في مسلسل “السيدة مايزل الرائعة The Marvelous Mrs. Maisel“، تصعد ميدج إلى مسرحٍ متواضع في حانةٍ قديمة في إحدى ضواحي نيويورك في خمسينات القرن الماضي، بعد أنْ أخبرها زوجها أنه ينوي تركها لتورّطه بعلاقة عاطفية أخرى. ميدج التي انهارت بكاءً في البداية، تبدأ بشكلٍ عفويٍ بسرد بعض تفاصيل حياتها بأسلوبٍ تهكّميّ ساخرٍ مملوءٍ ببعض الألم أمام عددٍ قليلٍ ممّن جاؤوا إلى الحانة.
ففي مجتمعٍ يهيمن عليه الرجال وقتها، شّقت ميدج طريقها في عالم الكوميديا والستاند أب كمحاولةٍ منها للتخلص من التقاليد الدينية والاجتماعية التي فُرضت عليها وعلى حياتها من جهة، وللتخلّص من “الصدمة” التي تعرّضت لها جرّء هجر زوجها وخيانته، على الرغم من كونها تمتلك المعايير المثالية للأنثى الجميلة والزوجة الرائعة والأمّ الجيّدة.
رايتشل بروسنان بدور “ميدج” في مسلسل “السيدة مايزل الرائعة”
الأمر ليسَ جديدًا في عالم السينما والتلفزيون، فالكثير من المسلسلات والأفلام صوّرت لنا الكوميديا والفكاهة والضحك بوصفهما جميعًا وسيلةً قادرةً على علاجنا وشفائنا من مآسي حياتنا وقلقنا اليوميّ ونستطيع من خلالها التأقلم مع صدماتنا وذكرياتنا المؤلمة والعالقة. ولعلّ هذه النقطة تجسّدت أكثر ما تجسّدت في أفلام وودي ألان وروبن وليامز وجيم كاري وغيرهم الكثيرين.
لكنّ انتحار روبن وليامز عام 2014 عن طريق شنق نفسه في منزله بولاية كاليفورنيا، جعلنا وجعل الكثير من الدارسين لعلم النفس نتساءل عن قدرة الاكتئاب على التواجد والحضور في حياة شخصٍ لطالما عُرف عنه امتلاءه بالكوميديا والفكاهة وقدرته العالية على الضحك وإضحاك الآخرين.
الكوميديا تطهيرًا للمعاناة والصدمات
يمكننا القول أنّ الكوميديّين فغالبًا ما يلجؤون لاستخدام الفكاهة والكوميديا كوسيلة دفاعية ضدّ الصدمات والقلق يستطيعون من خلالها تحويل غضبهم المكبوت داخليًا إلى كلماتٍ يبوحون بها. وعلى الرغم من الأهمية التي تحتلّها الفكاهة والكوميديا في المجتمعات، إلا أنّها لم تأخذ مساحتها الكافية في أدبيات الفلسفة وعلم النفس وعلوم الأعصاب والدماغ إلا مع بدايات القرن التاسع عشر، لا سيّما مع أطروحات عالم الاجتماع والفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، ومن بعده سيجموند فرويد، اللذين اعتقدا أنّ النكتة والضحك هما وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة عند الفرد.
الفكاهة، عند فرويد، هي واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، خاصة النكتة، لأنها تصدر، كما يعتقد، كآلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات الداخلية
ففي كتابه “النكتة وعلاقتها باللاوعي”، ركّز فرويد على أهمية النكتة بالنسبة للإنسان باعتبارها نافذة أو وسيلة “تنفيس” و”تفريغ” للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة. إذ تصبح النكتة وسيلة تعبير رئيسية ولسان حال الأفراد والشعوب في حالات الكبت السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي. وهنا يمكن تفسير الأمر رجوعًا لفرويد على أنه محاولة مواجهة القهر والكبت بالضحك. فالفكاهة، عند فرويد، هي واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، خاصة النكتة، لأنها تصدر، كما يعتقد، كآلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات الداخلية.
ولو عدنا للكوميديا اليونانية القديمة، لوجدنا أنّ هدفها كان ينسجم تمامًا مع رؤية فرويد للنكتة؛ إذ نظر الإغريق إليها بوصفها وسيلة للتنفيس والتطهير لأنها تقدم لهم الواقع اليومي بصورة جميلة ومضحكة، وتحاكي الطباع من خلال الفعل الذي تحمله صفة ما لشخصية واقعية أو خيالية أو تاريخية أو سياسية.
الوجه الآخر للكوميديا: اكتئابٌ مُزمن واضطراباتٌ عديدة
روبن وليامز ليس المثال الوحيد للكوميديّ الذي تمكّن منه الاكتئاب والقلق والشكّ وانعدام المعنى. فوفقًا لإحدى مقابلاته الصحفية، اعتبر وودي ألان أنّ نشاطاته الكوميدية الإبداعية لم تمكّنه من التعامل مع صراعاته الداخلية وتعاسته الوجودية التي طغت على حياته، حتى بدأ في سنٍّ صغيرٍ، 24 عامًا تقريبًا، بحضور جلسات العلاج النفسيّ.
أدرك ألان مبكّرًا بأنّ الضحك والكوميديا يستندان بطبيعتهما إلى الألم والمعاناة، وهو الأمر الذي اعتمد عليه في أفلامه جميعها لتمثيل الحالات النفسية المضطربة. فالكوميديا السوداء التي استخدمها كانت وسيلةَ تنفيسٍ لتنظيم فوضى الحياة المعاصرة. لكن هل كانت الكوميديا فعلًا قادرة على شفائه وشفاء غيره من الكوميديّين؟
وجدت دراسة أنّ الكوميديّين لديهم قدرةً أقل على الشعور بالمتعة الشخصية والاجتماعية، ونظرة أكثر قتامةً للإنسانية والحياة ويمتلكون سماتٍ سلبية مثل المزاجية والانطواء الاجتماعي
يمكننا بدايةً الاستعانة ببعض الدراسات والأبحاث للإجابة عن هذا السؤال. فقد أكدت دراسة من جامعة أكسفورد ونُشرت في المجلة البريطانية للطبّ النفسيّ، وقارنت بين 523 كوميديًّا و364 ممثلًا و831 من المهنيين غير المتخصصين، على أنّ “البريطانية للطب النفسي ، قارنوا بين 523 من الكوميديين ، و 364 ممثلين و 831 من المهنيين غير المتخصصين. وخلصت إلى أن “العناصر الإبداعية اللازمة لإنتاج الفكاهة تشبه إلى حد مذهل تلك التي تميز النمط المعرفي للأشخاص المصابين بالاضطراب العقلي أو النفسي، مثل الاكتئاب والفصام والاضطراب ثنائي القطب”.
خلصت الدراسة نفسها إلى أنّ الكوميديّين بشكلٍ عام لديهم قدرةً أقل على الشعور بالمتعة الشخصية والاجتماعية، ولديهم نظرة أكثر قتامةً للإنسانية والحياة ويمتلكون سماتٍ سلبية مثل المزاجية والانطواء الاجتماعي والميل إلى التفكير الجانبي. وفي الوقت نفسه، قد يحفّزهم الاكتئاب والاضطراب للبحث عن طرق تخفّف من حالاتهم المزاجية المنخفضة، لتصبح الفكاهة لديهم شكلًا من أشكال العلاج الذاتي.
من جهته، درس الطبيب النفسي الأمريكي “صمويل يانوس” شخصية 69 من الكوميديين “المشهورين والناجحين” ليجد أنهم يميلون إلى التفوق في الذكاء، ولكن في الوقت نفسه فغالبًا ما يشعرون بسوء الفهم والغضب والقلق والشك والاكتئاب والقلق بشأن القبول ونيل الاستحسان. إضافةً إلى أنّ الصفة المشتركة بينهم جميعًا، وفقًا ليانوس، كانت حياتهم المبكّرة التي امتازت في كثيرٍ من الأحيان بالمعاناة والعزلة ومشاعر الحرمان.
الأشخاص الذين يستخدمون أسلوب الفكاهة الذاتية السلبية عادةً ما يكونون أكثر عرضة لخطر الاكتئاب والأفكار الانتحارية
4 أساليب للفكاهة
واحدة من التفسيرات المحتملة تشير إلى أن السر قد يكمن في أسلوب الفكاهة الذي يتبنّاه الكوميديّ كطريقة للتعامل مع الحياة. إذ تنقسم الفكاهة إلى 4 أساليب أساسية؛ منها “الفكاهة التوادّية” أو ” Affiliative humor” وهي ما يهدف إلى تحسين علاقات المرء بالآخرين من خلال إضحاكهم وإمتاعهم والحد من التوتر بينهم.
فيما ينطوي أسلوب “الفكاهة الذاتية” على تعزيز النظرة الفكاهية للحياة، خاصة في الأوقات العصيبة كامتلاك القدرة على السخرية من النفس وما يحدث معها ومحاولة العثور على الفكاهة في مواقف الحياة اليومية بشكلٍ دائم، منها ما قد يكون إيجابيًا “Self-enhancing humor” ومنها ما هو سلبيّ وغير صحّي “Self-defeating humor” يسعى إلى تدمير الذات والسخرية منها . أما “الفكاهة العدوانية” أو “Aggressive humor” فعادة ما تنطوي على السخرية من الآخرين والتنمّر عليهم، لا سيّما وأنها تستهدف أفرادًا أو جماعاتٍ بعينهم دون غيرهم.
تشير الأبحاث أنّ الأشخاص الذين يستخدمون أسلوب الفكاهة الذاتية السلبية عادةً ما يكونون أكثر عرضة لخطر الاكتئاب والأفكار الانتحارية عندما يواجهون ضغوطًا أو أعباءً حياتية. أمّا أولئك الذين يلجؤون إلى الفكاهة التوادّية فقد تعمل فكاهتهم لوقايتهم من أعراض الاكتئاب والاضطرابات النفسية والتفكير بالانتحار.
ومنا هنا، نستطيع القول أنّ الفكاهة والكوميديا، لا سيّما تلك التي نراها على شاشات التلفاز وفي مشاهد الأفلام والمسلسلات، قد لا تكون سوى غطاءً سطحيًا للعديد من المشاكل والاضطرابات الداخلية كالاكتئاب والقلق والشدّ العصبي، إمّا لطبيعة الحياة الفنية المليئة بالقلق والمصاعب، أو لاضطراب هويّاتي يحدث بين هويّتهم الواقعية وتلك التي يتقمّصونها بالأفلام، مثل روبن وليامز وجيم كاري وهيث ليدجر وغيرهم الكثير.
لكن والأهم من ذلك، فكّر بمن حولك من أصدقاء أو معارف، هل من المعقول أنْ تكون فكاهتهم والكوميديا التي يصنعونها ويأتون بها وسخريتهم على ما في الحياة والوجود، مجرّدَ غطاءٍ وهميٍّ لألمٍ حقيقيّ واكتئابٍ مرضيّ لا يظهر للخارج لكنه يسلك طريقه ببطءٍ شديد في حياتهم الداخلية وهم مشغولون عنه؟