خطا مشروع قانون تعديل أحكام المواريث لإقرار المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، الذي أعلنه في أغسطس الماضي الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، أولى خطواته العملية يوم الجمعة الماضية ليصبح أمرًا واقعًا، بعدما حصل القانون المتعلق بإتمام الأحوال الشخصية على مصادقة مجلس الوزراء الذي أشرف عليه السبسي شخصيًا، على أن يتم تحويله إلى البرلمان، لدراسته في لجنة برلمانية أولاً، ثم طرحه للتصويت في جلسة عامة في غضون أشهر.
تسبب قرار مصادقة مجلس الوزراء التونسي على مشروع القانون التونسي بجدل واسع في مصر وداخل أروقة المؤسسات الدينية العريقة، وبدا من خلال محطات السجال التي دونتها المواقف المتباينة بين رجال الدين في مصر أن القانون الذي لم يُطرح بعد للنقاش في برلمان تونس، يشغل مؤسسة الأزهر – بل مؤسسة الرئاسة – أكثر مما يشغل جامع الزيتونة في تونس.
القرار في تونس والجدل في مصر
تقوم قوانين الميراث – المستمدة من الشريعة الاسلامية إجمالاً – في تونس على قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” المنصوص عليها في القرآن الكريم، لكن مشروع القانون الجديد يريد عكس الآية بجعل المساواة هي القاعدة العامة، مع تمكين المواطنين الراغبين في الاستثناء منها، سواء لأسباب دينية أم غيرها.
خلق القرار التونسي حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من أي عاصمة إسلامية أخرى، بين مؤيد ومعارض لمشروع القانون، ودعوات لتطبيقه في مصر
ورغم أن القرار يخص تونس، فإن دولاً إسلامية عدة تراقب ما يحدث هناك، باعتبار أن مسألة الميراث في العرف الإسلامي بقيت على حالها بعد مرور 1400 عام على نشأة الإسلام، ما يجعل خطوة تونس الجريئة بتعديل هذا الأمر محل شك وريبة في عواصم إسلامية.
في القاهرة، حيث يقع الأزهر الشريف، خلق القرار التونسي حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من أي عاصمة إسلامية أخرى، بين مؤيد ومعارض لمشروع القانون، ودعوات لتطبيقه في مصر.
قلة قليلة من الأزهريين رحبوا بالخطوة التونسية فيما أبقى السواد الأعظم من الأزهريين على رفضهم لها وبشدة، وبلغ الرفض حد اعتبار تونس “دولة غير إسلامية” ونظامها “غير مسلم”، خاصة بعد أن أطلق أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر سعد الدين الهلالي، فتوى تبيح ما قامت به تونس، معتبرًا أن قرارها “صحيح فقهيًا ولا يتعارض مع كلام الله”.
الهلالي، المعروف بآرائه الشاذة وقربه من النظام (سبق له تشبيه السيسي ووزير داخليته السابق محمد إبراهيم بالأنبياء) أثار الجدل مجددًا بعد يوم واحد من القرار التونسي، وفي مداخلة هاتفية لبرنامج “الحكاية” المذاع على قناة “MBC مصر”، الذي يقدمه عمرو أديب المقرب من النظام، أضاف أن “الميراث مسألة حقوق يكون للناس الحق في التعامل بها، وليست واجبات مثل الصلاة والصوم”، مشيرًا إلى أن “الفقيه تتغير فتواه بتطور ثقافته بمرور الوقت، متابعًا: “سنصل إلى ما وصلت إليه تونس بعد عشرين عامًا من الآن”.
“ما هكذا يا سعد تورد الإبل.. هذا دين سنُسأل عنه يوم القيامة”، يرد مفتي الجمهورية السابق علي جمعة بهذا القول على الهلالي، ورغم أنه يتشابه معه في قربه من السلطة الحاليّة في مصر، فإنه خرج ليؤكد أن المساواة في الميراث مخالفة للشريعة الإسلامية، وقال: “حاشا أن تسير مصر على نهج تونس”.
وبلغ الغضب من مشروع القانون التونسي حد اعتبار مفتي مصر السابق أن “تونس بلد غير إسلامي ولا تنص في دستورها على ذلك، وأن النظام لا يعترف أن الدين الرسمي هو الإسلام”، كما جاء في لقاء تليفزيوني على قناة “CBC“، غير أن كلام جمعة يتعارض مع المادة الأولى من الدستور التونسي، الذي ينص على أن “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”.
وحسمت دار الإفتاء المصرية الجدل الإعلامي بشأن المساواة بين الرجال والنساء في الميراث من خلال موقف مفتى مصر الحاليّ شوقي علّام، والذي لم يختلف عن موقف مفتيها السابق، لكن لم يشر صراحة إلى دولة تونس، حيث أكد في بيان نشره على صفحته الرسمية على فيسبوك أن المساواة في الميراث “أمر مخالف للشريعة الإسلامية وإجماع العلماء على مر العصور”، مضيفًا “الاجتهاد في مثل تلك الحالات يؤدي إلى زعزعة الثوابت التي أرساها الإسلام”.
الأزهر على الخط
تسبب حديث الهلالي الذي ينتمي لمؤسسة الأزهر بتخوف الأزهر نفسه من أن يعتبر البعض كلامه معبرًا عن رأي الأزهر؛ لذلك خرجت المؤسسة الدينية “جامعة الأزهر” بعد تصريحات الهلالي بوقت قصير لتتبرأ منه، وقال المتحدث باسمها أحمد زارع: “الهلالي لا يمثل الجامعة في قليل أو كثير، بل يمثل شخصه، وما قاله يخالف نص القرآن ومنهج الأزهر”، مشيرًا بلهجة حادة إلى أن مجلس الجامعة يبحث الموقف مما قاله الهلالي.
أنا مع المساواة في الميراث بين الابن والابنة، وأصريت على توزيع ميراث أبي بالتساوي مع إخوتي البنات بعد وفاة والدي، أنا مؤمن بالعدل والرحمة والحق بعقلي وبقلبي، وأطبق إيماني أيضا بعقلي وقلبي، لأني بدونهما حمار يحمل أسفارا.
— Amr Salama (@amrmsalama) November 26, 2018
وبدا من لهجة الهلالي الثورية أنها أعجبت ليبراليي مصر، كما بدا في تغريدة المخرج عمرو سلامة، لكنها أغضبت إسلامييها في نفس الوقت، خاصة المنتمين لمؤسسة الأزهر، وفي رد مفصل على تصريحات الهلالي، أصدر مركز الأزهر العالمي للفتوى تقريرًا مطولاً بعنوان “ميراث المرأة في الإسلام”، أفاد خلاله أن الشريعة الإسلامية تميزت بصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومراعاتها جميع أحوال الناس على تنوعهم واختلافهم، لما تمتعت به من مرونة.
لم يكتف الأزهر بما سبق، بل حسمت هيئة كبار العلماء (أعلى هيئة في الأزهر الشريف) الجدل الإعلامي الذي اندلع على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام المصرية، عبر بيان حاد اللهجة استنكرت فيه فتاوى لعلماء قريبين من السلطة يرون أنه لا بأس في تجاوز النصوص القرآنية المتعلقة بنصيب الرجل والمرأة في الميراث، وحذرت من المساس بأحكام القرآن الكريم بعد دعوات بتغيير وضع الميراث.
وبلهجة حادة، قالت الهيئة في بيانها الصادر يوم الإثنين الماضي إنها “تتصدى لهذه القضايا انطلاقًا من المسؤولية الدينية التي اضطلع بها الأزهر الشريف منذ أكثر من ألف عام”، ووصف كبار علماء الأزهر المجتهدين في مسألة الميراث بـ”المضللين”، وقالوا في بيانهم: “من تلك القضايا التي زاد فيها تجاوز المضللين بغير علم في ثوابت قطعية معلومة من الدين بالضرورة، ومن تقسيم القرآن الكريم المحكم للمواريث، ما يتعلق بنصيب المرأة فيه، الذي ورد في آيتين محكمتين من كتاب الله المجيد في سورة النساء، وهو أمر تجاوزت فيه حملة التشنيع الجائرة على الشريعة كل حدود العقل والإنصاف”.
كان رفض الأزهر لدعوات المساواة في الميراث قد بدأ العام الماضي عندما أثيرت القضية في تونس، وحينها ندد شيخ الأزهر بالفكرة ووصفها بأنها “جامحة تستفز الجماهير المسلمة”، لكن اللافت هذه المرة هو حذف بيان هيئة كبار العلماء من مواقع صحفية رسمية وأخرى خاصة محسوبة على السلطة في مصر بعد نشره بساعات قليلة.
في إشارة إلى تصاعد حجم الخلاف بين الرئاسة المصرية، والمؤسسة الدينية الأكبر في العالم الإسلامي، طالت تعليمات الحظر القنوات الفضائية، بعد إبلاغها أن التعليمات صادرة من مؤسسة الرئاسة،
وفي سابقة هي الأولى من نوعها، قامت صحيفة الأهرام الحكومية وصحف اليوم السابع والوطن ومصراوي الخاصة بحذف الخبر، بعد صدور تعليمات رئاسية تحظر نشر البيان الرافض لدعوات المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، بحسب معلومات نقلها موقع “عربي21” عن عاملين في عدد من الصحف المصرية.
وفي إشارة إلى تصاعد حجم الخلاف بين الرئاسة المصرية، والمؤسسة الدينية الأكبر في العالم الإسلامي، طالت تعليمات الحظر القنوات الفضائية، بعد إبلاغها أن التعليمات صادرة من مؤسسة الرئاسة، فيما بدا التركيز واضحًا على بيان مفتي الديار المصرية شوقي علام، والكلمة المتلفزة للمفتي السابق علي جمعة.
ما هو أبعد من قضية المواريث
كانت تصريحات شيخ الأزهر من العناوين التي تسارع الصحف المصرية لنشرها في صدر صفحاتها الأولى، وتحظى باهتمام بالغ، وظل نقد شيخ الأزهر من الأمور التي تسبب لصاحبها متاعب كبرى، وآخرها كان الحكم بحبس وتغريم الصحفي أحمد الخطيب في جريدة الوطن، وذلك قبل عامين.
لهذا السبب أثار حذف بيان هيئة كبار العلماء موجة من التكهنات والاستنكار، فيما لا تبدو قضية المواريث هي السبب الرئيسي في الهجوم على شيخ الأزهر، إذ نشرت وسائل إعلام رسمية في الوقت نفسه تصريحات استنكار للمساواة في المواريث صرح بها علماء دين رسميون.
وسائل إعلام مصرية تثني على الرئيس عبد الفتاح السيسي وتهاجم شيخ الأزهر أحمد الطيب
لكن حذف البيان – الذي جاء عقب هجوم إعلامي ضار على شيخ الأزهر من مؤسسات إعلامية رسمية – كان دليلاً إضافيًا على اتجاه السلطة لحصار الأزهر وشيخه، الذي لا يبدي مرونة مطلوبة مع السلطة في القضايا التي تريد دعمه فيها، ويمنع دستور العام 2014 عزل شيخ الأزهر.
ووفقًا لقانون الأزهر الذي تم إقراره في يناير/كانون الثاني 2012، ونص على انتخاب شيخ الأزهر وانتهاء خدمته ببلوغه سن الثمانين، يكتسب شيخ الأزهر حصانة في منصبه تجعله غير قابل للعزل، إضافة إلى أن تقاعد أحمد الطيب لن يكون قبل 9 سنوات حين يتخطى الـ80 عامًا.
حذف بيان هيئة كبار العلماء كان دليلاً إضافيًا على اتجاه السلطة لحصار الأزهر وشيخه، الذي لا يبدي مرونة مطلوبة مع السلطة في القضايا التي تريد دعمه فيها
وجاء الهجوم الإعلامي الواسع على الأزهر وشيخه من منصات تابعة لنظام السيسي، بعد خطاب ألقاه الطيب في ذكرى المولد النبوي الشريف، بدا فيه متمسكًا بالسنة ومهاجمًا منكريها ومؤكدًا أهميتها، بينما رد السيسي متسائلاً “هل من طالبوا بترك السنة والاكتفاء بالقرآن هم من أساؤوا للإسلام أكثر، أم أصحاب الفهم الخاطئ والمتطرف؟”.
المبارزة الكلامية التي نشبت بين الطيب والسيسي فتحت الباب أمام وسائل إعلام ونخب ثقافية ودينية للتباري في إرضاء السلطة بطرح رؤى وأفكار اعتبروها “تجديدية”، في مقابل ما رآه محللون في طرح الطيب مناقضًا لدعوة الرئيس المصري لتطوير الخطاب الديني الذي لا يترك السيسي مناسبة إسلامية حتى يعيد تأكيد دعوته إلى تجديده.
لكن تعليق السيسي الأخير ومطالبته بتجديد الخطاب الديني دون تحديد لهذا التجديد أعطت الضوء الأخضر للهجوم الإعلامي الذي وصل حد قيام مجلة روز اليوسف الحكومية بنشر صورة الطيب على غلافها مرفقة بعناوين توحي بأنه راعي الفكر الإرهابي، بينما يكيل الإعلام المديح للرئيس واصفين إياه بـ”المجدد”، الذي دائمًا ما يطالب بتجديد الخطاب الديني.
وضمن حملة الهجوم الواسعة، جرى استدعاء مواقف سابقة لشيخ الأزهر، اعتبرها القائمون على تلك المؤسسات الصحفية برهانًا على أنه يرفض التعاون في محاربة الإرهاب، إن لم يكن يدعمه، ومنها موقفه من رفض تكفير تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فهل تصبح عاصفة تجديد الخطاب الديني التي يقودها السيسي بابًا للمناصب العليا، أم تقتلع معها ثوابت دينية على غرار أحكام الميراث؟