أضحت مسألة التكتلات الاقتصادية أكثر من أي وقت مضى، واقعًا يفرض نفسه على امتداد قارات العالم ليس لحسابات سياسية وأمنية فحسب، ولكن باعتبارها ركيزة أملتها الحاجة إلى مواجهة تحديات العولمة وما يتمخض عنها من تنافسية شديدة من جهة، أو بهدف تحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع الاقتصادية لشعوبها وضمانًا للتدفق السلس للسلع والخدمات وانسيابية اليد العاملة والمواد الخام ورؤوس الأموال من جهة أخرى.
ويأتي كل ذلك بهدف تحقيق مبدأ التكامل الاقتصادي وفق منطق “رابح رابح” كما هو واقع مجموعات اقتصادية كبرى كـ”الأسيان” أو “النافتا” أو “الأوبك” أو الاتحاد الأوروبي وغيرها، أو بهدف الوصول إلى أعلى درجات التنسيق السياسي وتحسين فرص الدفاع عن مصالح الدول المشكلة لتلك التكتلات كما هو واقع الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر أنموذجًا يمكن الاحتذاء به على الرغم من الصعوبات التي شابت إقامته وما زالت لا سيما عقب “البريكست”، الذي جاء كتتويج لنضج وبُعد نظر مؤسسيه وفي نفس الوقت كثمرة لجهود مضنية من العمل الدؤوب والمشترك، وبعد مخاض عسير من التشرذم والصراعات العسكرية التي انخرطت فيها معظم دوله كالحربين العالميتين الأولى والثانية التي انتهت في آخر المطاف إلى تقسيم أوروبا وإضعاف دول قوية ضمن القارة، وأملته أيضًا الحاجة إلى إعادة بناء القارة وفق قواعد جديدة بما يضمن المكانة اللائقة بها في العالم.
واقع الحال يشير إلى أن الطريق أمام قيام تكتل مغاربي حقيقي وإحياء روح اتحاد المغرب العربي لا يزال حلمًا بعيد المنال
أما فيما يخص الدول المغاربية التي تملك هي الأخرى من مقومات التكامل والاندماج الاقتصادي الشيء الكثير، ليس فقط باعتبارها بنية ثقافية وأنثروبولوجية وحضارية واحدة وهو ما يعتبر عاملاً مساعدًا على قيام تكتل حقيقي بخلاف مجموعات اقتصادية أخرى حيث التباينات الثقافية بادية، ولكن أيضًا بما تزخر به من إمكانات اقتصادية وموارد هائلة يمكن أن تضع معها المنطقة المغاربية في مصاف الدول الواعدة اقتصاديًا.
لكن واقع الحال يشير إلى أن الطريق أمام قيام تكتل مغاربي حقيقي وإحياء روح اتحاد المغرب العربي لا يزال حلمًا بعيد المنال، بل ويزداد الأمر تعقيدًا وصعوبة يومًا بعد يوم، ليس فقط بسبب اختلاف الأولويات ووجهات النظر وغلق الحدود البرية ووضع الحواجز الجمركية وضعف التنسيق وغيرها من العقبات بين دول مهمة في الإقليم كالمغرب والجزائر، بل أيضًا بما أصبح يلف المنطقة من متغيرات وعدم استقرار سياسي صاحب “الربيع العربي” كما هو الوضع في ليبيا ناهيك عن المخاطر الأمنية المتصاعدة.
أما المعطيات والأرقام فتشير إلى أن هذه المقومات الاقتصادية لا يتم استغلالها على النحو الأمثل، كما لم تتم الاستفادة من تجارب نماذج مشابهة عبر العالم، حيث لا تزال نسب التجارة البينية هي الأدنى من نوعها، إذ لا تزيد في عمومها عبى نسبة الـ3% من حجم التبادل التجاري البيني للدول الأعضاء بحسب خبراء اقتصاديين، بينما تصل هذه النسبة إلى 25% في دول جنوب شرق آسيا على سبيل المثال.
هذا الواقع المغاربي المعقد دفع على الأرجح دولاً كالمغرب إلى التركيز على المقاربة الإفريقية في سياسته الاقتصادية الخارجية في إطار ما يعرف بالتعاون “جنوب – جنوب”
مما لا شك فيه أن عدم المضي قدمًا في اتجاه تفعيل فكرة الاندماج المغاربي وتذليل العقبات أمامها كبد شعوب المنطقة خسائر تقدر بالمليارات من الدولارات، كما حرم اقتصادات المنطقة من فرص التأهيل ورفع الفعالية وتحسين شروط تنافسيتها في وجه شركاء تجاريين كبار وفي سياق إكراهات العولمة التي لا ترحم، فضلاً عن عدم القدرة على الحد من تبعيتها لاقتصادات دول أوروبية، الشيء الذي أرغم على ما يبدو دولاً مغاربية على توقيع اتفاقيات للتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي أو الصين أو غيرها من الاقتصادات الكبرى بشكل منفرد، مما زاد بدوره من تعميق الفوارق والعجز في الميزان التجاري لصالح هذه الأخيرة بالنظر لتنافسية منتجاتها، أو الدفع باتجاه توقيع اتفاقيات للشراكة التجارية أو الشراكة المتقدمة مع الاتحاد الأوروبي كما هو حال المغرب.
هذا الواقع المغاربي المعقد دفع على الأرجح دولاً كالمغرب إلى التركيز على المقاربة الإفريقية في سياسته الاقتصادية الخارجية في إطار ما يعرف بالتعاون “جنوب – جنوب”، في أفق الاستفادة من الفرص والإمكانات المتاحة للتعاون المشترك والحاجة المتبادلة التي يوفرها الفضاء الإفريقي، وقد ترجم ذلك عمليًا بالحضور الاقتصادي المغربي القوي في المجال الإفريقي، عبر استثمارات كبيرة في قطاعات حيوية كالبنوك والطاقة والبنى التحتية والعمل على تقوية ذلك التعاون ومأسسته عبر تقديمه وبشكل رسمي لطلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة اختصارًا بـ”سيدياو” واتجاه قادة هذه المنظمة إلى القبول المبدئي لهذه العضوية.
إلا أنه وعلى الرغم من الاتجاه صوب البديل الإفريقي أو الأوروبي فيما يخص الشراكة في أبعادها الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها من المجالات، فسيظل دونما أدنى شك “الاندماج المغاربي” حلمًا مشروعًا يراود شعوب المنطقة ومطلبًا ملحًا ينبغي النظر إليه ببراغماتية وبرؤية إستراتيجية من صناع القرار بعيدًا عن منطق الحسابات السياسية الضيقة أو الاختلافات الإيديولوجية، بالنظر إلى المنافع الكبيرة التي سيعود بها هذا التكتل المنتظر على شعوب المنطقة دونما استثناء.