ترجمة وتحرير: نون بوست
لم تكن بداية حياة شام سهلة. تتذكر والدتها كوثر محمد، وهي لاجئة سورية تعيش في تركيا الآن، ما حدث لها، حيث قالت: “كنت في غرفة الولادة، وكنت أتألم وأنا مستلقية على سرير المستشفى لكن القابلات لم يساعدنني. وكن يتسائلن قائلات: ‘هل تهربين من الحرب وتمارسين الجنس؟’. لقد نعتوني بصفات سيئة لا أود تكرارها وتركوني بمفردي.
أضافت كوثر قائلة: “لقد كنت أتوسل إلى عاملة النظافة لمساعدتي ومناداة الطبيب. وعندما عادت ومعها الطبيب كان طفلي قد ولد بالفعل”. هكذا جاءت شام إلى العالم، بعيدا عن حلب، مسقط رأس والديها وإخوتها الثلاثة. وقد أخبرت والدتها موقع “ميدل إيست آي” أن شام ولدت في سنة 2014 في إسطنبول، بعد سنتين من فرار عائلتها من سوريا.
أطلقت كوثر على ابنتها اسم العاصمة السورية، دمشق، التي يطلق عليها شام باللغة العربية والتركية، وهي مدينة ربما لن يتمكن السوريون الذين ولدوا في تركيا من زيارتها مطلقا. ووفقا لبعض الإحصاءات الرسمية، تعتبر شام واحدة من بين 385.431 طفل ولدوا لأبوين سوريين في تركيا بين شهر نيسان/أبريل 2011 وتشرين الثاني/نوفمبر 2018. ويساوي هذا العدد إجمالي عدد سكان مدينة فلورنسا الإيطالية.
القليل من جوازات السفر والكثير من الأخبار الزائفة
شأنها شأن الغالبية العظمى من الأطفال السوريين في تركيا، ولدت شام دون جنسية. وقد حصلت هي وأسرتها على الجنسية التركية منذ سنة ونصف، لكن حالتهم تعتبر استثناء. فمن بين 3.5 مليون سوري في تركيا، تحصل 59 ألفا فقط على الجنسية، أي أقل من 2 بالمائة، خلال السنوات السبع الأخيرة.
قال سليمان صويلو وزير الداخلية التركي: “إذا قررت الدولة منح الجنسية لجميع هؤلاء الأطفال السوريين، فعند عودتهم إلى بلادهم غدا حاملين معهم تجاربهم التي مروا بها هنا وجواز سفرهم التركي، يمكنهم الحديث حينها عن معنى الأخوة بالنسبة لهذا البلد”.
من جانبه، أكد ﻣﻌﻬﺪ “أومبودسمان” التركي في تقريره الأخير “الخاص عن السوريين في تركيا” أن وجود أطفال مثل شام في تركيا يمكن اعتباره علامة على رغبة السوريين في البقاء هناك بشكل دائم”. وذكر التقرير، الذي حذر من سياسات الاندماج التي يمكن أن تزيد من “خطر” بقاء السوريين في البلاد، من أنه “إذا لم يكن المجتمعين السوري والتركي مستعدان بشكل مناسب لإمكانية بقاء السوريين في تركيا بشكل دائم، فقد يؤدي هذا الوضع إلى ظهور العديد من المشاكل الخطيرة”.
ولدت شام، التي تبلغ أربع سنوات الآن، في تركيا بعد بضع أشهر من وصول عائلتها إلى البلاد.
أضاف تقرير المعهد التركي أنه “في حال أصبح من الصعب تفادي العيش مع مجموعة سكانية تبلغ نسبتها 4 بالمائة من سكان البلاد، ستكون تكاليف تأجيل سياسات الإدماج لتجنب حث السوريين على البقاء، أعلى”. وخلال خطاب له أمام البرلمان في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، تطرق وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، إلى أهمية احتضان أطفال مثل شام.
في هذا الصدد، قال صويلو: “إذا قررت الدولة منح الجنسية لجميع هؤلاء الأطفال السوريين، فعند عودتهم إلى بلادهم غدا حاملين معهم تجاربهم التي مروا بها هنا وجواز سفرهم التركي، الذي يحمل رمز النجمة والهلال، يمكنهم الحديث حينها عن معنى الأخوة بالنسبة لهذا البلد”. لكن، في الوقت الحالي، ليست هناك أي محاولة من جانب الحكومة التركية لمنح الجنسية للأطفال السوريين المولودين في تركيا على نطاق واسع.
قصص مخيفة
مع ذلك، لم توقف هذه التصريحات سيل الأخبار الزائفة حول هذا الموضوع، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فقد زعمت تغريدة على موقع تويتر، نُشرت في شهر أيلول/ سبتمبر، أنه خلال الأشهر الستة الماضية وُلد 225 ألف طفل سوري في تركيا. وأضافت التغريدة أنه “يجب على الأتراك أن يفيقوا من سباتهم”. وقد حظيت هذه التغريدة بإعجاب الآلاف وتمت إعادة مشاركتها أكثر من 1.300 مرة.
لا تعد تركيا من البلدان التي تطبق قانون حق المواطنة بالولادة، الذي يقضي بمنح الجنسية بصفة تلقائية للأطفال الذين وُلدوا على أراضيها.
في المقابل، تشير الأرقام الرسمية إلى أن معدل الولادات في السنة يتراوح بين 50 و55 ألف طفل، أي أقل من ربع العدد الذي أشارت إليه هذه التغريدة المثيرة للذعر. ووفقا لتيت، وهي منظمة تقوم بتدقيق الحقائق في تركيا وتهدف لمنع انتشار المعلومات الكاذبة على الإنترنت، تمت مشاركة منشور إخباري مزيف أكثر من أربعة آلاف مرة على موقع فيسبوك. علاوة على ذلك، انتشر خبر كاذب آخر على نطاق واسع لدرجة أن السلطات في مدينة هاتاي الحدودية التركية اضطرت إلى إصدار بيان رسمي يدحض الإشاعة القائلة إن الأطفال السوريين المولودين في تركيا قد أصبحوا مواطنين أتراك.
لماذا يعد هؤلاء الأطفال عديمو الجنسية؟
لا تعد تركيا من البلدان التي تطبق قانون حق المواطنة بالولادة، الذي يقضي بمنح الجنسية بصفة تلقائية للأطفال الذين وُلدوا على أراضيها. عوضا عن ذلك، يُمنح حق المواطنة عموما بناء على الجنسية التي يحملها الوالدين، والذي يُعرف بحق الدم. وينص القانون التركي على أن “الطفل المولود في تركيا، الذي لم يتحصل على الجنسية من والده أو والدته الأجنبية، يتحصل تلقائيا على الجنسية التركية إثر ولادته”.
في الأثناء، يشار للاجئين السوريين في تركيا على أنهم “أجانب خاضعين للحماية المؤقتة”. بعبارة أخرى، هم لا يُعتبرون لاجئين بشكل رسمي. ويؤكد السياسيون في كثير من الأحيان أن هؤلاء السوريين لا يملكون صفة رسمية في البلاد، وهم عبارة عن “ضيوف”. من هذا المنطلق، يعتبر الأطفال المولودين في تركيا لأبوين سوريين مواطنين سوريين، كما تؤكد بطاقات الهوية التي تقوم السلطات التركية بإصدارها على ذلك.
لكن هناك مشكلة، إذ أن الدولة السورية ليست على علم بوجود مواطنين لها حديثي الولادة، لأسباب عديدة. وقد كشفت رغد حذيفة، وهي أم سورية لطفل يُدعى ملهم وُلد في مدينة إسطنبول سنة 2015، لموقع “ميدل إيست آي” قائلة: “أنا أبذل ما في وسعي حتى لا أُشرك القنصلية السورية في هذا الأمر”، مضيفة أن زوجها هو عضو في المعارضة كان قد فقد شقيقيه في ظل ظروف فظيعة في السجون التابعة للنظام.
رغد حذيفة وابنها ملهم.
كشفت أم أمير، وهي أم لأربعة أطفال طلبت عدم الكشف عن هويتها، لموقع “ميدل إيست آي” عن كتيب صغير رسمي صادر عن السلطات السورية لا زالت تحتفظ به في كيس بلاستيكي. وتوحي الطريقة التي تتعامل بها أم أمير مع هذا الكتيب بأنه وثيقة ذات أهمية بالغة. وتحتوي هذه الوثيقة الهامة على كل ما يتعلق بهويتها هي وزوجها وأولادها الثلاثة الذين أنجبتهم في سوريا.
لكن أصغر أطفالها، وهو أمير الذي يبلغ من العمر أربع سنوات، والذي ولد في تركيا بعد شهرين فقط من فرارهم من سوريا، ليس مدرجا في ذلك الكتيب. في هذا الشأن، صرحت أم أمير أن “القنصلية تطلب منا مبالغ مالية طائلة لا يمكننا توفيرها”. وفي ذات الوقت، سحبت أم أمير وثيقة أخرى أصدرتها السلطات التركية، من نفس الكيس البلاستيكي، والتي كانت تحمل صورة ابنها أمير.
إبّان وصولهم إلى الأراضي التركية، وقع تسجيل كافة أفراد العائلة، وذلك من خلال منح أم أمير وزوجها وأطفالها الثلاثة “رقما عائليا”. وتستخدم أرقام الهوية هذه في جميع بطاقات الهوية السورية الصادرة في تركيا. ويحمل جميع أفراد العائلة أرقام هوية متطابقة، غير أن الابن الأصغر يحمل رقما عائليا مختلفا. وقد أعربت والدته عن قلقها إزاء هذه المسألة، حيث قالت: “أردنا أن نصحح هذا الأمر، لكن السلطات التركية طلبت منا وثائق لا نملكها”.
تتفق أمهات كل من ملهم وأمير وشام على أنه رغم مواجهتهن في أغلب الأحيان لمشاكل عديدة عند محاولة فهم البيروقراطية التركية المعقدة والمتغيرة، إلا أنه بمجرد أن تم تسجيل أطفالهن في النظام صاروا يتلقون معاملة جيدة.
واجهت والدة ملهم مشكلة مماثلة، إذ أرادت تسجيل اسم ابنها في الشهادة العائلية الصادرة عن السلطات التركية وتقدمت إلى السلطات المختصة بطلب في هذا الغرض، غير أنه قوبل بالرفض بحجة أنها لا تحمل الجنسية التركية، علما وأنها عقدت قرانها في تركيا.
العقبات التي تواجههم في المدرسة
تتفق أمهات كل من ملهم وأمير وشام على أنه رغم مواجهتهن في أغلب الأحيان لمشاكل عديدة عند محاولة فهم البيروقراطية التركية المعقدة والمتغيرة والمصممة لإدارة أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري في البلاد، إلا أنه بمجرد أن تم تسجيل أطفالهن في النظام صاروا يتلقون معاملة جيدة. فقد كانت الخدمات الصحية للأطفال مجانية، كما تتم متابعة برنامج التلقيح عن كثب. لكن أمهات الأطفال المولودين في سوريا كانت لديهن مخاوف أخرى، ألا وهي كيف سيتمكن أطفالهن من الاندماج داخل المجتمع التركي؟
تجدر الإشارة إلى أن مرحلة ما قبل المدرسة ليست إجبارية، لكن ينبغي على الطفل الذي بلغ سن السادسة الدخول إلى المدرسة، وهي مرحلة إلزامية تمتد على 12 سنة، علما وأن الجنسية لا تأخذ فيها بعين الاعتبار. فحتى الأطفال الذين ليس لديهم أي أوراق رسمية يتمتعون بحق الالتحاق بالمدرسة بموجب القانون التركي. لكن من الناحية العملية، ليس هذا هو الحال دائما. فقد كان أشقاء شام الأكبر منها يدخلون ويخرجون من المدرسة على مر السنين، لكن جميعهم يتلقون تعليما في الوقت الحالي.
في المقابل، انقطعت شقيقتا أمير وأخوه الأكبر منه عن الدراسة، وكما أوضحت والدتهم “لم يكونوا قادرين على فهم المعلم”، مشيرة إلى العائق اللغوي الذي حال دون مواصلتهم لدراستهم. ويرتاد كل من أمير وشام رياض أطفال سورية. وقد كشفت أمهاتهم عن رغبتهن في أن يتعلم أطفالهن اللغة العربية في المقام الأول. وقد يكون الذهاب إلى حضانة تركية عائقا أمام تحقيق رغبتهن، وهو ما يثير قلقهن.
قالت والدة شام: “لقد نسي الأطفال الأكبر سنًا العديد من الكلمات باللغة بالعربية. إنه لمن المهم ألا ينسوا لغتهم”. وكان لرغد وجهة نظر مماثلة، إذ أنها تفكر في تعليم ابنها ملهم اللغة العربية في المنزل مستقبلا. مع ذلك، فهي تسعى أيضًا إلى تعليمه اللغة التركية، والتحدث معه بهذه اللغة، بمساعدة أختها التي تدرس اللغة التركية في الكلية. وقالت رغد في هذا السياق: “أريد أن يتعلم ابني اللغة العربية مني، وأن يتعلم اللغة التركية من أختي، كي أجعله يتعلم كلتا اللغتين جيدًا”.
يشكل التكيّف في المدارس في تركيا تحديًا للأطفال السوريين.
تعمل كوثر في جمعية تكافح عمالة الأطفال السوريين، وقد جعلها عملها تتعرف على الكثير منهم. وذكرت أن بعض هؤلاء الأطفال يظلون أحيانا بمفردهم خارج الصف، لأن زملائهم لا يرغبون في التواصل معهم. وأوضحت كوثر أن “الأطفال الأتراك يتعلمون هذه التصرفات من آبائهم، لأن الأطفال لا يتخذون مسبقا هذه المواقف المتحيزة”. وتخشى رغد أن يتعرض ابنها للتمييز العنصري في حال التحاقه بالمدرسة، إما من زملائه في الفصل أو من مدرس غير صبور. وأوردت رغد أنه إذا تحصلت أسرتها على الجنسية التركية، فمن الممكن تغيير لقبها إلى أحد الألقاب التركية بغية تقليل إمكانية التعرض للتمييز العنصري.
أما أم أمير فتطرقت إلى مخاوف الأمهات الأخريات قائلة: “لن يسْلم الطفل من التمييز ووصفه بالسوري، حتى إذا وُلد في تركيا وحصل على الجنسية التركية”. وأضافت أم أمير أنه حتى لو أصبح ابنها مواطنا تركيا، وهو الأمر الذي شككت في حصوله، فلا تزال ترغب في العودة إلى سوريا لأن الحياة كانت أسهل هناك. وأوضحت أم أمير أنها لاحظت أنها الشخص الوحيد في عائلتها الذي يرغب في العودة إلى سوريا، لأن باقي أفراد العائلة يودون البقاء في تركيا.
جسر بين الثقافتين
أشارت الأمهات الثلاث، اللاتي تحدثت إلى “موقع ميدل إيست آي”، إلى أنهن يعتقدن أن الأطفال السوريين الذين يتعلمون اللغتين التركية والعربية سيصبحون جسورا بين المجتمعات التركية والسورية. وفي هذا الصدد، قالت رغد: “سأكون متحمسة أكثر للاندماج في المجتمع التركي، في الوقت الذي يبدأ فيه ملهم في تكوين صداقات مع أطفال أتراك. كما أنني سأتواصل مع أولياء أصدقائه في الوقت المناسب”. وأضافت أم ملهم أنها “ستشجع ابنها على الاندماج داخل المجتمع التركي”.
اقترحت مؤسسة “أمبودسمان” التركية أن يقع تعليم السوريين، مهما كان عمرهم، اللغة التركية.
عندما سئلت الأمهات عما إذا كن يقبلن أن يتزوج أحد أبنائهن أو بناتهن بتركي، قبلت كل من كوثر ورغد هذا الأمر، شريطة أن يكون الفتى أو الفتاة شخصًا جيدًا. لكن أم أمير أبدت قلقها حيال هذا الأمر قائلة: “هل يوجد أسرة تركية ستسمح لابنتها بالزواج من سوري؟ سأواجه بعض الصعوبات في التصرف كحماة حقيقية”.
من جهتها، اقترحت مؤسسة “أمبودسمان” التركية أن يقع تعليم السوريين، مهما كان عمرهم، اللغة التركية. وأضافت المؤسسة أنه يجب على مؤسسات الدولة أن توفر خدمات باللغة العربية على الإنترنت، وأن ينشأ صناع القرار في تركيا وزارة خاصة تهتم بشؤون “الضيوف السوريين”، بحسب تعبير المؤسسة.
كما ذكر تقرير مؤسسة أمبودسمان أن “السياسات التركية بشأن السوريين تم تأسيسها على مفهوم انعدام الاستقرار منذ البداية. وتعتبر مصطلحات مثل حالة الحماية المؤقتة، ومراكز الإقامة المؤقتة، وبطاقات الهوية المؤقتة، ومراكز التدريب المؤقتة، نتيجة لهذا النهج. لكن الأزمة لم تنته بسرعة، وبالتالي، لن يدوم بقاء السوريون في تركيا لفترة قصيرة فقط، ولا يعتبر عدد اللاجئين منخفضا. في هذا السياق، يبدو أنه بات من الضروري مواجهة هذه الحقائق ووضع سياسات دائمة، نظرا لأن إمكانية تحويل السياسات الحالية إلى سياسات دائمة، أصبحت أقوى من إمكانية بقائها مؤقتة. ويسمى هذا الأمر بسياسة الاندماج”.
عندما سئلت الأمهات عن كيفية تعريف أطفالهن لأنفسهم عندما يكبرون، قالت أم شام دون تردد: “تركية”. وقالت أم ملهم، بعد التفكير لبضع ثوان: “تركي من أصول سورية”، في حين كانت إجابة أم أمير: “أنا لا أعرف”، لتضيف بعد التفكير لبعض الوقت: “تركي، لأنني أعتقد أن هذه حقيقة ما هو عليه في الوقت الراهن”.
المصدر: ميدل إيست آي