“بابور اللوح يدخّل الكوكايين، كاين لي يحبونا زاطلين (أي مهلوسين)، حابسين ماشي فايقين، وهما في عقولنا حاكمين، باش كيما موالفين نبقاو على حقوقنا ساكتين..” هكذا بدأ “البودكاستر” رقم واحد في الجزائر “أنس تينا” انتاجه الأخير الذي حمل اسم “خسارة عليك”، وكشف فيه معاناة شباب بلاده.
ظلم وقهر اجتماعي وفساد
تحوّل شريط فيديو للشاب الجزائري الذي يحمل اسم ” أنس تينا”، إلى ظاهرة غزت وأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي داخل الجزائر وخارجه، لما يبديه صاحبه فيه من غضب على أوضاع بلاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
في هذا الفيديو، تقمّص أنس شخصية الشاب الجزائري القانط من معيشته، الرافض للوضع المتردي، يتحدّث في موال مطوّل يرافقه خلفية الموسيقية، عن مآسي الشعب في الجزائر عامة والشباب خاصة، موجها انتقادات شديدة اللهجة إلى المسؤولين والسلطة الحاكمة وترفهم.
تفنن الشباب الجزائري في السنوات الأخيرة في نقل مشاكلهم وتطلعاتهم بواسطة الإعلام الجديد عبر الانترنت
يستعمل الجزائريون مصطلح ” خسارة عليك”، للوم شخص على تقصيره في أداء واجبه، وهي الجملة التي وضعها أنس تينا عنوانا للفيديو كليب الجديد الذي حقّق نسب مشاهدة عالية قاربت الثلاث مليون خلال 12 يوما فقط، يلوم فيه سلطة بلاده على ما يراه تقصيرا في التكفل بمطالب الشباب، ودفعهم للهجرة وتعاطي المخدرات، فضلا عن التعامل بقسوة مع طالبي الحقوق ومنع الحريات وترسيخ الجهوية.
وواصل مدون اليوتوب “أنس بوزغوب”، المعروف بـ”أنس تينا”، في “خسارة عليك” على نفس منوال فيديو “راني زعفان”، بعد أن أطلق هذا النوع من الفيديوهات، اليوتيبور “دي زاد جوكر” من خلال فيديو “ما نسوطيش”.
وتضمّن الفيديو الذي امتدّ لستّ دقائق، إشارة إلى موجة هروب الشباب من الجزائر بسبب غياب الأمل في الحياة الكريمة، وانكماش الأفق بالنسبة للشباب، الذي بات يفضّل الهجرة السرية عبر قوارب الموت على البقاء في الجزائر.
ممّا يقوله أنس في الفيديو، “وليدك اللي خدم في الجيش وما رحمتيه (لم ترحميه) بورتون عندك اللي تقطع رجليه (رغم وجود من قطعت رجله)”، في إشارة لما يواجهه متقاعدي الجيش المطالين بحقوقهم من قمع أمني، في مقطع آخر يقول، “الطالب بيطيب ويقرى حتى يشيب بش يولي طبيب.. خوه البوليسي يقابله بالضرب والترهيب، وهو يقصد حوادث الاعتداء على الأطباء.
كما تطرّق أيضا إلى الظلم والقهر الاجتماعي والفساد وتغوّل أصحاب المال والأعمال وإخفاقات السلطة في تحقيق الحياة الكريمة للجزائريين، على الرغم مما تملكه البلاد من مقدرات طبيعية كبيرة، بالإضافة لإهدار السلطة المال العام، ومشاكل الصحة، والبطالة بين حاملي الشهادات الجامعية.
“البودكاست” وسيلة للاحتجاج
سلّط فيديو كليب” خسارة عليك”، الضوء مجددا على “البودكاست” في الجزائر كوسيلة للاحتجاج في ظلّ انعدام وسائل الاحتجاج التقليدية وسيطرة السلطات الحاكمة في البلاد عليها، وتطويعها خدمة لأجندتها المتعارضة مع تطلعات الشعب.
وفي السنوات الأخيرة، تفنن الشباب الجزائري في نقل مشاكلهم وتطلعاتهم بواسطة الإعلام الجديد عبر الانترنت، وأصبحت “البودكاست” أحد الأساليب الجديدة المعتمد عليها بكثافة من قبل العديد من الشباب، في مختلف مناطق البلاد.
وساهمت السلطة في الجزائر من خلال استمرارها في سياسة التحكم في قطاع الإعلام والشارع والأحزاب، في أن تكون”البودكاست” البديل الإعلامي المتاح لفتح أبواب التفاعل والنقاش السياسي أمام الشباب وكشف الكثير من الملفات والقضايا التي لا يزال “مسكوتا عنها” في الإعلام التقليدي.
تخضع متابعة الشباب لقنوات “البودكاستر” والتفاعل معها إلى مستوى إبداعهم
تبلورت ضمن هذا التوجه الجديد، أفكارا تدعو إلى التغيير الهادئ، والدفع بالاتجاه نحو مزيد من الحريات السياسية، ولم تخل هذه الفيديوهات من الانتقادات الشديدة لعديد المسؤولين في الدولة نتيجة فسادهم ومساهمتهم في اضعاف البلاد وارباكها.
ويرجع الشاب الجزائري ” وليد سالم ” (25 سنة) سبب لجوء الشباب في بلاده إلى مثل هذه الفيديوهات إلى كونها ” عبارة عن طريقة مختصرة للوصول إلى الجمهور الواسع والمستهدف من أجل إيصال الرسالة المرجوة”، وتابع” تعتبر الأغاني والفيديوهات القصيرة من أکثر الأشياء التي يقبل على مشاهدتها عدد كبير من الناس في عصر تكنولوجية المعلومات.”
وعن دورها يقول سالم في حديثه لنون بوست، ” أي رسالة إعلامية دون هدف لا جدوى منها، فمثلا أنس تینا یسعی من خلال فيديوهات إلى إيقاظ الشباب من غفلته وكشف ما یحصل فی الواقع، وفي الوقت نفسه یسعی إلى إيصال رسالته إلی المسٶولین في البلاد من أجل إعادة النظر فيما یجری في المجتمع.”
يشترك من يعرفون باسم “البودكاستر” في مجموعة من الصفات، حيث إن أغلبهم من الشباب، بالإضافة إلى اشتراكهم في اختيار أسماء شهرة مستعارة تتميّز لدى الغالبية بالغرابة بحيث تكون مركبة وتحتوي على كلمات بأكثر من لغة، مثل”أنس تينا” (أنس بوزغب) و “ديزاد جوكر” (شمس الدين عمراني).
وتخضع متابعة الشباب لقنوات “البودكاستر” والتفاعل معها إلى مستوى إبداعهم ومدى جرأتهم في السخرية وطريقة تحقيق ذلك، وهي العوامل التي تجذبهم إلى مدوّن على حساب آخر، فلكلّ واحد منهم طريقته في عرض فيديوهاته، غير أن أغلبهم يلجؤون إلى تصويرها في بيوتهم ويتقمّصون فيها دور أكثر من شخصية واحدة مع التركيز على الحوار والاستعانة بالشواهد والأمثلة كإدراج تصريحات، صور، مقاطع تعليقات لبعض الأطراف وغيرها.
تخدير وترسيخ للسائد
رغم اتفاق العديد من الشباب الجزائري على كون “البودكاست” في بلادهم، وسيلة من وسائل الاحتجاج العصرية التي تكشف معاناة الأهالي وتعنّت المسؤولين في الاستجابة لمطالبهم وفسادهم وحمايتهم للفاسدين، إلا أن البعض منهم يرى أن هذا النوع من الاحتجاج لا يتجاوز كونه مخدرا.
ويرى الشاب الجزائري “داوود عزوط” (24سنة)، أن العديد ممن يعرفون باسم “البودكاستر”، يسعون إلى كسب المال من خلال هذه الانتاجات التي يقدمونها للجمهور الجزائري، لتوفير مقومات عيشهم الكريم في
ويؤكّد “عزوط” في حديثه لنون بوست، أن العديد من الشباب في بلاده يتجه إلى استهلاك أغاني أو مواد إعلامية سهلة ومبسطة ظنا منهم أن هذه المواد الإعلامية تشفي أو تشبع تساؤلاتهم في ميدان السياسة، ذلك أن عالم السياسة أمر مهم للجميع.”
ويتابع الشاب الجزائري، “التوجه نحو هذه الانتاجات والاكتفاء بها يحوّلها من أسلوب للاحتجاج إلى وسيلة للتخدير، فالشاب يظنّ أن بسماعه لهذه الأغاني ومشاهدة هذه الفيديوهات قد احتجّ على الوضع وحقّق مراده ليركن مجدّدا إلى المقاهي ويهجر السياسة.”
يوجد في الجزائر العشرات من “بودكاستر”، أغلبهم نقاد ساخرون، بشكل مباشر أو عبر الفكاهة والفن، سلاحهم في عملهم هموم المواطنين وفساد المسؤولين، ومن بينهم “يوسف زروطة” الذي شوهدت فيديوهاته أكثر من 30 مليون مرة. ويشترك في قناته أكثر من مليون شخص، ما يجعله واحدًا من أنجح الكوميديين الجزائريين على “يوتيوب” بفضل نقده كل شيء يهم الشاب الجزائري بذكاء وجرأة.
بدورها تقول الجزائرية نور الهدى (24 سنة) إن ” البودكاستر يلجؤون إلى الاحتجاج من خلال هذه الفيديوهات دون وعي منهم أن هذه الانتاجات أصبحت مخدّر للشعب حتى لا يطالب هذا الأخير بحقوقه، فهذه الفيديوهات كفيلة لوحدها بأن تقوم بالواجب وفق التصور الذي سكنه”.
تضيف في تصريح لنون بوست، “هنا لا يمكن أن نتحدّث عن تغيير قادم تساهم فيه هذه الفيديوهات بل العكس، فهي ستكون أداة لدعم السائد”، وتتابع “صحيح أن ما يعبّر عنه هؤلاء في انتاجاتهم الفنية يمثّل معاناة الجزائريين لكن بمجرّد خروج الاصدار وانتشاره فإن الحرقة التي لدى الشباب ستنطفئ.”
وتؤكّد نور الهدى أنه “عوض أن يطالب الشباب بحقوقه ومطالبه ويسمع صوته للمسؤولين مباشرة، أصبح يظنّ أن هذه الفيديوهات هي كفيلة بإيصال صوته للجهات المعنية ولا داعي لتكلمه بنفسه، لذلك أصبحت الأساليب التي ينتهجها بعض الشباب الجزائري في التعبير عن أراءهم وانشغالاتهم ومطالبهم عن طريق الفيديوهات أصبحت سلاح ضدّهم.”
ويعدّ الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الحاليّ، الذي تسيطر عليه وجوه تأبى أن تستقيل وتترك مكانها لغيرها، متدهورا ومتدنيا مقارنة بالطموحات والآمال التي ينشدها الغالبية في سكن وعمل وترفيه، ويعدّ الشباب الجزائري أن رجال المعارضة والسلطة، هم السبب في أزمات عديدة تعيشها بلادهم حاليًّا.