة!
تخبرنا “نظرية الندرة” أو “The scarcity effect” أنّنا إذا اعتقدنا أنّ ثمّة ما هو نادرٌ أمامنا أو متاحٌ لفترة قصيرة من الزمن فقط، فإنّ عقولنا ستعطيه وزنًا وحجمًا أكبر وتقديرًا أعظم ممّا يملكه في الواقع، فأوقات ومواسم التنزيلات والخصومات جميعها تحمل رسائل واضحة لعقولنا وأذهاننا؛ ما تراه أمامك الآن هو شيءٌ نادر قد يختفي خلال فترةٍ قصيرة لذا عليك استغلال وجوده واستغلال سعره. والأمر لا يتوقف على مواسم التنزيلات وحسب، بل إنّك ستفكّر دومًا أنّ هذا المنتج لن يكون متاحًا طوال الوقت، لذلك ففرصتك بالحصول عليه محدودة الزمن.
تؤثر الندرة على قدرتنا على التفكير بوضوح وعقلانية عند اتخاذ القرارات، فنشعر أنّنا إذا لم نستغلّ العروض المتاحة أمامنا فإنّنا سنفقد أو نفوّت تجربةً مهمّة، وبالتالي، فوفقًا لإحدى الدراسات فإنّ الخوف من الندم أو الشعور بالأسف في المستقبل هو ما ما سيحكم قراراتنا ويقودها لشراء ما لا نحتاجه، أيْ أنّ مشاعر الخوف من الندم هي المسيطرة في تلك اللحظات.
فالأمر كالآتي: قد ترى غرضًا بسعر 70 دولارًا في بداية الشهر دون أنْ يخطر ببالك أنْ تقتنيه، وما إن تحلّ الجمعة السوداء ويصبح عليه خصمٌ بنسبة 30% حتى تصبح بشكلٍ لا واعٍ بالتفكير بأنّك إن لم تشترِ ذلك الغرض فإنك ستفوّته وتضيّع فرصة الحصول عليه بهذا السعر المنخفض.
الخوف من الندم أو الشعور بالأسف في المستقبل يحكم قراراتنا ويقودها لشراء ما لا نحتاجه
لكن بالحقيقة، فما يظهر لكَ بأنه أقلّ من السعر الأصلي، قد لا يكون كذلك أبدًا. فهذه هي الخدعة التي تقوم بها تلك المتاجر، أي أنّ الخصومات الكبيرة التي تراها في هذه المواسم من العام هي في الواقع مجرد خصومات بسيطة مقارنةً بالسعر الذي كان يُباع به المنتَج طوال العام.
وفي بعض الأحيان، قد ترفع المتاجر من سعر بضاعتها قبل موسم الخصومات بفترةٍ قصيرة، لتعود في ذلك الموسم بتخفيضها وإيهامنا بأنّها تخضع فعليًا لخصوماتٍ كبيرة قد تصل إلى قيمة 50% على سبيل المثال في حين أنّ الخصم قد لا يتعدّى الـ10% عن السعر الأصلي.
وربما تتمثل فكرة تفويت الفرصة في الشراء عبر الإنترنت “أون لاين” أكثر منه من الشراء في المحلات والأسواق. ففي المتاجر يمكنكَ على الأقل لمس البضاعة ومعاينتها بعينيك ويديكَ ومقارنة السعر مع قيمتها الحقيقية، أما عبر الانترنت فلا تستطيع ذلك وبالتالي يتركّز تفكيرك بأنّ شخصًا آخر قد يحصل عليها قبلك بغض النظر عن قيمتها.
الرغبة بالفخر والمنافسة: مجتمعات استهلاكية قائمة على المقارنة
تعتمد الحيَل التي تعمد إليها المتاجر بشكلٍ أساسيّ على استغلال اثنتين من عواطفنا الرئيسية: الفخر/الغرور والندم/الأسف. فمن جهةٍ، تحفّز مواسم التنزيلات رغبتنا في إبهار المحيطين من حولنا ولفت انتباههم وشعورنا بالفخر والغرور أمامهم، وهذا أصلًا أحد الأسباب التي تدفعنا لشراء الجديد وامتلاكه حتى لو لم نكن بحاجته. ففي مجتمعٍ بات فيه الأفراد يقيّمون أنفسهم وينظرون إليها بناءً على ما يستهلكونه ويمتلكونه، يصبح الحسد ومقارنة النفس بالآخرين قوىً دافعة ومحرّكة للنشاط الاقتصادي.
في مجتمعٍ بات فيه الأفراد يقيّمون أنفسهم وينظرون إليها بناءً على ما يستهلكونه ويمتلكونه، يصبح الحسد ومقارنة النفس بالآخرين قوىً دافعة ومحرّكة للنشاط الاقتصادي.
كما يرتبط الأمر أيضًا بشعورنا بالمنافسة مع من حولنا؛ فمعرفة أنك تتنافس مع الآخرين للحصول على ذلك الغرض أو تلك القطعة التي يهيّأ لك أنها الأخيرة المتبقية، يزيد من رغبتك في شرائها والمسارعة في امتلاكها. بالنسبة لبعض المستهلكين يكون الحصول على الغرض قبل الآخرين هو الهدف، بغض النظر عن ماهيّته وقيمته الحقيقية. إلى جانب أنّ حشد المشترين في المتجر الواحد يعزّز من قيمة التنافسية لديهم ويتركّز تفكيرهم حول أنّهم إنْ لم يحصلوا على ذلك الغرض فغيرهم يسعى في اللحظة ذاتها للحصول عليه.
عوضًا عن أنّ الجوّ الفوضوي الذي ينشأ في تلك المتاجر بفعل الحشود الكبيرة يقلّل من قدرة الفرد على التفكير المنطقيّ في القيمة الحقيقية لما يشتريه ولحاجته الفعلية إليه. كما أنّ الترويج الضخم لفكرة أنّ الخصومات تستمرّ ليومٍ واحدٍ فقط سينتهي سريعًا، تؤثّر أيضًا على عملية صنع القرار الذي يرتبط بفكرة الخوف من الندم المستقبليّ في حال ضياع الفرصة.
الجوّ الفوضوي الذي ينشأ في تلك المتاجر بفعل الحشود الكبيرة يقلّل من قدرة الفرد على التفكير المنطقيّ في القيمة الحقيقية لما يشتريه ولحاجته الفعلية إليه
كيف تنجو بنفسك من كلّ تلك الأفخاخ التسويقية؟
يعدّ الندم والشعور بالفخر أهم المشاعر التي تسيطر على الشخص بعد الشراء، فأنتَ إما أنْ تندم لشرائك ما اشتريته أو أنك ستشعر بالفخر والغرور لأنك اشتريته، لكنّك في اللحظة نفسها ستبقى متأرجحًا بين هذين الشعوريْن المتناقضين، دون أنْ تدري بناءً على أيهما ستختار قرارك بالشراء أو عدمه. وبما أنّنا كمستهلكين غير قادرين على التنبؤ بالنتائج المستقبلية لقراراتنا الاستهلاكية، إلا أنّنا قادرون من خلال “ذاكرتنا العاطفية” على التنبؤ بتلك النتائج استنادًا إلى القرارات التي اتخذناها في المرات السابقة والمشاعر المرتبطة بها.
لذلك قد يكون استرجاعك لذكريات المرة الماضية التي تسوّقت فيها وسؤالك عن كيفية شعورك تجاه ما تسوّقته بعد فترةٍ من الزمن، وإسقاطك لذلك الشعور على الغرض الذي ترغب في شرائه الآن، قد يكون وسيلةً جيدة لطريق اتخاذك القرار الصحيح والعقلاتيّ الحاليّ. فكّر بكلّ الأشياء التي اشتريتها ولم تستخدمها أو تلك التي ندمت على شرائها لتخرج من المنظومة الاستهلاكية والسجن الرأسماليّ الذي يأسر الأفراد والمجتمعات بحيله وخدعه القذرة التي لا تهدف لشيءٍ سوى لجعل الفرد يدفع أكثر وأكثر.