كلّ منطقة في الجزائر لها ثقافتها وفنّها الخاصة بها، الذي عرفت واشتهرت به حتى أصبح بمثابة الهوية لتلك الجهة، فما إن يذكر اسمه حتى يحيلك مباشرة إلى اسم منطقته، من ذلك فنّ الإمْزاد في صحراء البلاد المخصصة حصرا للنساء الترقيات (الطوارق). في هذا التقرير سنتعرف سويا على هذا الفنّ الطارقي الذي يحمل اسم الآلة التي يعزف بها.
موسيقى الحبّ والمفاخرة
قبل 15 سنة، كان فن الإمْزاد مهدّدا بالزوال والنسيان من ذاكرة التاريخ، فلا عازف له في صحراء تمنراست (2000 كلم جنوب العاصمة الجزائرية)، سوى عازفة طاعنة في السن اسمها “ألامين خولن”، غير أنّ تأسيس جمعية “أنقذوا الإمزاد” عام 2003، نفخ الروح في هذا الفنّ ليضيء مجدّدا سماء الصحراء الجزائرية ويمتدّ إلى مرتفعات النيجر ومالي المجاورتين.
وفنّ “الإمزاد”، هو عبارة عن مجموعة من الأغاني الشعرية والعزف الموسيقي الخاص بقبائل الطوارق، أكبر القبائل المنتشرة في الصحراء الإفريقية، ذلك الشعب المهجن الذي يجمع في دمائه أعراقًا تارقية وعربية وإفريقية، بحكم مجاورته للعرب في الشمال وللأفارقة الزنوج في الجنوب.
تصنع آلة الإمزاد من قدح خشبي، يربط ويشد على فمه جلد ماعز أو غزال، يخرج من طرفيه عودان يشد بينهما قضيب من شعر الخيل، ويثقب الجلد ثقبان أو ثلاثة في الوسط، ويأخذ عودا على شكل هلال، ويربط طرفيه بقضيب من شعر ذيل الخيل، ثم يدعك الشعر بعضه ببعض.
تخصّص قبائل التوارق هذه الآلة حصرا للنساء وتحرّم على الرجال الزُّرق
هذه الآلة الموسيقية التي تشبه إلى حد ما في طريقة عزفها بالربابة، تصدر صوتا مميزا، وتعزف الآلة في الحب والحزن والفرح، فتسمّى موسيقى الفرح “إيسوهاغ نيمزاد وينترا”، ويُطلق على موسيقى الحزن “إيسيوهاغ نيمزاد وينتكا”.
ويتنوع الغناء في مجتمعات الطوارق في الصحراء الجزائرية وشمال مالي والنيجر حسب المقام، إما غناء بالأمجاد والبطولات، وإما التغني بالحبيبة في الطرق الطويلة، أو غناء مناسبات. ويفسّر وصول هذا الفن إلى مالي والنيجر إلى كون الطوارق أوفر قبائل الأمازيغ ولا يكاد قطر من الأقطار يخلو من بطن من بطونهم من جبل أو سهل، وفق وصف المؤرخ ابن خلدون في مقدمته المشهورة.
ويشتق اسم “الطوارق” من الكلمة الأمازيغية “تارجة” التي تعني الساقية أو منبع الماء، حسب عديد من المؤرخين، ويفضل الطوارق تسميتهم بـ”إيماجغن” أو “إيموهاغ”، ومعناها بالعربية “الرجال الشرفاء الأحرار”، فيما يطلق عليهم الأوروبيون اسم “الرجال الزرق”، لكثرة ارتدائهم القماش الأزرق.
ينقسم لحن الإمزاد، إلى لحن أساسي أو سيّد يُطلق عليه في اللغة الأمازيغية المحلية “آمغار”، وألحان فرعية تسمى “إيزلان”، وهي الفروع أو الأغصان. ويوجد 36 لحنا خالدا ومعروفا في هذه الموسيقى. أما القصائد المرافقة للحن فتتناول مواضيع تشكل صلب حياة الإنسان التارقي وتعطي معنى لوجوده، وهي مواضيع تدور حول المرأة والجمال والشجاعة والنبل والوطن، إضافة إلى قصائد تغنى في المناسبات الاجتماعية والدينية كالأعراس وأعياد المولد النبوي وعاشوراء.
لا تعتبر “الإمزاد” التي صنعت المرأة التوارقية ألتها من أواني البيت في الصحراء، موسيقى رقص وصخب، بل هي موسيقى للتأمل والتفكير واستحضار كل ماهو مدعاة للفخر والشجاعة، ويستوحي صوتها الضارب في أعماق التاريخ والمميز، غموضه وشجونه من عالم الصحراء الساحر والمليء بالطلاسم والأساطير.
وكانت موسيقى الإمزاد سابقا، ترافق اللقاءات العاطفية المعروفة بـ “أهال”، التي عادة ما تجمع شباب التوارق حتى غروب الشمس، وتتواصل أحيانا في جزء من الليل الذي لا يخترق هدوء سكونه إلا أنغام الإمزاد، وألحانه الرقيقة الخافتة التي تتماشى مع الهدوء الذي يعم الصحراء.
حصرا للنساء التارقيات
تخصّص قبائل الطوارق هذه الآلة حصرا للنساء وتحرّم على الرجال الزُّرق، فالمرأة هي العازفة الأولى والأخيرة على آلة الإمزاد. تجلس العازفة في بداية السهرة، رفقة مجموعة من النسوة تحت خيمة مفتوحة في الصحراء، حَوْلهن رجال يرتدون لباسا تقليديا يلازمه لثام ملفوف بإحكام على وجوههم فلا تظهر سوى عيونهم. تضع العازفة، الآلة على ركبتيها وتعزف عليها أجمل القصائد باستخدام قوس، فيعلو صوت الغناء والعزف.
وارتبط الحديث عن الإمْزاد دوما بالقصص والأساطير التي خطها الطوارق وتوارثوها في ثقافتهم، وتقول الأسطورة الشفوية عند الطوارق إن أيّ رجل تارقي يعزف الإمزاد الذي ارتبط بظهورهم وثقافاتهم ستحلّ عليه اللعنة، وتقول أيضا إن كلّ من يحاول عزفها، يقاطع من القبيلة، لأنهم يعتقدون أنّ ذلك ينتقصّ من رجولة عازفها.
سُجلت آلة الإمزاد سنة 2013 في التراث الإنساني من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة
تعتبر المرأة في مجتمعات الطوارق، الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي. ويقول الرحالة ابن بطوطة عقب رحلته عبر الصحراء الكبرى التي استغرقت خمسة عشر يومًا زار فيها جبال الهقار (موطن الطوارق الرئيسي)، “هم قبيلة من البربر لا تسير القوافل إلا في خفارتهم، والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأنًا من الرجل”.
كلام “ابن بطوطة”، يؤكد ما ذهب إليه المؤرخون والباحثون من تميز المرأة على الرجل في المجتمع التارقي، فحسب الباحثين في علم الاجتماع، تحظى المرأة التارقية بمكانة خاصة، فمجتمعهم يعد من المجتمعات الأمومية. وعكس الرجال هناك، يكشف نساء الطوارق، شعورهن ولهن مكانة بارزة في المجتمع.
من عظم المكانة التي تحظى بها المرأة في تلك المجتمعات، أنه لها حرية اختيار شركاء حياتهن بأنفسهن وتخول لهن التقاليد والأعراف طلب الطلاق والخروج من بيوتهن متى شئن، وعادة ما تبادر المرأة الطوارقية إلى مغازلة الرجل إذا شعرت بإعجاب تجاهه، والإيحاء له برغبتها في الارتباط بعلاقة معه.
مادة تاريخية ثرية
ترتبط قصة الإمزاد بقصص صُنّاع تاريخ التوارق وأمجادهم، فهي روح الثقافة الترقية، حيث تلتقي قبائل التوارق منذ آلاف السنين حول تلك الآلة التي تحوّلت لعنوان فنّ عُرف به التارقيين أينما ارتحلوا وحلّوا.
وتقول بعض الروايات التي تحكي البدايات الأولى لهذا اللون الموسيقي وآلته المميزة، إن إحدى ملكات التوارق كانت تسمى “تينهينان، هي من كانت أوّل من اخترع هذه الآلة، وقد حكمت “تينهينان” في القرن الخامس للميلاد ” قد استقرّت في منطقة الهقار بولاية تمنراست.
وتمكن فن ” الإمزاد” من حفظ تاريخ التوارق، في هذا الشأن تقول الكاتبة الجزائرية فريدة سلال في كتابها “الإمزاد”،”الثقافة الشفوية الترقية مكنت من الحفاظ على تاريخ وثقافة الطوارق، وذلك بفضل الإمزاد”.
ويعد هذا الفن الصحراوي أيضا، بمثابة حلقة اجتماعية تتفاعل فيها مختلف مكونات المجتمع الترقي. فكونه محرم على الرجال، تبقى المرأة الوحيد التي يمكنها العزف؛ وبالتالي هي الوحيدة التي يمكنها تعليم العزف لابنتها أو طفلة من أقاربها. تقول سلال إنه ” عندما تحسن امرأة ما في الهقار العزف على الإمزاد، فإن صيتها سيصل مسامع جميع الرجال في تلك الأرض الشاسعة، وسيأتون من كل صوب لسماعها”.
تميز الإمزاد الثقافة التارقية
يمكن الاعتماد على الشعر المعزوف كمرجع تاريخي بالرغم من هشاشة الثقافة الشفوية، ذلك أنه يعتبر إرثا ثقافيا تاريخيا، فقد كان حاضر منذ مئات السنين في الجنوب الجزائري ومازال إلى الأن صامدا بفضل عشرات النساء اللاتي أبين إلا الحفاظ على إرث أجدادهن.
نظرا لأهمية هذا الفنّ، سُجلت آلة الإمزاد سنة 2013 في التراث الإنساني من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للانسانية، بعد أن قدّمت الجزائر ملفا باسمها الخاص وباسم كل من مالي والنيجر بحكمهما دولتين تشتركان والجزائر في هذا الارث الثقافي.
لحمايته من النسيان، أقيم “بيت الإمزاد” في مطلع الألفية الثالثة، وهو ما ساهم بشكل كبير في تدريب عشرات الفتيات العازفات من المنطقة، ويضم “البيت” مسرحًا للعروض وصالةً للرقص واستوديو للتسجيل وورشة لصناعة هذه الآلة الموسيقية. هكذا، نفخت هذه الجمعية الروح في هذه الآلة الطربية.