لطالما اعتدنا سماع أو قراءة قصص لرجال كسروا الحواجز وتخطوا حدود الواقع واستطاعوا بذكائهم وإنجازاتهم أن يغيروا الكثير من المعادلات والنظريات، ولكن مؤخرًا، نجحت المرأة في سرقة بعض الأنظار إليها، فقد استطاعت اقتحام مجالات – مثل التكنولوجيا والسياسية والعلوم – كانت مقتصرة أو مكتظة بالرجال، وأصبحت بذلك مصدر إلهام للأخريات مثل عالمة الفلك الفيزيائية التركية بورشين موطلو باقديل التي كانت في صغرها تحب تأمل السماء وما فيها من أجسام مختلفة الحجم والحركة ولم تعرف آنذاك أنها تنظر إلى المجرة التي ستحمل اسمها في المستقبل القريب.
خلال المرحلة الدراسية، كانت باقديل مهووسة بالقراءة عن العلوم الفيزيائية وكيفية تشكل الكون، وكان ألبرت أينشتاين أحد أهم دوافعها ومراجعها في الدراسة والبحث، ولإكمال مسيرتها التعليمية كان عليها الانتقال من مدينتها الأم إسطنبول إلى أنقرة، وتعليقًا على هذه الخطوة، تقول باقديل: “على الرغم من أن عائلتي أيدت قراري وشجعتني على اتباع شغفي، فإن بعضًا من أصدقائي وأقاربي قالوا لا يمكن للفتيات أن يغادرن المنزل حتى ولو للدراسة”.
كما تضيف باقديل أن أحد أستاذتها في الجامعة شكك في قرارها ولذلك لا تستغرب قلة الفتيات اللاتي يتواجدن في التخصصات العلمية، فحين دخلت قسم الفيزياء في جامعة بيلكنت التركية كانا ببداية الأمرة فتاتان في القاعة إلى أن انتقلت زميلتها إلى قسم آخر وباتت الفتاة الوحيدة.
أن تكوني امرأة تركية في فصل الفيزياء
تقول باقديل: “عندما كنت أدرس الفيزياء، شعرتُ أنني دخيلة/غريبة وكنت أحاول ألا أهتم بالتعليقات وأركز فقط على شغفي”، وتشير باقديل بذلك إلى الوقت الذي لم يكن فيه الحجاب مسموحًا بعد بالمؤسسات التعليمية في تركيا وتتذكر كيف اضطرت إلى خلع غطاء الرأس التقليدي واستبداله بقبعة لتغطية شعرها، ما جعلها تدرس تحت ضغطين وتصارع كلاهما، فالعقدة الأولى أنها امرأة تدرس العلوم والثانية تتمثل في إجبارها على تغيير مظهرها الخارجي وتقمص شخصية لم تكن تشببها إرضاءً للنظام وخوفًا من الطرد.
حين انتقلت باقيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009 لم يكن عليها الانشغال بشكلها فقد كانت البيئة أكثر ترحيبًا وانفتاحًا عما مرت به سابقًا، إلا أنها في نفس الوقت عاشت صدمة ثقافية
على كل حال، لم تدم هذه الصعوبات طويلًا، فحين انتقلت باقيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009 للحصول على درجة الماجستير في جامعة تكساس للتكنولوجيا وبعدها درجة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة مينيسوتا – توين سيتيز، لم يكن عليها الانشغال بشكلها، فقد كانت البيئة أكثر ترحيبًا وانفتاحًا عما مرت به سابقًا، إلا أنها في نفس الوقت عاشت في صدمة ثقافية وكان عليها التعامل مع عرقيات وأجناس وخلفيات مختلفة، ومع ذلك فقد حققت مرتبة أكاديمية وعلمية فهي تعمل حاليًّا كباحثة ما بعد الدكتوراه في جامعة أريزونا منذ عام 2017.
ماذا اكتشفت باقديل؟ وبماذا يهم اكتشافها؟
يعلم الجميع أن الكون يضم تريليونات المجرات التي تتخذ معظمها شكلًا حلزونيًا مثل مجرة درب التبانة، وهناك أنواع أخرى نادرة تستحوذ على أنظار العلماء الذين يسعون بشكل خاص لفهم التطور الكوني وكيفية تجمع المجرات ونشأتها وطبيعتها وتاريخها، وكانت مجرة “هوجز” الذي اكتشفها آرثر ألين هوج عام 1950 واحدة من هذه المجرات النادرة جدًا، التي اعتقد فريق باقديل أنهم اكتشفوا مجرة مشابهة لها من حيث نوع PGC 1000714، ولكن عندما بحثت باقديل أكثر في خصائصها وظروفها استنتجت أن هذه المجرة غير عادية ولديها المزيد من الأسرار للكشف عنها، تقول:
من بين جميع المجرات الأخرى المكتشفة، وقعت عينا باقديل على مجرة نادرة وعليها الآن أن تحل لغز تركيبها وسبب تكونها بالشكل الذي عليه الآن، ما يعني أنها افتتحت قسمًا جديدًا من الفضول والأسرار الكونية
“بين الحلقة الخارجية الزرقاء واللون الأحمر المركزي، وجدنا حلقة داخلية منتشرة بلون أحمر تحيط بالجسم المركزي، لقد كنا ننظر إلى مجرة لم يسبق رؤيتها من قبل“، وتكمل: “طوال الوقت نسمع عن أشخاص يكتشفون أشياء فريدة ونحن نعلم أن العالم مليء بالغموض وكوني جزءًا من هذا الغموض يشعرني بالحماسة”، فمن بين جميع المجرات الأخرى المكتشفة، وقعت عينا باقديل على مجرة نادرة وعليها الآن أن تحل لغز تركيبها وسبب تكونها بالشكل الذي عليه الآن، ما يعني أنها افتتحت قسمًا جديدًا من الفضول والأسرار الكونية.
حاليًّا، تتطوع باقديل في عدة برامج لتوجيه طلاب المدارس الثانوية أكاديميًا، وتناقش معهم مواضيع مختلفة مثل تحقيق التوازن بين العمل والحياة وخلق خطة مهنية، بالإضافة إلى ذلك تشارك في العديد من برامج التوعية لإشراك الطالبات في المواد العلمية والهندسية، كما تقوم بالترويج للنساء في المجالات العلمية والتكنولوجية والهندسية لتحسين وتهيئة الجو العام للنساء الأخريات في المستقبل، وبفضل هذه الجهود المتنوعة، حصدت باقديل جائزة “السيدة ليندا لارسون” لعام 2017.
تقول باقديل: “لا تتخلى عن فضولك العلمي بسبب الضغوط الخارجية، قد لا تكون الرحلة سهلة، لكن يجب أن تتبع شغفك”، وتضيف: “هذه هي قاعدة الحياة، قد لا تحصل على النتيجة التي تريدها في المحاولة الأولى، لكنك في النهاية، ستصل إلى ما تريد”
في النهاية، بينما تواصل باقديل وفريقها دراسة الكائن المثير للاهتمام، تأمل أن تكون قصتها مصدر إلهام للمهاجرين والطلاب الآخرين، وخاصة أولئك القادمين من المجتمعات المتواضعة، وتقول: “إنني دائمًا أؤكد أنه يجب عليك ألا تتخلى عن فضولك العلمي بسبب الضغوط الخارجية، قد لا تكون الرحلة سهلة، لكن يجب أن تتبع شغفك”، وتضيف: “هذه هي قاعدة الحياة أيضًا، قد لا تحصل على النتيجة التي تريدها في المحاولة الأولى، في كل مرة تفشل، تستيقظ وتحاول مرة أخرى، ثم في النهاية، ستصل إلى هناك، إلى ما تريد”.