توغلت قوات إسرائيلية مصحوبة بدبابات وجرافات بعمق 200 متر داخل الأراضي السورية، غرب بلدة جباتا الخشب في القنيطرة بالجولان السوري المحتل في 15 سبتمبر/أيلول الماضي. وجددت اعتداءها في 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بتجريف الأراضي الزراعية قرب بلدة كودنة، والإعلان عن إنشاء ما وصفته بـ”سياج أمني يمنع تسلل مسلحين”، وسط صمت رسمي سوري مطبق.
كما جرفت آليات الاحتلال أراض زراعية وحفرت خنادق وسواتر ترابية، شرق خط فض الاشتباك وطريق “سوفا 53” الذي أنشأته “إسرائيل” داخل الأراضي السورية بعمق يصل إلى كيلومترين عام 2022، بالتزامن مع تجهيز نقطة مراقبة يتراوح عمقها بين 5 و7 أمتار، وهو ما اعتبرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان مخالفة صريحة لاتفاقية “فض الاشتباك” لعام 1974.
من جانبها، نفت وسائل إعلام مقربة من النظام السوري التحرك الإسرائيلي وتوغله داخل الحدود السورية، فيما زعمت صحيفة “الوطن”، أنه “لا صحة لحدوث توغل إسرائيلي في بلدة كودنة بريف القنيطرة، ولا وجود لأي تحركات إسرائيلية في المنطقة”، واعتبرت الحديث عن ذلك “يندرج في إطار الحرب النفسية التي يمارسها العدو”.
هضاب القمح
تقع محافظة القنيطرة جنوب سوريا، في وادٍ عال على ارتفاع 942 مترًا فوق سطح البحر، وعلى بعد 60 كيلومترًا عن العاصمة دمشق. في مساحة 1860 كيلومترًا. بلغ عدد سكانها عام 1967 حوالي 153 ألف نسمة. وكلمة القنيطرة تصغير لكلمة قنطرة أي (جسر)، في إشارة إلى تاريخ المدينة كنقطة عبور بين مناطق ومدن عدة، أهمها دمشق والقدس وعمّان، وهو ما جعلها موقعًا استراتيجيًا تاريخيًا مهمًا، ومحطة تمر منها القوافل التجارية في العصر الروماني والبيزنطي والإسلامي.
هضبة الجولان التي يحتلها الجيش الإسرائيلي منذ حرب عام 1967 تتبع لمحافظة القنيطرة، وكانت تمتد من قمة جبل حرمون (جبل الشيخ) حتى بحيرة طبريا، التي تنخفض إلى 212 مترًا عن سطح البحر، وتكثر فيها ينابيع المياه المعدنية التي تصبّ في نهري الأردن واليرموك. فيما عرف تاريخيًا بأنها مستراح علاجي يقصده المرضى في رحلة التعافي من الأمراض التنفسية لشدة نقاء هوائها وجمال هضابها.
يمتهن أهالي القنيطرة الزراعة وتربية المواشي بشكل أساسي، إذ كان القمح أحد أهم المحاصيل الزراعية للمنطقة قبل احتلالها، تليه زراعة التفاح والكرز واللوز التي تشكل اليوم 30% من دخل السكان في القرى المتبقية.
تاريخ القنيطرة
لقيت المنطقة بعض الاهتمام في العهد العثماني من طرف الوزير العثماني لالا مصطفى باشا – والي الشام في الفترة ما بين 1563 و1567 – فأنشأ مخفرًا للدرك وجامعًا بالإضافة إلى عدد من الدكاكين. وكان يسكن فيها 1300 شخص في 260 منزلًا. لكن قضاء المدينة لم يتبع لولاية دمشق حتى عام 1893، بعد وصول عشرات العائلات الشركسية والشيشانية إلى المنطقة، الذين جاءوا من القوقاز بين عامي 1873 و1890، حيث قاموا ببناء ما يقارب 12 قرية زراعية.
وفي عام 1946 ارتفع عدد سكان المدينة إلى نحو 21 ألف نسمة، كان معظمهم من العرب، بالتزامن مع زوال الاحتلال الفرنسي وخروجه من سوريا نهائيًا، فيما نمت القنيطرة وأصبحت مركزًا إداريًا لمرتفعات الجولان في مطلع القرن العشرين، ثم كثر عدد سكانها وتطور عمرانها، وأضحت في عام 1957 مدينة مستقلة، وأصبحت في نهاية أغسطس/آب 1964 محافظة تتمتع باستقلال إداري.
هضبة الجولان
تقع أراضي هضبة الجولان في الجنوب الغربي من سوريا، والجنوب الشرقي للبنان، والشمال الشرقي لفلسطين، والشمال الغربي للأردن، وتقدر مساحة الجولان الكلية بـ1860 كيلومترًا مربعًا، تحتل “إسرائيل” منها حاليًا نحو 1176 كيلومترًا مربعًا، تتألف من بقاع جبلية وسهلية، وهضبة وهوامش، وسلسلة براكين خامدة، ومخلفات حمم متجمدة، كما تتوافر فيها الحجارة البازلتية بكثرة.
تنقسم المنطقة إلى جزء شمالي مرتفع (الجولان الأعلى)، يمتد من وادي السعار حتى وادي الجلبون في أرض تسمى “أرض الوعر”، لكثرة التلال البركانية فيها، مثل تل الغرام وتل أبو الندى وتل الأحمر.
أما الجزء الجنوبي المنخفض (الجولان الأدنى) يتكون بشكل أساسي من هضبة مستوية السطح تمتد من وادي السمك حتى أخدود اليرموك جنوبًا، مغطاة بتربة خصبة ملائمة للزراعة، وهي أوسع منطقة في الجولان.
يوجد اليوم في الجولان المحتل 5 قرى هي: مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية والغجر، ويبلغ مجموع سكانها أكثر من 265 ألف نسمة، وفق تقديرات التعداد السكاني لعام 2020، فيما يقطن ثلث هذا العدد تقريبًا في قرية مجدل شمس، كبرى هذه البلدات، وأغلبهم من الطائفة الدرزية.
تبلغ المساحة الإدارية لهذه القرى ما يقارب 55 ألف دونم، تمثل أقل من 5% من المساحات الإدارية للمستوطنات التي تبلغ حوالي مليون و100 ألف دونم. فيما يحاول المستوطنون فيها باستمرار سرقة الحصص المائية لمزارعي القرى السورية، وحرق محاصيلهم الزراعية ومصادرة مواشي الرعي التي يعتمدون عليها.
حرب الـ 1967 واحتلال القنيطرة
احتلت “إسرائيل” الجولان في إطار حرب يونيو/حزيران 1967، أو ما عرف بـ”النكسة” في أدبيات السياسة العربية، التي خاضتها مصر وسوريا والأردن والعراق ضد “إسرائيل”، وبمساعدة فنية من لبنان والجزائر والسعودية والكويت. اغتصب الاحتلال على إثرها أراض سورية وفلسطينية جديدة، قدرت تقريبًا بثلاثة أضعاف ما احتله في حرب 1948.
وقد مثّل حل القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب الهدف الأساسي من قيام هذه الحرب، أما بالنسبة إلى “إسرائيل”، فثمة أسباب عدة دفعتها لخوض هذه المعركة، من بينها:
– تزايد المقاومة الفلسطينية متمثلة في العمليات الفدائية التي نفذتها منظمة التحرير الفلسطينية من مخيمات اللجوء في دول الشتات، خاصة في سوريا ولبنان والأردن، ضد “إسرائيل”.
– خطط التسلح التي بدأتها مصر بقيادة جمال عبد الناصر بعد حملة سيناء عام 1956 والعدوان الثلاثي على مصر. ورفع سوريا مستوى جهوزية الجيش في هضبة الجولان.
– مطالبة مصر بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء وحشد قوات من الجيش المصري، وإغلاق “مضائق تيران” بالبحر الأحمر في وجه الملاحة الإسرائيلية، يوم 22 مايو/أيار 1967.
استمرت الحرب لمدة 6 أيام قصفت فيها مدن عربية عدة، إذ شنت “إسرائيل” في صباح الاثنين الخامس من يونيو/حزيران 1967، ولمدة 3 ساعات، غارات جوية على سيناء والدلتا والقاهرة ووادي النيل، ومطارات أردنية منها المفرق وعمان، كما قصفت المطارات السورية ومنها الدمير ودمشق، وهاجمت القاعدة الجوية هـ 3 في العراق.
وعلى الجبهة السورية، وقع قصف جوي ومدفعي متبادل بين الجانبين حتى صباح السبت 10 يونيو/حزيران، حين اخترقت القوات الإسرائيلية الدفاعات السورية شمال هضبة الجولان، وأذيع البيان رقم 66 بتوقيع وزير الدفاع حينها حافظ الأسد، الذي أعلن فيه استيلاء القوات الإسرائيلية على مدينة القنيطرة بالكامل.
في حين أكدت مصادر تاريخية وشهود عيان، أن القوات الإسرائيلية لم تدخل القنيطرة إلا بعد حوالي 17 ساعة من إذاعة البيان، إذ قاوم سكان المدينة قوات الاحتلال لساعات عدة بعد هروب قادة الجيش السوري تجاه دمشق، وكان على رأسهم النقيب رفعت الأسد، شقيق حافظ.
تدمير القنيطرة بالكامل
نتج عن الحرب خسائر بشرية ومادية كبيرة، إذ استولت “إسرائيل” على 1158 كيلومترًا مربعًا من إجمالي مساحة هضبة الجولان في القنيطرة، وحققت باستيلائها هذا مزيدًا من المكاسب الإستراتيجية، وذلك لما تتميز به الهضبة من تضاريس فريدة تجعلها حصنًا عسكريًا متينًا، فضلًا عن مواردها المائية الهائلة.
وطرد أكثر من 95% من سكان المنطقة أي ما يقارب 140 ألف مواطن سوري نزحوا إلى المدن المجاورة، بعد أن دمرت مدينة القنيطرة بالكامل إلى جانب 340 قرية في محيطها، وزرع الاحتلال 76 حقل ألغام بها نحو مليوني لغم، داخل القرى المأهولة وحولها.
وحتى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، قسّم الاحتلال هضبة الجولان إلى عدة مناطق، حيث أعدّ سفوح جبل الشيخ لأغراض سياحية، وبنى على الجبل نقطة مراقبة عسكرية تشرف على سوريا، وفي منطقة الوسط أقيمت مستوطنات ومصانع خاصة بالصناعات الجوية، أما منطقة المنخفضات من اليرموك حتى ساحل طبريا، فيستخدمها لأغراض الزراعة المحمية.
كما أنشأ 33 مستوطنة زراعية ومدينة “كتسرين” التي يطلق عليها لقب “عاصمة الجولان”، وهي بمثابة مركز إداري للمستوطنات، أقيمت على أنقاض القرى السورية، ويبلغ تعداد المستوطنين فيها أكثر من 26 ألف مستوطن.
بقيت مدينة القنيطرة تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى يونيو/ حزيران 1974، حين استعادتها سوريا عقب توقيع اتفاق فك الاشتباك بوساطة أمريكية في 31 مايو/ أيار 1974، فيما لا تزال هضبة الجولان محتلة حتى اليوم، وقد اعترفت الولايات المتحدة عام 2019 بقيادة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة “إسرائيل” على هضبة الجولان المحتلة، في خطوة غير مسبوقة وتخالف القانون الدولي الذي يصنفها منطقة محتلة.
اتفاق القنيطرة
في يوليو/تموز عام 2018، أي بعد انخراط سكان مدينة القنيطرة وشبابها في الثورة السورية بثماني سنوات، تم السماح بعودة قوات النظام إلى حدود الجولان المحتل والمنطقة الجنوبية عمومًا، وذلك بعيد مفاوضات روسية مع الجانب الإسرائيلي، جرى الإعلان عنها بعد قمة جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب يوم 16 يوليو/تموز في العاصمة الفنلندية هلسنكي، حيث كان الملف السوري على رأس الموضوعات المطروحة.
سبق الاتفاق إطلاق النظام السوري عملية تسوية أمنية مع مقاتلي المعارضة، لإغلاق ملف الجنوب عسكريًا بإيقاف المعارك، وعودة مؤسسات الدولة للعمل في المدينة، بالإضافة إلى إجبار رافضي التسوية على المغادرة للشمال السوري، إذ كان الجيش الحر يسيطر على 80% من القنيطرة، بما فيها منطقة السياج الحدودي العازل التي تدخل ضمن اتفاقية فض الاشتباك الموقعة بجنيف يوم 31 مايو/أيار 1973.
وقد نص الاتفاق على عودة قوات النظام السوري إلى مواقعها التي انسحبت منها بعد عام 2011، وتسلم الشرطة العسكرية الروسية مؤقتًا نقاط المراقبة التابعة للأمم المتحدة على خط وقف إطلاق النار، إلى حين عودة الجنود الأمميين (قوات أندوف) الذين انسحبوا من المنطقة عام 2014، وهو ما وفر للنظام السوري والاحتلال الإسرائيلي منفعة متبادلة بحسم جبهة الجنوب (القنيطرة ودرعا أساسًا) وتجنيب النظام معركة كبيرة كانت ستشكل خطرًا محدقًا عليه، بعد تهديد الاحتلال بها عدة مرات، وأيضًا أعاد للاحتلال أمنه في الجبهة الجنوبية.
وفي خضم التوغلات الإسرائيلية المتكررة في الجولان السوري المحتل، يبرز التساؤل المحير حول موقف الجانب السوري البارد تجاه هذه الانتهاكات. فبينما تواصل “إسرائيل” تجريف الأراضي وبناء “سياج أمني” على الأراضي السورية، يبدو أن الرد الرسمي السوري يتسم بالصمت والتجاهل -كما عبرت عنه صحيفة الوطن -، مما يثير العديد من التساؤلات حول أسباب هذا الموقف. هل يشير إلى عجز أم لامبالاة؟ وهل يمكن أن تكون “إسرائيل”، من خلال هذه التحركات، تمهد لإعادة احتلال القنيطرة في ظل حالة النشوة التي يعيشيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة؟