عاش الطالب التركي إمريه أورمان في أسرة تتحدث اللغة التركية وتؤمن بالدين الإسلامي وتنتمي حضاريًا وسياسيًا إلى موروثات وتوجهات مختلفة عما تعتقد به الغالبية خارج أسوار المنزل، ففي الخارج يتحدث الجميع اليونانية وتكاد تكون الكنائس دور العبادة الوحيدة في البلاد، ما يجعل أورمان يشعر بالاغتراب الثقافي والتجاهل الاجتماعي والسياسي، فما قصة الأقلية التركية في اليونان؟
يوم أمس، قاطع طلاب “المدرسة الخيرية” الدينية في شمال شرق اليونان الدراسة رفضًا للمنهج الدراسي الجديد الذي قلص عدد دروس اللغة التركية والمواد الإسلامية، فوفقًا للقرار الصادر من وزارة التعليم اليونانية فإن الطلاب لن يكون لديهم أي دروس في اللغة التركية في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
يذكرنا هذا القرار بالتاريخ المضطرب بين تركيا واليونان بشكل عام، فلقد جمعتهما الحروب والنزاعات على أراضٍ وجزر وثروات طبيعية قديمًا، ومؤخرًا ازدادت علاقتهما تعقيدًا في مناسبات عدة، سواء بشأن تدفق اللاجئين والحدود البحرية أم بسبب استقبال اليونان للعديد من منفذي المحاولة الانقلابية الفاشلة ومنحهم حق اللجوء، ورغم توصل الطرفين إلى حلول وسطية، فإن هذه الاحتكاكات الاستفزازية المتكررة قد تعني أنهما فشلتا في التخلص من الرواسب الاجتماعية والسياسية الماضية، لا سيما أن وضع الأقلية التركية في اليونان استدعى تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مرات عديدة.
كيف وصل الأتراك إلى اليونان؟
يقال إن أول لقاء بين المسلمين وأوروبا كان على جزيرة رودوس عام 654 الذي اكتمل بفتح جزيرة كريت عام 827، مما أدى إلى انتشار الإسلام في معظم أرجاء المدن اليونانية، ونتيجة للأحداث السياسية المتتالية فقد ضُمت مدينة تسالونيك ذات الأغلبية المسلمة إلى الأراضي اليونانية وكان عدد المسلمين فيها نحو 40 ألفًا، ولم تكن هذه الواقعة الوحيدة التي ساعدت على نمو المجتمع الإسلامي في هذا البلد الأوروبي، ففي عام 1913 عند انتهاء حروب البلقان أُلحقت مناطق جديدة كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية إلى اليونان.
نشبت الحرب اليونانية التركية وانتهت بإعلان عملية تبادل السكان بموجب اتفاقية “لوزان للسلام”، إذ غادر على إثرها نحو 450 ألف مسلم من اليونان وتوجهوا إلى تركيا، باستثناء منطقتي “تراكيا” و”دوديكانيسيا”
ساعدت هذه التحولات السياسية على تغيير التركيبة الديموغرافية في البلاد، لا سيما عام 1919 عندما نشبت الحرب اليونانية التركية وانتهت بإعلان عملية تبادل السكان بموجب اتفاقية “لوزان للسلام”، إذ غادر على إثرها نحو 450 ألف مسلم من اليونان وتوجهوا إلى تركيا، باستثناء منطقتي “تراكيا” التي ضمت نحو 92 ألفًا من أصول تركية وبلغارية، و”إيبير” التي بقي فيها 26 ألف مسلم من أصول ألبانية، إضافة إلى 12 ألف مسلم في جزر “دوديكانيسيا” التي ضمت إلى اليونان عام 1947.
في الجهة المقابلة، غادر نحو 1.5 مليون من المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين إلى اليونان، ولم يكن هذا التغيير قرارًا ملائمًا للعديد من الناس، فلقد واجه الكثير منهم مشاكل في الانخراط بالبلاد الجديدة، وذلك عدا عن الذين بقوا وتحولوا من أغلبية مطلقة إلى أقلية تسترجي الحقوق والعدالة، كالأتراك في اليونان.
ماذا يعني أن تكون تركيًا مسلمًا في اليونان؟
تعد منطقة تراقيا الغربية في اليونان الموطن الرئيسي للأقلية التركية المسلمة، إذ يقدر عددهم بنحو 150 ألف نسمة يخضعون لقوانين المواد من 37 إلى 45 من معاهدة لوزان للسلام، وهي المواد التي تنص على حقوق الأقليات غير المسلمة في تركيا والمسلمة في اليونان، إلا أن الأقلية في تراقيا تجد صعوبة في التمتع بجميع هذه الحقوق، ومن أهمها:
الحرمان من الهوية العرقية:
بدأت اليونان في حظر الجمعيات التي تطلق على نفسها اسم أو صفة “التركية” على اعتبار أنها تمييزية وتناقض مفهوم الحرية في الاتحاد الأوروبي
تنفي اليونان الهوية العرقية للأقلية التركية من تراقيا الغربية على أساس أن معاهدة لوزان للسلام تشير إلى “الأقلية المسلمة” بشكل عام دون تخصيص، ومع ذلك، فإن الاتفاقية والبروتوكول الموقعين بين تركيا واليونان بشأن تبادل السكان الأتراك واليونانيين عام 1923 يشير صراحة إلى الأتراك واليونانيين، وعلاوة على ذلك، فإن اليونان هي نفسها التي أجبرت الأقلية التركية على أن تطلق اسم “الأتراك” عليها في الخمسينيات، كما كانت تسمي مدارس الأقليات بـ”المدارس التركية”، ومع ذلك، غيرت السلطات اليونانية سياستها وبالتالي بدأت في تسمية الأقلية بـ”الأقلية المسلمة”، كما بدأت في حظر الجمعيات التي تطلق على نفسها اسم أو صفة “التركية” على اعتبار أنها تمييزية وتناقض مفهوم الحرية في الاتحاد الأوروبي.
مشاكل في المرحلة التعليمية:
لا تسمح الحكومة اليونانية لأي معلم من تركيا بالعمل في مدارس الأقليات التركية
تحتفظ معاهدة لوزان للسلام بحق الأقلية في تعلم اللغة الأم، لكن الحكومة اليونانية تتخذ قرارات عدة تمنع الأطفال من التعرف على لغتهم الوطنية، فلقد طالبت الأقلية التركية بفتح رياض ثنائية اللغة للأطفال، لكن لم يتم الاستجابة لهذا الطلب، وإنما بدأت السلطات اليونانية بإغلاق وإدماج المدارس الابتدائية للأقليات مع مدارس أخرى، يضاف إلى ذلك، افتقار الأقلية التركية للمدارس الثانوية، فلا يوجد سوى مدرستين ولم ترد الحكومة على طلب إنشاء مدارس جديدة لاستيعاب العدد الكبير من طلاب الأقلية، وأخيرًا كانت قد اتفقت تركيا واليونان على تعيين كوادر تعليمية مؤهلة بموافقتهم المشتركة للأقليات، حيث كان عدد المعلمين 35 ولكن في التسعينيات، خفضت اليونان هذا العدد من جانب واحد إلى 16 معلمًا، وحاليًّا لا تسمح الحكومة لأي معلم من تركيا بالعمل في مدارس الأقليات التركية.
قيود على الحرية الدينية:
تنص المادة 11 من معاهدة أثينا (1913) على ما يلي: “سيتم انتخاب كل مفتي من الناخبين المسلمين في المناطق القضائية المعنية”، ومع ذلك أصدرت اليونان عام 1990 مرسومًا رئاسيًا ينص على تعيين المفتشين من حكام المقاطعات وحاكمت واعتقلت المفتيين المنتخبين من الأقلية بتهمة “الاستيلاء على لقب المفتي”، مثلما حدث مع المفتي محمد أمين آغا عام 1995 والمفتي على محمد إيا عام 1998.
تطرق الرئيس التركي أردوغان إلى هذه المسألة عدة مرات، وكان يطالب الحكومة اليونانية دومًا بالسماح للأتراك المسلمين في تراقيا الغربية باختيار مفتيهم وأئمتهم ورجال دينهم بأنفسهم وألا يتم تعيينهم من الحكومة اليونانية، بالمقابل أكد أردوغان أن الأقلية اليونانية في تركيا تحظى بجميع حقوقها كاملة، فقد قال: “لا يمكنكم رصد أي تمييز ضد مواطنينا الروم في تركيا، حتى في قضية معابدهم، أمّا في تراقيا الغربية فإنه من غير المقبول حتى كتابة كلمة “تركي”، وتساءل: “كيف نقول بأنّ معاهدة لوزان (بين تركيا وعدة دول بينها اليونان) يتم تطبيقها وإلى الآن لم يتم انتخاب مفتي عام لمسلمي غربي تراقيا (اليونانية ذات الأقلية التركية)”.
صادق البرلمان اليوناني على قانون يمنح للأقلية التركية، حق الاختيار بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني اليوناني،إذ يمكن للأتراك المسلمين اللجوء إلى الشريعة الإسلامية في حل الخلافات العالقة بين أفراد الأقلية في مسائل الميراث والزواج والطلاق
ونظرًا لذلك، صادق البرلمان اليوناني على قانون يمنح للأقلية التركية المسلمة في البلاد، حق الاختيار بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني اليوناني، فبحسب بنود القانون يمكن للأتراك المسلمين اللجوء إلى الشريعة الإسلامية عبر مفتين في حل الخلافات العالقة بين أفراد الأقلية في مسائل الميراث والزواج والطلاق.
بالجانب إلى ذلك، يوجد مجتمع تركي مسلم آخر في اليونان بمقاطعة “دوديكانيسيا” التي يقدر عددهم بنحو 6 آلاف، الذين قد يكون وضعهم أكثر سوءًا من المجتمع التركي في تراقيا الغربية، وذلك لأن اليونان لا تعترف بحقوق الأقلية للمجتمع التركي في هذه المنطقة، على أساس أن الجزر كانت تحت الحكم الإيطالي عندما تم التوقيع على معاهدة لوزان للسلام وبالتالي فإن قوانينها لا تنطبق عليها، ولذلك اضطر العديد من الأتراك في أوائل القرن الشعرين لمغادرة “دوديكانيسيا” بسبب القيود المفروضة عليهم وحرمانهم من أبسط الحقوق مثل العمل وشراء العقارات والجنسية، وهو الأمر الذي أدى إلى تقليص عددهم من 20 ألف إلى 6 آلاف فقط.
اليونان لا تعترف بحقوق الأقلية للمجتمع التركي في منطقة “دوديكانيسيا”، على أساس أن هذه الجزر كانت تحت الحكم الإيطالي عندما تم التوقيع على معاهدة لوزان للسلام وبالتالي فإن قوانينها لا تنطبق عليها
ما يعني في النهاية أن قرار وزارة التعليم اليونانية بشأن تخفيض مواد اللغة التركية والدينية ليس سوى حلقة من سلسلة القرارات التي تتبعها السلطات اليونانية بهدف تجاهل العرقية التركية وإجبارها على التخلي عن خلفيتها الثقافية والتاريخية، لكن على ما يبدو فإن الأقلية التركية المسلمة تتحدى جميع القوانين الأوروبية والضغوط الحكومية المتتالية للمحافظة على جذورها ولغتها وطابعها الديني في كل جانب من جوانب حياتها.