بالاتفاق مع الروس.. “إسرائيل” تسرح جنوب سوريا لتطويق “حزب الله”

على مدار العقود الأربعة الماضية، اعتمدت “إسرائيل” على نظام الأسد لضمان هدوء واستقرار حدودها الشمالية، مستندة إلى اتفاقية عام 1974 التي نصت على إنشاء خط لفك الاشتباك بين دمشق وتل أبيب، والمعروف باسم “يوندوف”، برعاية الأمم المتحدة.
لكن مع التحولات الجيوسياسية التي شهدتها الساحة السورية في السنوات الأخيرة، وظهور لاعبين وقوى جديدة، وتعزيز “حزب الله” والميليشيات الإيرانية نفوذهما على الحدود الجنوبية لسوريا، دفع ذلك تل أبيب إلى تعديل استراتيجياتها الأمنية لضمان تأمين حدودها مع الدول المجاورة، خاصة بعد عملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس في 7 من أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي ضد القوات الإسرائيلية في قطاع غزة.
ورغم أن الأنظار تتركز على التصعيد الإسرائيلي ضد “حزب الله” وما يرافقه من اهتمام إقليمي ودولي، إلا أن التحركات الإسرائيلية الأخيرة في جنوب سوريا تحمل دلالات استراتيجية لا تقل أهمية عما يجري في جنوب لبنان، في خطوة قد ترسم خرائط المشهد الأمني للشرق الأوسط الجديد الذي يروج له رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العديد من خطاباته.
ماذا يجري؟
خلال السنوات الماضية اتبعت “إسرائيل” استراتيجية صارمة ضد “حزب الله” والميليشيات الإيرانية في سوريا، تمثلت بتوجيه ضربات جوية استهدفت مصانع الأسلحة وشحنات عسكرية وقادة عسكريين بارزين، بهدف منع إقامة أي قواعد عسكرية لطهران وأذرعها.
وبعد عملية طوفان الأقصى، توجهت أنظار تل أبيب إلى سوريا خشية انخراط قوات “حزب الله” والميليشيات المدعومة من إيران، وخاصة المتواجدة في جنوب سوريا، في الصراع ضمن ما يسمى “محور المقاومة”، فزادت من ضرباتها الجوية حيث استهدفت مطارات وأنظمة رادار في الجنوب.
ورغم سياسة الحياد التي اتبعها النظام السوري وعدم الانخراط في الصراع، وجه مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون تحذيرات إلى الأسد بتحويل سوريا، وخاصة الجنوب، إلى قاعدة عسكرية إيرانية لمهاجمة “إسرائيل” من خلالها.
آخر هذه التهديدات كان من وزير الدفاع السابق ورئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان الذي يعتبر من اليمين المتطرف، قائلًا، عبر قناته في “تلغرام”، إنه “في حال استمرار دمشق بالسماح لأعداء إسرائيل باستخدام أراضيها لأغراض عسكرية أو لوجستية، سيتم السيطرة على جبل الشيخ وعدم التخلي عنه بعد السيطرة عليه، ما يمكن لتل أبيب من رؤية دمشق بأكملها”.
وبدأت “إسرائيل” في اتباع استراتيجية جديدة على حدودها مع سوريا، تتمثل في بناء سياج أمني على طول الحدود في خطوة تهدف إلى منع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر، عبر قيامها بتحصين قواتها على طول الخط الفاصل بين البلدين.
خلال الأسبوعين الماضيين، بدأت القوات الإسرائيلية بالدخول إلى الأراضي السورية، عبر قوة من الجيش الإسرائيلي في 21 من أيلول/ سبتمبر بعمق نحو 200 متر، غرب بلدة جباتا الخشب الحدودية بريف القنيطرة، برفقة جرافات ودبابات ومعدات حفر.
وتكررت عمليات التوغل الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، كان آخرها قبل يومين، عندما دخلت قوى إسرائيلية قرب قرية العشا جنوبي القنيطرة مؤلفة من 75 عنصرًا وأربع دبابات من نوع ميركافا برفقة جرافات عسكرية، حسب ما قاله مصدر إعلامي في الجنوب لـ”نون بوست”، مؤكدًا أن الجرافات الإسرائيلية قامت بتجريف أراض واقتلاع الأشجار وحفر خندق في المنطقة المحاذية للسياج الحدودي.
وحسب ما نقلت وكالة “رويترز” عن جندي في قوات النظام السوري ومسؤول أمني لبناني ومسؤول في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فإن القوات الإسرائيلية “أزالت ألغامًا أرضية وأقامت حواجز جديدة على الحدود بين مرتفعات الجولان المحتلة وشريط منزوع السلاح على الحدود مع سوريا”.
أهداف التوغل الإسرائيلي في سوريا
هدفان وراء التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري، الأول هو استراتيجية “الأحزمة الآمنة” التي تنوي اتباعها لمنع تكرار سيناريو طوفان الأقصى، عبر بناء سياج وحزام أمني مع الدول الحدودية سواء في جنوب أو في حدودها الشرقية مع الأردن.
وحسب ما قاله الجندي في قوات النظام للوكالة فإن “إسرائيل تدفع السياج الفاصل بين الجولان المحتل والمنطقة منزوعة السلاح إلى أبعد من ذلك، وتقيم تحصينات خاصة بها بالقرب من سوريا، حتى لا يكون هناك أي تسلل في حال اشتعال هذه الجبهة”.
وأضاف أن “إسرائيل تبدو وكأنها تعمل على إنشاء منطقة آمنة في المنطقة منزوعة السلاح”، في حين نقلت الوكالة عن مصدر أمني لبناني رفيع المستوى قوله إن “القوات الإسرائيلية حفرت خندقًا جديدًا بالقرب من المنطقة منزوعة السلاح في أكتوبر/تشرين الأول”.
بدورها نشرت القناة 14 الإسرائيلية تفاصيل السياج الأمني مع سوريا، وذكرت أنه سيكون “مزودًا بوسائل تكنولوجية متطورة وأدوات لجمع المعلومات الاستخباراتية. كما ستقوم المنظومة الأمنية بأعمال هندسية في محيط الحدود السورية لتحسين تحصين المنطقة بشكل أكبر”.
وأشارت القناة إلى الهدف من ذلك هو “إعاقة قوات العدو والعناصر المعادية إذا حاولت اختراق الحدود نحو الأراضي الإسرائيلية”، مؤكدة أنه يتم في السياج الجديد الاستفادة من الدروس المستخلصة من السياج الذي تم اختراقه من قبل حماس خلال الهجوم في 7 أكتوبر.
كما أكدت أنه “من بين التدابير الدفاعية التي سيتم تنفيذها في سياق الحاجز الجديد هو إقامة تل ترابي بارتفاع عدة أمتار، وحفر خنادق بعمق مشابه على طول الحدود، وبناء سياج مزدوج، إلى جانب السياج الحدودي القديم القائم بين سوريا وإسرائيل”.
وإلى جانب سوريا، ذكرت القناة الإسرائيلية أن المؤسسة الأمنية تشعر بالقلق من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية مغادرة العراق بحلول عام 2026، وسد إيران لهذا الفراغ ما يعني وصولها إلى الحدود مع “إسرائيل”.
وأكدت “إنشاء فرقة عسكرية جديدة ستتعامل مع الحدود الشرقية (الأردن) لإسرائيل بأكملها، وستسيطر بشكل كامل على المنطقة الممتدة من بيت شان (بيسان) وحتى إيلات”، و”سيتم تشكيل 3 ألوية، جميعها ستكون تحت الفرقة الجديدة، والتي ستعمل كفرقة إضافية إلى جانب فرقة يهودا والسامرة ضمن قيادة المنطقة الوسطى”.
تطويق الحزب من الشرق
أما الهدف الثاني من التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا، هو توسيع العمليات البرية ضد حزب الله اللبناني وتطويقه من الشرق، حسب ما أفاد مصدر أمني لبنان لوكالة “رويترز” بأن “عمليات إزالة الألغام في القنيطرة قد تسمح للقوات الإسرائيلية بتطويق حزب الله من الشرق”، في استراتيجية الحد من حركة عناصر “حزب الله” وقطع طرق الإمداد ومنع تعزيزاته القادمة من سوريا أو إيران.
وفي ظل ما يجري على الحدود السورية- الإسرائيلية توجهت الأنظار نحو القوات الروسية التي تنتشر نقاطها العسكرية بشكل مكثف على طول الشريط الحدودي.
وحسب مصدر إعلامي لـ”نون بوست” فإن القوات الروسية في الجنوب السوري تنتشر بشكل رئيسي على الشريط الحدودي مع “إسرائيل” وخاصة في تل الحارّة والشعار والمعلقة، مشيرًا إلى أن هذه القواعد مجهزة بمعدات وأجهزة اتصال متطورة، للحد من أي اشتباك محتمل في تلك المنطقة.
وقال المصدر إنه في حال قرر حزب الله تنفيذ أي مناوشات أو هجمات باتجاه الشريط الحدودي، فلن يتمكن من التحرك دون أن يتم رصده أو كشفه من قبل القوات الروسية، مضيفًا أن القصف الجاري حاليًا والطائرات المسيرة التي تستهدف “إسرائيل” يتم إرسالها من مناطق بعيدة وخاصة اللواء 12 التابع لنظام الأسد والمتواجد في بلدة إزرع.
منذ التدخل الروسي في سوريا 2015 تعددت أهداف تواجد قواتها من تقديم غطاء سياسي وعسكري لدعم نظام الأسد ضد فصائل المعارضة، إلى لعب دور الضامن والوسيط في مرحلة التسويات بين النظام والمعارضة.
أما حاليًا، فتقوم القوات الروسية بدور الضابط والمراقب على طول حدود الجولان، حيث تعمل على منع حزب الله وميليشيات إيران من أي تصعيد عسكري قد يخرج الأوضاع عن السيطرة، مما قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على نظام الأسد.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقبل رئيس النظام السوري بشار الأسد في أواخر يوليو/تموز الماضي، حيث صرّح قائلاً: “الأمور تميل إلى التفاقم في المنطقة، وينطبق هذا أيضًا بشكل مباشر على سوريا”.
ومع دخول القوات الإسرائيلية إلى الأراضي السورية، انسحبت القوات الروسية، وفقًا لما ذكرته وكالة “رويترز”، التي نقلت عن مصادر أمنية أن “القوات الروسية غادرت موقع تل الحارة، الذي يُعد أعلى نقطة في محافظة درعا جنوب سوريا، ونقطة مراقبة استراتيجية”.
وقال ضابط في قوات النظام للوكالة إن “الروس غادروا بسبب تفاهمات مع الإسرائيليين لتفادي أي صدام”، مضيفًا أن “قادة الجيش السوري أصدروا أوامر للمجموعات شبه العسكرية السورية بالانسحاب من منطقة القنيطرة الجنوبية في الجولان خلال 24 ساعة”.
كما ذكرت الوكالة أن “الجماعات المسلحة العراقية المدعومة من إيران أصدرت أوامر لمقاتليها بالانسحاب من مناطق في ريف القنيطرة الجنوبي، بعد رصد دبابات إسرائيلية في المنطقة”، وأكدت أن “المقاتلين العراقيين تلقوا تعليمات واضحة بعدم الاشتباك المباشر مع القوات الإسرائيلية”.