مطالبات الفقيد جمال خاشقجي بإحداث إصلاحات سياسية واجتماعية حقيقية في المملكة العربية السعودية ونداءاته المتكررة بإطلاق الحريات العامة واحقاق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فيها، كانت من أهم الأسباب الدافعة لاغتياله، وأن المهمة برمتها تهدف إلى إسكات صوته المنطلق عبر المنابر الإعلامية الأمريكية كصوت مضاد للماكينة الإعلامية التي وظفها بن سلمان في أميركيا والعالم الغربي لتلميع صورته وتعزيز مكانته كمصلح ومحدث طموح متوافق مع المبادئ الغربية، ولجم وإرهاب معارضو النظام والمطالبين بالديمقراطية والحريات، وإفهامهم أن يد أجهزة الأمن السعودية طائلة وقوية وتضرب في كل مكان.
تداعيات قضية اغتيال جمال خاشقجي ما زالت تلاحق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وقد باتت الشكوك الدائرة حول ضلوعه في الحادثة وعلاقته بفريق الاغتيال مؤكدة لدى كثير من المؤسسات الدولية والقانونية الرسمية والمستقلة، ووفقًا لنتائج التحقيقات المتواصلة والمتكشفة تباعًا صار من الواضح أن هناك صلة قوية بين محمد بن سلمان وأمر التصفية وأن العملية جرت بعلمه وموافقته.
قد تفضي تلك الجهود إلى تخليص ابن سلمان من ورطته وضمان نجاته واستمراره في الحكم وهنا يكمن الخطر الحقيقي وتتجلى المعضلة الكبرى
وبالرغم من قوة الأدلة التي تدين ابن سلمان بشكل شخصي إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحاول تبرئة ساحته وإبعاد الشبهات عنه، ففي بيانه الأخير الذي وزعه المكتب الصحافي للبيت الأبيض قال ترامب أن “الولايات المتحدة تعتزم أن تظل شريكًا دائمًا للسعودية لضمان مصالح بلادنا وإسرائيل وشركاء آخرين في المنطقة”، وأن “الملك سلمان وولي العهد ينكران بشدة أي معرفة بالتخطيط أو تنفيذ جريمة قتل السيد خاشقجي” مؤكدًا على أن “العلاقة الأميركية السعودية أكثر أهمية من مسألة احتمال تورط ولي العهد في الجريمة”،وعلى ذات المنوال دعمت دول أخرى على رأسها إسرائيل ولي العهد السعودي ودافعت عنه، وسارعت بعض المؤسسات الاقتصادية الكبرى إلى زج التهمة عنه ومد طوق النجاة له، وذلك بالتأكيد ليس حبًا فيه أو ايثارًا له، إنما استجابة لمصالح تلك الدولة والمؤسسات وطمعًا في المال والنفط السعودي.
قد تفضي تلك الجهود إلى تخليص ابن سلمان من ورطته وضمان نجاته واستمراره في الحكم وهنا يكمن الخطر الحقيقي وتتجلى المعضلة الكبرى، فبالنظر إلى سياسة ابن سلمان وتصرفاته منذ أن بويع أبوه سلمان ملكًا على السعودية – وليس منذ تنصيبه وليًا للعهد فحسب – نجد أنه سعى لإحكام قبضته على مقاليد السلطة وحصر القرار في يده ليصبح المرجعية النهائية لشئون الدولة كافة، ديفيد أوتاواي كبير الباحثين في شؤون الشرق الأوسط في مركز ويلسون قال “في حين كانت تُدار البلاد بتوافق آراء كبار الأمراء، فقد أصبحت تُدار الآن برجل واحد، مع القليل من التدخلات من والده”، وقد سارع إلى تصفية الخصوم في العائلة ولم يتسامح مع أي انتقاد كان.
مراصد حقوق الإنسان والحريات وثقت في تقاريرها حالات التعذيب المروعة والمضايقات الجنسية والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان التي تمارسها السلطات السعودية ضد المعتقلين والسجناء
وزجت أجهزته الأمنية بالكثير من الأمراء ودعاة الإصلاح والمشايخ والعلماء والمفكرين المؤثرين والنشطاء والمطالبين بالحريات في السجون ونكلت بهم أشد التنكيل، وضايقت على أسرهم ومنعتهم من السفر، وأوقفت المنح الدراسية لكثير من المبتعثين كما استدرجت بعضهم وحبستهم بعد أن وعدتهم بعدم معاقبتهم إن أوقفوا نشاطهم وعادوا إلى المملكة، وأضعف بن سلمان المؤسسات التجارية والاقتصادية ورجال الأعمال عبر مصادرة أموالهم أو مشاركتهم في مؤسساتهم، وتجرأ على الثوابت الراسخة منذ إنشاء المملكة، ولم يكترث لحقوق الإنسان ولا بحرية الرأي، وقد أشعل في كل زاوية حريقًا فمن حرب اليمن إلى حصار قطر إلى اعتقال الحريري والأزمة مع كندا ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر إنفاذ صفقة القرن.
مراصد حقوق الإنسان والحريات وثقت في تقاريرها حالات التعذيب المروعة والمضايقات الجنسية والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان التي تمارسها السلطات السعودية ضد المعتقلين والسجناء، من ذلك ما أوردتاه منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية في بيانات لهما عن “قيام أجهزة الأمن السعودية بتعذيب ناشطات في حقوق الإنسان بصعقهن بالكهرباء والجَلد، بالإضافة إلى العناق والتقبيل القسري والتحرش بهن جنسيًا من قبل محققين ملثمين”، مما جعل “السعودية أكثر قمعًا مما كانت عليه في الماضي” على حد تعبير جيمس دورسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بجامعة “نانيانغ” التكنولوجية في سنغافورة
جريمة اغتيال خاشقجي ليست الجريمة الأكثر بشاعة التي يرتكبها النظام السعودي وليست سابقة من نوعها في العالم العربي ومن المؤكد أن لدى الغرب ومنظماته الحقوقية الكثير من القضايا المشابهة وربما أكثر منها فضاعه، ولكنهم لم يحركوا لذلك ساكنًا لأن الأمر لا يهمهم، ويريدون للعالم العربي أن يبقى في التخلف والدكتاتورية فلا الأخلاق ولا المبادئ تعلو في عالم السياسة والمال والمصالح عند كثير منهم، ولولا الدعم الإعلامي المكثف وخصوصًا من الوكالات الأمريكية التي تتابع القضية وتطالب بكشف ملابساتها وتساند الموقف التركي لتخذ الأمر منحى آخر أقل ضررًا على السعودية وربما لماتت القضية بين ثنايا الأحداث العالمية المستجدة موقع Axios الأمريكي نقل عن مصدر في البيت الأبيض أن دونالد ترامب قال خلال جلسة استشارية مع مساعديه أن “قضية خاشقجي أخذت أكبر من حجمها، وأنها أثارت الرأي العام العالمي بشكل كبير، وهي بالتالي لا تستأهل كل هذا الضجيج الإعلامي حولها” و تساءل عن سبب “الاهتمام الزائد للإدارة الأمريكية بالموضوع طالما أن خاشقجي ليس مواطنًا أمريكيًا، وهذا يثير المخاوف حول استمرار الانتهاكات الصارخة للحريات وحقوق الإنسان في الأراضي السعودية دون أن يكون هناك رادع لتجاوزات النظام أو حماية للمعارضين المستهدفين.
القصاص لخاشقجي له أبعاد أخلاقية وإنسانية تتجاوز تقديم فريق الاغتيال للمحاكمة وإيقاع أقصى العقوبات بحقهم
أن امكانية نجاة محمد بن سلمان وتمكنه من الإفلات من العقاب ستطلق يده إرهابًا وبطشًا بالشعب السعودي وسيغريه ذلك إلى ارتكاب كل ما يحلو له من جرائم، وسيكون حكمه دكتاتوريًا صارمًا وسيُحكم قبضته على جميع مناحي الحياة السعودية، ولن يكون حال معارضيه أو المطالبين بالإصلاح والحقوق والحريات في مأمن وستتحول المملكة إلى أكبر أعداء الحرية ومكمن الخوف والتكميم وستطور أجهزة الأمن السعودية من أساليبها في ملاحقة المطلوبين وتصفيتهم بهدوء وسرية وحرفية وسنشهد مملكة أخرى تغوص في التخلف والظلم والاستبداد.
القصاص لخاشقجي له أبعاد أخلاقية وإنسانية تتجاوز تقديم فريق الاغتيال للمحاكمة وإيقاع أقصى العقوبات بحقهم، تتطلب هذه الأبعاد من المجتمع الدولي ومؤسساته كافة أن يقف بقوة أمام غطرسة وإجرام الأجهزة الأمنية السعودية التي تمارس أشد وأقبح أنواع القمع والتعذيب على معارضيها وتحبسهم في ظروف لا إنسانية ولا آدمية، وقد حث الباحث في هيومن رايتس ووتش آدم كوجل قادة العالم على “دفع الرياض إلى القيام بإصلاحات مهمة في مجال حقوق الإنسان ما من شأنه أن يزيد من مساحة حرية الرأي والتعبير والبدء بالإفراج عن عشرات من نشطاء حقوق الإنسان والكتاب والمفكرين الذين ألقى بهم في السجن مؤخرًا”، والواجب على كل ضمير حر في هذا العالم أن يتحرك للضغط على ابن سلمان ومؤسساته الأمنية لوقف جناياتهم بحق معتقلي الرأي والكلمة، وإفشال محاولات إنقاذ ابن سلمان من تبعات جريمة اغتيال خاشقجي.