“خروج القوات الإيرانية من سوريا مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها”، هذا جوهر الاتفاق الذي أورده موقع عربي 21 نقلاً عن القناة “الإسرائيلية” العاشرة، وبحسب فحوى الخبر، فإن العرض المذكور جاء من الجانب الروسي، وقد عرضه نتنياهو على لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، وتذكر القناة العاشرة أن نتنياهو اعتبر المقترح مجرد فكرة أولية، ولم يتم البت فيه بشكلٍ نهائيٍ.
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن العرض الروسي يأتي بعد لقاء بوتين ونتنياهو القصير في باريس، على هامش الاحتفال بتوقيع اتفاق الهدنة الذي أنهى الحرب العالمية الأولى قبل مئة عام في باريس، إذ وصفه نتنياهو بأنه “إيجابي ومجدٍ”، وقد كان هذا اللقاء هو الأول بين الطرفين، منذ استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية خلال سبتمبر/أيلول المنصرم، حيث حملت موسكو الجانب الإسرائيلي مسؤولية ذلك.
لا غنى عن التنسيق مع القوة الإقليمية الأكثر تأثيرًا
على الرغم من سعي روسيا للحفاظ على هيبتها الدبلوماسية التي هُزت جراء الاستهداف الإسرائيلي لمدينة اللاذقية لم تكن ضمن نقاط الاستهداف الإسرائيلي المرسومة في سوريا، وهو ما أدى، على الأرجح، لشعور روسيا باهتزاز مكانتها لدى النظام السوري وإيران.
أظهرت روسيا بعرضها الأخير أنها دولة تُدرك بعقلانية وواقعية أهمية التنسيق مع القوة الإقليمية الأكثر تأثيرًا في مسار التطورات السياسية في الإقليم
يُذكر أن مكانة الدولة في نسق ومسار العلاقات الدولية يُحدد وفق سلوكها تجاه الدول الأخرى، من حيث قدرتها على عقد تحالفات وتوافقات مع الدول الكبرى والعظمى، وقدرتها على توفير الدعم والحماية للدول الأقل قدرات منها، ولا بد من الحفاظ على الهيبة الدبلوماسية، كي يسهل على الدولة تحقيق أهدافها، وانطلاقًا من ذلك، يُلاحظ، عند النظر إلى المعادلة السورية، بأن روسيا تحاولة اكتساء ثوب الدولة صاحبة الكلمة الأعلى على الصعيدين السياسي والعسكري، وهو ما دفعها لمقابلة الاستهداف الإسرائيلي ببعض التصعيد الذي شمل إضفاء صفة “العدوان” على الهجوم الإسرائيلي، بما يعني ضرورة إرساء قواعد اشتباك جديدة للتحرك الإسرائيلي في سوريا، وتتضمن، أيضًا، الإعلان عن منح سوريا منظومة الدفاع الجوي “آس 300”.
لكن، أظهرت روسيا بعرضها الأخير أنها دولة تُدرك بعقلانية وواقعية أهمية التنسيق مع القوة الإقليمية الأكثر تأثيرًا في مسار التطورات السياسية في الإقليم، فبينما أخذت وقتها لاسترداد هيبتها الدبلوماسية في سوريا عبر تصعيد جزئي، تجنح، اليوم، إلى النظر في اتفاقٍ جديدٍ يلبي الطموح الإسرائيلية، ولا فصل بين الطموح الإسرائيلية والأمريكية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة.
غير أن الفارق بين ما قبل استهداف اللاذقية وما بعدها، يكمن في امتلاك روسيا قدرة نسبية على تحديد بعض النقاط التي تخدم هدفها في الإبقاء على زمام الأمور في سوريا قيد توجهها قدر الإمكان.
روسيا تناور في سبيل رفع نفوذها على حساب النفوذ الإيراني
مع إبرام “اتفاق حلب” مع تركيا في نهاية عام 2016، متجاوزةً إيران، أظهرت روسيا أولى مؤشرات مسعاها لتحجيم النفوذ الإيراني الذي يتفوق، ميدانيًا على حساب نفوذها، ويأتي عرضها على “إسرائيل” اليوم في ذات الإطار، حيث تحاول الاستفادة من الضغوط الدولية على تحجيم النفوذ الإيراني، لكن دون اتخاذ موقف مُتطرف تجاه إيران، بل من خلال البقاء في إطار اللعب على تنقاضات ميزان القوى، لعدم خسارة أي طرف بالكامل.
فعلى الرغم من نقاط الخلاف بينهما، فإن روسيا تتمتع بعقلانية ترى في إيران دولة من ذات المحور، أي دولة يُمكن اعتبارها عمود إقليمي يُركن إليه في خدمة إستراتيجيات روسيا الجيوسياسية والجيواقتصادية في المنطقة.
تُظهر “إسرائيل” واقعية ملموسة في هدفها، حيث تُدرك أنه من الصعب القضاء بالكامل على الوجود الإيراني في سوريا، لذا تقبل بالجنوح لتحجيم هذا النفوذ
يُذكر أن أهم ما يدفع روسيا للنظر في مسايرة ضغط الغرب على النفوذ الإيراني هو الخلاف الجيوسياسي ـ الجيواقتصادي القائم على تخوف روسيا من خروج إيران عن خطتها الإستراتيجية القائمة على التحكم بتوريدات الطاقة للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تنافسهما على تحقيق سيطرة جيوسياسية على أكبر الموانئ والمصادر الطبيعية والمواد الخام في سوريا.
كما أن انتهاء مهمة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، وخلاف الطرفين بشأن شكل نظام الحكم، فبينما ترمي روسيا لإرساء نظام حكم إداري “مناطقي” يحتضن الجميع، ترمي إيران للإبقاء على شخصية الأسد وإرساء نظام محاصصة “ديموغرافية طائفية” ترجح كفة الميزان فيه لصالح توجهها الشيعي، وغيرها عوامل تدفع روسيا نحو استغلال كل فرصة سانحة لتحجيم النفوذ الإيران، لكن دون خنقها بالكامل، فعرضها على “إسرائيل” يتضمن تحجيم النفوذ الإيراني، مقابل تخفيف حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
هل يُلبي الاتفاق الطموح الإسرائيلية؟
ربما القول إن العرض الروسي منطقيًا وقد يحظى بقبول نسبي من “إسرائيل”، لا يُخرجنا عن نطاق ما هو أقرب للواقع، ويُمكن الاستناد إلى أكثر من عامل أو مؤشر يوضح إمكان قبول “إسرائيل” به:
ـ جوهر الهدف الإسرائيلي: تُظهر “إسرائيل” واقعية ملموسة في هدفها، حيث تُدرك أنه من الصعب القضاء بالكامل على الوجود الإيراني في سوريا، لذا تقبل بالجنوح لتحجيم هذا النفوذ، ولعل اتفاقها مع روسيا على سحب القوات الإيرانية لمسافة 85 كيلومترًا، خير دليل على جوهر الهدف المذكور الذي تسعى لتحقيقه منذ عام 2013، ويزداد هذا الهدف رسوخًا بعد إظهار روسيا بعض التعنت الذي قد يُعيق تحرك “إسرائيل” في سوريا، أيضًا، ما ترمي إليه “إسرائيل” هو خروج إيران فعلاً من الأراضي السورية، لذا قد يلقى العرض موافقةً نسبيةً من قبلها.
يبدو أن الاتفاق الروسي ـ الإسرائيلي الجديد فيما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا، لن يعود كما كان على حاله الذي تم التوصل إليه عام 2015
ـ وجود مسعى دولي وإقليمي للتوصل لحل سياسي في سوريا: تبذل الدول الفاعلة ـ الدولية والإقليمية ـ جهودًا حثيثةً للتوصل إلى تسويةٍ تُحاكي مصالحها بالقدر الممكن، بعد عجز طرفٍ من أطرافها عن التوصل إلى حلٍ صفري يخدم مصالحه فقط، وفي طور هذا التوجه، قد تقبل “إسرائيل” بالتفاوض مع روسيا وفقًا للعرض المطروح.
ـ الرغبة الأمريكية ـ الأوروبية في عدم خنق إيران بالكامل: وتنبع هذه الرغبة من مسعى هذه الدولة لتحويلها إلى مصدر بديلٍ نسبيًا للغاز الروسي الذي تستند إليه روسيا في فرض ورقة دبلوماسية على الدول الأوروبية.
في الختام، يبدو أن الاتفاق الروسي ـ الإسرائيلي الجديد فيما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا، لن يعود كما كان على حاله الذي تم التوصل إليه عام 2015، بل قد يشهد تغيّرات جذرية تقوم على منح روسيا دور الدولة الضامن في متابعة عملية تخفيف مستوى النفوذ الإيراني في سوريا، لضمان استقرار الوضع الميداني بما يُسهل التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، لكن قد تشترط “إسرائيل” حق التدخل في حال أهملت روسيا ما يتم الاتفاق عليه، أو في حال تلمست خطرًا يستدعي تدخلها الجوي أو الاستخباراتي العاجل.