تحتفل الصين هذا الأسبوع، بمرور 4 عقود على نجاحها، وظهورها كقوة عظمى تناطح الولايات المتحدة، والسبب يرجع في هذه المكانة، لإقدامها قبل 40 عاما على اتخاذ قرار ما يسمى بـ«الانفتاح على العالم الخارجي»، التيمة التي وضعت بكين، على رأس عواصم العالم، في امتلاك احتياطي العملات الأجنبية بـ«3.12» تريليونات دولار.
في المشوار الصيني، قراءات متعددة، وخبرات لايمكن المرور عليها مرور الكرام، دون توقف ومراجعة ومحاسبة، فما فعلته الصين في 4 عقود، يكشف لنا نحن العرب معنى الإرادة والتخطيط والطموح والحلم، في مقابل التقوقع العربي، والانغماس في الجهل طواعية وعن طيب خاطر، طوال هذه العقود، رغم امتلاك الأمة ثروات لاتحصى ولاتعد من المحيط للخليج.
الانفتاح الصيني .. ما هو ؟
في الدورة الثالثة للجنة المركزية عام 1978، كان الحزب الشيوعي الصيني، يستعد لكتابة مرحلة تاريخية جديدة من الاصلاح في البلاد، تحقيق تحول هام يصنع تاريخ جديد لبلاد الأساطير هدف مقدس، ولن يحدث ذلك إلا بالتحول الي نظام اقتصاد السوق الحيوي، المُطعم باللمسات الاشتراكية، ونبذ المجتمع المغلق الذي تفرضه البنية السياسية والثقافية للفكر الشيوعي.
وضع الحزب 4 مستويات رئيسية للنهوض، على رأسها تحرير العقول والقوى المنتجة، ووضعها لها مدة زمنية تقدر بأربع سنوات من عام 1978 الى عام 1982 تتخلص فيها الصين من الفوضي الفكرية
كانت الصين في هذه الأوقات، دولة نامية أكثر ما تطمح إليه التخلص من الفقر ورفع مستوي معيشة الشعب، أحيانا تكون الخطوات السريعة خطر يجهض أي فكر جاد يحتاج الكثير من التخطيط على المستوى المرحلي والمستقبلي، ولكن مع مريض يصارع الموت، لم يكن هناك مجالا للتروي؛ التحديث وبأسرع خطوات ممكنة وتحقيق إنجازات تخطف أنظار العالم هو الحل.
وضع الحزب 4 مستويات رئيسية للنهوض، على رأسها تحرير العقول والقوى المنتجة، ووضعها لها مدة زمنية تقدر بأربع سنوات من عام 1978 الى عام 1982 تتخلص فيها الصين من الفوضي الفكرية، واعادة تهئية النظام الداخلي لإنطلاق الاصلاح، وتنشيط الاقتصاد الريفي، وتدشين برنامج يحل أزمة الغذاء والكساء الكافيين للصينيين، وتجهيز البطون والعقول لما هو أكثر صرامة.
دخلت المرحلة الثانية، حيز التنفيذ من عام 1982، الى بداية تسعينات القرن الماضي؛ هذه الفترة كانت كافية جدا لدى الصينين، لانطلاق برنامج الاصلاح عبر تحديد أهدافه أولا، ورسم حدود التجربة الصينية الاشتراكية التي تناسب المجتمع؛ فالريف يحب أن يكون أولا، والمناطق الأكثر فقرًا، وهي سياسة لم تكن تستطع الرأسمالية معالجتها، ولكن الشيوعي الصيني جعلها من أهم منابع القوة التي يعتمد عليها الآن.
بنجاح المرحلتين الأولى والثانية، كان من الطبيعي أن يدخل التنين الصيني، المرحلة الثالثة بجموح وطاقة أكبر، وحددها من عام 1992، إلى زمن المؤتمر الوطني السادس عشر للحزب الشيوعي عام 2002، أي عشر سنوات جديدة، تثبث الصين من خلالها أحقية اقتصاد السوق الاشتراكي في حجز مكانه بين كبار العالم، والاستمرار في تحرير القوى المنتجة، مع بقاء القطاع العام مسيطرًا.
لم تترك الصين فرصة يمكن التربح منها إلا واستثمرتها جيدا
بنجاح الخطط الثلاثة، دخلت بكين المرحلة الرابعة، بتخطيط زمني يبلغ 6 سنوات فقط، من 2002 الى 2008؛ كانت مهمة المرحلة الجديدة، وضع الصين والحزب الشيوعي على خريطة انطلاق تاريخية جديدة، على رأسها استمرار حمل راية «الاشتراكية الصينية» وبناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل والحفاظ على نمو الاقتصاد الاجمالي، وصعود البنية التحتية للاقتصاد الوطني، وبناء مشاريع عملاقة جديدة للقطاع الحكومي، بما يسهم في الانعكاس على ارتفاع مستوى معيشة الشعب، والاستمرار في الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والإنصاف.
في كل مرحلة من المراحل السابق، كانت هناك مبادئ أساسية لا يمكن الحياد عنها، الجدة والعمل على زيادة الوعي، والتنمية على أسس علمية، ودفع عملية اصلاح الهياكل الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية إلى مرحلة أكثر تناسقا، ولكن يحدث ذلك، كان ضروريا دفع التربية والتعليم في الأرياف إلى مستويات متقدمة بدرجة غير مسبوقة، وتعميم التعليم الالزامي في أرجاء البلاد، ومحو أمية الكبار، ومد فترة التعليم التي يتلقاها الفرد إلى أكثر من 8 سنوات، لتتجاوز بذلك المعدل الزمني للتعليم في العالم، ومدت المدارس الريفية في اظلم البقع فقرا بأحدث الأجهزة الالكترونية، لإشباعها بالتكنولوجيا التي تمكنها من المنافسة على التقدم.
المشروع الوطني الصيني .. الهوية أولا
لم تترك الصين فرصة يمكن التربح منها إلا واستثمرتها جيدا، في 2001 استغلت انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، لاستثمار العولمة الاقتصادية في رفع قوة مشاركتها في التنافسات الدولية، واستطاعت ابتكار سياسة تتوافق مع اشتراكيتها، تمكنها من الانتفاع بالسوق الداخلي والخارجي، وحققت انجازات تاريخية في العلوم والتكنولوجيا، مما وضعها في الصف الأمامي لدول العالم، ورغم ذلك وضعت الصين خصوصيتها قبل أي شئ.
لم تنس الصين في سعيها المجنون لسباق العالم، الحفاظ على الثقافة التقليدية، وتعظيم الصرف على الهوية، وتعزيز الانتماء
الدرس الهام الذي صدرته بكين للبشرية، ضرورة الحفاظ والتمسك بالهوية الفكرية والثقافية وحتى الاقتصادية، ومنها يمكن التطوير والخروج للعالم أكثر قوة؛ رفضت الصين ربط طموحها بالذوبان في فلك الرأسمالية الكاملة، ولكنها في المقابل لم تتجمد، وطورت نظامها القائم علي الملكية العامة، لينسجم في خط مواز مع السوق الحديثة الموحدة والمفتوحة والتنافسية والمنتظمة.
ولم تنس الصين في سعيها المجنون لسباق العالم، الحفاظ على الثقافة التقليدية، وتعظيم الصرف على الهوية، وتعزيز الانتماء ولم يكن هناك أفضل من الفن للعب هذا الدور، فاهتمت بشتى أنواع الفنون، وخاصة الفن المسرحي الغنائي التقليدي، ذو التاريخ الممتد لأكثر من 600 عام، بما حذى بمنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، لاتخاذ قرار عام 2001، لإدارج هذا الفن التاريخي، ضمن أول دفعة مدرجة في قائمة نماذج التراث الشفهي الغير المادي للبشر.
الصين والصراع مع أمريكا .. من يستطع المنافسة للنهاية ؟
طوال العقود الماضية، نجحت الصين في انتهاج سياسة خارجية، تراقب العالم بثبات ورزانة؛ تمهد نفسها يوما بعد الأخر، للعب دور يجعل منها مركزا جديدا للعالم، رغم المعوقات الااقتصادية والجيوسياسية، التي تعطي امريكا الزعامة بلا منافس حتى الآن.
المطلعون على الشأن الصيني، يتحدثون دائما عن أحلام بكين في استعادة المجد التاريخي لمملكة الوسط الكبرى، التي حكمت قارة آسيا طيلة قرون؛ فالجغرافيا الصينية تضعها كثالث دولة بين أكبر دول العالم مساحة، بعد روسيا وكندا، بجانب توسطها موقعا يضعها بين كل من روسيا، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، وأفغانستان، وهو ما يتيح لها التحكم في أهم طرق للمواصلات والتجارة في العالم، بريا عبر طريق الحرير، وبحريا بإطلالها على المحيط الهادي، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، والبحر الأصفر، ومضيق فرموزا.
تدخل القوة العسكرية للصين ضمن خطوط الصراع، وخصوصا بعد انضمامها إلى النادي النووي سنة 1964، وتتوفر لديها بحسب تقارير ما لا يقل عن 300 رأس نووي و 2400 قنبلة نووية
كما تدخل الثروة البشرية الصينية، ضمن نطاق التنافس مع أمريكا بمليار وثلاثمائة مليون نسمة، مما أهلها لتصبح صاحبة دور هام في الأسواق العالمية، ومعظم التقارير تشير حاليا، إلى قدرتها على احتلال الزعامة الاقتصادية للعالم، بحلول عام 2028، إذ يتوقع أن يصل إجمالي الناتج المحلي إلى 33 تريليون دولار، بما يتفوق على إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية، المقدر بـ «31 تريليون دولار».
تدخل القوة العسكرية للصين ضمن خطوط الصراع، وخصوصا بعد انضمامها إلى النادي النووي سنة 1964، وتتوفر لديها بحسب تقارير ما لا يقل عن 300 رأس نووي و 2400 قنبلة نووية، وهذه المعطيات ولدت سياسات أمريكية معادية، بدأتها واشنطن بمحاولة غلق الممرات البرية والبحرية للتزود بالطاقة البترول والغاز الطبيعي، وإلهاءها بقضايا محورية مثل دعم استقلال تايوان عن الصين، وإبرام اتفاقيات عسكرية معها، بجانب مساندة اليابان في صراعها مع بكين على أحقية كل منهما في الجزر المتنازع عليها، كما أوجدت لنفسها عشرات القواعد العسكرية التي تحيط بالصين من كل جانب، لتضعها تحت المراقبة بشكل دائم، وعلى رأس هؤلاء قاعدة باغرام في أفغانستان.
رغم عداء واشنطن المعلن والاستفزازي لبكين، إلا أن الأخيرة استطاعت الاستمرار في سياسة عدم الانزلاق إلى المواجهة الفردية مع أمريكا، التي لن تصب في مصلحتها، واتبعت سياسة الاندماج في منظمات تعاون إقليمية ودولية أبرزها منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس، وعقد التكتلات الإقليمية على قاعدة جيوسياسية بما خلق مع الوقت مصالح حيث اقتصادية مشتركة، حتى من البلدان التي اشتبكت معها تاريخيها.
منحت السياسة الجديدة للصين، أبعاد أكثر متانة، حتى من المناطق المتنازع عليها من دول الجوار، فإقليم «كسين جيانغ» الذي كان رمزا للصراع مع روسيا، والذي كانت تستخدمه الولايات المتحدة لإشعال الصراع بين العملاقتين، توصل الطرفان إلى إستراتيجية مكنت روسيا من السيطرة على 50 بالمائة من الطاقة في العالم تحت لواء شركة «غاز بروم»، على أن يكون التبادل التجاري، باليوان والروبل، وإبعاد الدولار الأمريكي عن آلية التعاون الاقتصادي، بما شكل ضربة اقتصادية كبرى لأمريكا.
تمضي الصين بثقة كبيرة إلى وضع الولايات المتحدة في مأزق حقيقي، للقبول بسياسة بالأمر الواقع، والتسليم باقتسام الكعكة في أقرب وقت مع الصين وروسيا وباقي القوى الإقليمية كالهند والبرازيل
كما أقدمت الصين على تحسين العلاقات مع الهند، واستطاعت ابتكار علاقة ترحل مشكلة الصراع على مشكلة منطقة «التبت» المتنازع عليها، والتي ترفض الصين إيصال الملف للامم المتحدة، حيث لا يعني ذلك إلا خسارة القضية بضربة من أمريكا، وبدلا من الصراع اتفقت الصين والهند على مساعدة من كل منهما للاخر، في لعب دور الريادة الإقليمية، بما يتعارض مع الأطماع الأمريكية في المنطقة، ويجعل من التوافق بينهما، حلا سحريا للحد من الهيمنة الأمريكية.
تمضي الصين بثقة كبيرة إلى وضع الولايات المتحدة في مأزق حقيقي، للقبول بسياسة بالأمر الواقع، والتسليم باقتسام الكعكة في أقرب وقت مع الصين وروسيا وباقي القوى الإقليمية كالهند والبرازيل، رغم استمرار أمريكا في سيناريو التطاحن الاقتصادي، وفرض مزيد من العقوبات والعرقلة المتعمدة لإكتساب مزيد من الوقت، والتي يمارسها حاليا الرئيس ترامب بدأب وإصرار شديد، إلا أن العامل الاقتصادي هو من سيحدد واقع النظام الدولي في العقدين القادمين، خاصة مع توصل العالم إلى أن لغة الحرب والاحتكام للقوة العسكرية، أصبح من الماضي السيء؛ فتجارب الحربين العالميتين، أوصلت الجميع إلى حقيقة مفادها أن دخول قوى عظمى في صراع عسكري، يعني الانتحار الذاتي، وإفساح طريق مجاني لقوى أخرى، تستفاد من الصدام دون دفع ثمن معقول لذلك.