يسعى جيم أوزديمير، الألماني من أصل تركي والزعيم السابق لحزب الخضر الألماني، إلى اجتياز خطوة جديدة نحو علمنة الإسلام في ألمانيا، وتطويعه لأنماط الحياة الألمانية، مستغلاً في ذلك سطوة دعائيات الإسلاموفوبيا على الغرب، ودعم الحكومة الألمانية لخطواته الرامية إلى عزل التيارات الإسلامية وإبعادها عن الفعاليات التي تقام تحت رعايتها، بعدما كان يشكل الإسلاميون طرفًا أصيلاً في كل ما له علاقة بالإسلام طوال العقود الماضية.
“المسلم العلماني” أوزديمير كما يقدم نفسه دائمًا لوسائل الإعلام وجهات صنع القرار، يضم إلى جانبه في مبادرته الجديدة المسماه مبادرة الإسلام العلماني، تسعة أشخاص على رأسهم حامد عبد الصمد الباحث المصري الألماني المثير للجدل، ونُشر بيان التأسيس وفقًا للقانون، في صحيفة تسايت الألمانية الخميس الماضي، معتبرين أن المبادرة تأتي كرد فعل طبيعي منهم على تنامي معاداة المسلمين، بنفس درجة القلق من تنامي الأسلمة في ألمانيا.
ويقود أوزديمير ومبادرته الجديدة، محاولة حكومية مستترة لتحجيم نفوذ الإسلام السياسي، ووقف هيمنة الجمعيات الدينية المحافظة على جميع الفعاليات الحكومية، التي تكون طرفًا فيها الدولة الألمانية أو منظمات المجتمع المدني، رغم كل الضربات الإعلامية والسياسية التي يتعرض لها الإسلام السياسي في العالم.
المبادرة الجديدة وبحسب نص بيان تأسيسها، تريد فهمًا جديدًا لإسلام معاصر، والتمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين
ويسعى رئيس الخضر إلى السيطرة أولاً على ترتيبات مؤتمر الإسلام الألماني الذي سيعقد في غضون أيام، بما يشير إلى رغبة مشتركة مع الحكومة الألمانية في سحب البساط من تحت أقدام التيارات الدينية، خاصة أن بعض التيارات العلمانية أصبحت نشطة بشكل غير مسبوق، سواء في الميديا الغربية أم على وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل تنامي موجة الإلحاد منذ سنوات، التي ترغب في وقف هرمون القوة المسيطر للتيارات الإسلامية التي تزامن إنشاؤها مع وجود المسلمين على الأراضي الأوروبية.
نحو فهم معاصر.. كيف؟
المبادرة الجديدة وبحسب نص بيان تأسيسها، تريد فهمًا جديدًا لإسلام معاصر والتمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين، ولن يحدث ذلك من وجهة نظرهم، إلا عبر عصرنة الإسلام الألماني، وجعله غير تابع لأي منظمة غير ألمانية في جميع النواحي، وعلى رأس الخطوات المطلوبة سحب الاعتراف بالجمعيات الإسلامية ككيانات معترف بها في القانون العام.
حامد عبد الصمد: الدين الإسلامي يمثل أزمة العنف في العالم كله
تستند الأسماء المؤسسة للمبادرة الجديدة على تاريخها في نقد الإسلام، وخاصة حامد عبد الصمد الذي يعتبره الكثيرون معاديًا للدين وليس مجددًا له، وكذلك الكاتبة نازلي كيلك، وإلى جوارهما الخبير النفسي أحمد منصور، والناشطة النسوية من أصل كردي سيران أطيش المعروفة بتأسيسها مسجدًا يطلق عليه اسم المسجد الليبرالي، وتتولى فيه إمامة صلاة مختلطة للرجال والنساء.
ينطلق أصحاب المبادرة الجديدة، من مخاوف الألمان من زيادة نفوذ الإسلام في المجتمع الألماني، ورغبة البعض في تطويعه للتعايش والذوبان داخل القيم والهوية الألمانية، والخوف من هيمنة المنظمات الإسلامية المحافظة، عبر الاعتراف الرسمي بها كممثلة لمسلمي ألمانيا لدى السلطات.
وتكتب الدورة الجديدة لمؤتمر الإسلام الذي تأسس عام 2006 في برلين، تاريخًا جديدًا بكل معنى الكلمة، إذا ما سارت هذه الترتيبات إلى ما تخطط له المبادرة الجديدة، خاصة أن خلفيات الأحداث تشي بترتيبات أمنية وتفاهمات كبيرة مع رئيس الخضر، وحامد عبد الصمد الذي أصبح يظهر بكثافة شديدة في الإعلام، سواء الناطق بالعربية أم الألمانية، لجعل التيارات المدنية في المقدمة، هذا إن لم تُسحب التراخيص الخاصة بالتنظيمات المحسوبة على الإسلام السياسي، كما يضغط اللوبي الجديد في هذا الاتجاه، واستبداله بمنظمات ليبرالية، تتولى رسم وهندسة الفكر الألماني بين المسلمين، كما كانت تريد الحكومة والتيارات السياسية الألمانية منذ عقود.
تستغل الطبقة الليبرالية الجديدة بين مسلمي ألمانيا، حالة الزخم بنزعة التحرر من القيود التراثية والاجتماعية، التي يسوق بها أصحاب المشروع الليبرالي أنفسهم للمجتمع
ويبدأ مؤتمر الإسلام بكلمة لوزير الداخلية هورست زيهوفر الذي يترأس المؤتمر، بمشاركة ممثلين للمنظمات الإسلامية الرئيسية والمساجد ومنظمات وشخصيات مستقلة والكنائس ومبادرات خاصة وممثلي الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات الألمانية، بالإضافة إلى خبراء وأكاديميين، وبحسب الأخبار الواردة عن المؤتمر، سيتم توسيع نطاقه هذا العام ليشارك فيه المزيد ممن ليس لهم أنشطة في منظمات رسمية خاصة بالمسلمين، وهي الخطوة التي رحب بها الموقعون على نص تأسيس المبادرة الجديدة، بما يؤكد أن هناك تعاونًا وتنسيقًا كاملاً بين الجانبين.
من يكسب الرهان الجديد؟
طوال السنوات الماضية، والحكومات الغربية وليس ألمانيا فقط، تبحث لنفسها عن آلية جديدة لدمج المسلمين، على أن يدور الإسلام نفسه في النهاية داخل التركيبة الخاصة بالمجتمعات التي يعيش فيها، وأصبح الحديث عن التطرف المحلي أو ملف العائدين من البلدان التي شهدت في السنوات الأخيرة توترات أمنية وسياسية، بسبب تنامي الجماعات المسلحة المتطرفة، مثل داعش في سوريا والعراق وليبيا، عامل ضغط على السياسيين لاتخاذ قرارات أشد صرامة تجاه السير خطوات إضافية في هذا الملف، وعدم الالتفات للانتقادات العربية والإسلامية.
كانت السنوات الماضية، وبسبب رغبة البلدان الأوروبية عدم الابتعاد عن قيمها في التعامل مع الملف، تشهد تخبطًا من أعتى الأجهزة الأمنية التي بدت غير قادرة على إيجاد الطريقة الأفضل للتعامل مع ملف الإسلام المحلي، في ظل تنامي موجة الكراهية ضد المسلمين ورفض عودة المقاتلين السابقين في صفوف الجماعات المسلحة، ورفض المسلمين أيضًا الدعوات لصهرهم داخل المجتمعات التي يعيشون فيها على أسس تخالف شرائع دينهم.
يسعى التيار الليبرالي الألماني الذي يعلو صوته على الجميع، إلى توسيع نفوذه حتى خارج ألمانيا، وجعلها محطة بداية، في ظل سعي المجتمعات الأوروبية إلى إيجاد نماذج خاصة بها من الإسلام
ووسط العواصف التي تضرب العالم من جراء العنف، ظهر حل الإسلام العلماني في ألمانيا الذي يتبناه بعض الأشخاص المعروفين بميولهم الرافضة لفكرة الدين بالأساس، وهم ساسة وناشرون وأساتذة جامعات، استطاعوا استخدام تعبيرات تخدم القلق المتنامي من تفوق الأسلمة في ألمانيا، ومن ثم أصبح الحديث منحصرًا داخل الأوساط السياسية الألمانية، على ضرورة وضع خريطة طريق لـ”الإسلام الليبرالي” المتوافق مع الهوية الألماني، تكون مهمتها إنهاء وجود الإسلاميين وتذويب الإسلام داخل ألمانيا.
وتستغل الطبقة الليبرالية الجديدة بين مسلمي ألمانيا، حالة الزخم بنزعة التحرر من القيود التراثية والاجتماعية التي يسوق بها أصحاب المشروع الليبرالي أنفسهم للمجتمع، فمعهم فقط دون غيرهم، سيكون المسلمون ليس لديهم انتماء آخر، سوى الانتماء إلى الوطن الذي يعيشون فيه.
ويبرهنون على جديتهم بإنشاء مسجد “ابن رشد – غوته” الذي يقدم نموذجًا للإسلام الليبرالي الأوروبي، عبر السماح للنساء بالصلاة جنبًا إلى جنب مع الرجال ودون حجاب، وليس هذا فقط، بل يُمكن للمرأة أن تتولى فيه الإمامة، كما يستقبل المسجد أيضًا الطوائف المتنازعة في الشرق، من السنة والشيعة والعلويين والصوفيين، ورغم ذلك غير واضح حتى الآن، هل يجتمع هؤلاء فعلاً في المسجد أم الليبراليون فقط هم الذين يقيمون الشعائر فيه!
ويسعى التيار الليبرالي الألماني الذي يعلو صوته على الجميع، إلى توسيع نفوذه حتى خارج ألمانيا، وجعلها محطة بداية، في ظل سعي المجتمعات الأوروبية إلى إيجاد نماذج خاصة بها من الإسلام، خاصة أن القضية يضعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضمن مشروعه الرئاسي الذي يضمن “إسلام فرنسا”.
وبموجب المشروع الماكروني، سيعدل القانون الفرنسي المعتمد منذ عام 1905 المتعلق بفصل الكنيسة عن الدولة، وهو نفس القانون الذي يرسخ مبدأ العلمانية في البلاد، ليرسخ فيه أيضًا فصل مسلمي فرنسا عن الجمعيات والجهات الأجنبية، في محاولة لغلق الإسلام الفرنسي على أبنائه، وتذويبهم في قيم البلاد، بمعزل عن أي مؤثر خارجي.
وما يحدث في فرنسا، يُنسخ في أمريكا، حيث تتبنى إدارة ترامب تقديم اعتمادات حاليًّا لجمعيات ليبرالية مهمتها المعلنة مواجهة التطرف، ولكن في ثنايا المهام، “أمركة المسلمين الأمريكين” وصهرهم في منظومة قيم المجتمع الأمريكي بكل تفاصيلها، ومن الولايات المتحدة إلى سويسرا، تتفشى نفس النزعة لتقديم إسلام تقدمي لا يخضع لإسلاميته، بقدر الابتعاد عنها، بما يضع الإسلام في العالم على بداية ونهاية لا يعرف حتى الآن إلى ماذا ستنتهي، وهل ستكتفي بالداخل الأوروبي أم ستمتد تأثيراتها على المجتمعات العربية والإسلامية أيضًا!