لطالما سمعنا ولا نزال نسمع من الكثيرين عن أنّ ترتيب الطفل بين أخوته يلعب دورًا كبيرًا في شخصيته ومعدّل ذكائه ومهاراته الاجتماعية وتعامله مع بعض جوانب الحياة. وعلى أنّ الموضوع لا يتعدّى بكونه مجرّد كلامٍ تتناقله الألسن، إلا أنّ ثمة جهود فعلية في علم النفس لدراسته ومحاولة فهمه.
كان عالم النفس النمساوي ألفرد إدلر أول من سلّط الضوء على أثر ترتيب الطفل بين أخوته على شخصيته وسلوكه. إذ رأى أنّ الترتيب الولادي عادةً ما يترك أثرًا طويلًا في حياة الفرد ولا ينحصر أبدًا على مرحلة الطفولة فقط، وتنعكس لاحقًا على الكثير من جوانب حياته مثل الصداقة والحبّ والعلاقات الاجتماعية والعمل وغيرها.
باختصارٍ شديد، اعتقد إدلر بأنّ الطفل الأكبر قد يتعرّض للتجاهل والإهمال عندما يأتي الطفل الثاني، وبالتالي ففقدان الاهتمام الذي كان يحوزه لوحده دومًا قد يؤثر على نفسيّته بشكلٍ دائم. ومن جهةٍ ثانية، قد يشعر الطفل الأوسط بالتجاهل أو الإهمال نتيجة الاهتمام بأخوته الأكبر أو الأصغر منه، مما يؤدي إلى تطويره لما يسمى بمتلازمة الطفل الأوسط.
اعتقد ألفرد إدلر أنّ فقدان الطفل الأكبر للاهتمام الذي كان يحوزه لوحده قد يؤثر على نفسيّته بشكلٍ دائم في المراحل اللاحقة
لكن وعلى الرغم من الشعبية الواسعة التي تحظى بها هذه المتلازمة، إلا أنّ العديد من هذه المعتقدات حول الأطفال المتوسّطين لا ترتكز على أية علمٍ حقيقي ودراسات فعلية وإنما تنتمي إلى ما يُعرف بعلم النفس الشعبي. ومع ذلك، وجد عددٌ قليل من الدراسات والأبحاث بعض التشابه بين الأطفال المتوسطين، ما يجعلنا نتساءل فعليًا عن أثر الترتيب الولاديّ على الطفل.
محاولات متواضعة.. الترتيب الولاديّ يؤثّر فعلًا على الشخصية
في إحدى الدراسات التي نُشرت عام 1998، عمل الباحثون مع أكثر من 400 طالبٍ جامعيّ طارحين عليهم بعض الأسئلة فيما يتعلّق بعلاقتهم بوالديْهم وإخوتهم. إحدى النتائج المثيرة للاهتمام كانت أنّ الذين جاء ترتيبهم بالوسط بين إخوتهم كانوا أقلّ اعتمادًا على والديْهم وأكثر ميلًا لطلب المساعدة من إخوتهم الأكبر أو الأصغر في حال احتاجوا إليها. وترجع الدراسة السبب وراء ذلك إلى أنّ الطفل الأوسط فعادةً ما يقضون وقتًا أقلّ مع والديهم مقارنةً بأخوتهم، ما ينعكس على درجة قُربهم منهم واعتمادهم عليهم.
تشير بعض الأبحاث إلى أن الأخوة الوسطاء يميلون إلى أن يكونوا أكثر انفتاحًا وراغبين في تجربة أشياء جديدة مقارنةً بأشقّائهم الأكبر أو الأصغر سنًّا
وفي المقابل، أظهر الأخوة الأوسط قدرةً أعلى على تكوين الصداقات والحفاظ على العلاقات الاجتماعية مقارنةً بغيرهم، ما يعني أنهم يمتلكون مهاراتٍ اجتماعية أفضل استطاعوا من خلالها التعامل مع الاستبعاد أو التجاهل الذي يشعرون به في العائلة، ليركّزوا طاقاتهم خارجها في تكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية المستقرة.
عوضًا عن ذلك، تُشير بعض الأبحاث إلى أن الأخوة الوسطاء يميلون إلى أن يكونوا أكثر انفتاحًا وراغبين في تجربة أشياء جديدة مقارنةً بأشقّائهم الأكبر أو الأصغر سنًّا. ويُعتقد أنّ السبب يعود إلى أنهم عادةً ما يكونون مجبرين على أنْ يكونوا أكثر استقلالية؛ ممّا يمنحهم القدرة على العثور على مسارهم الخاص بعيدًا عن جوّ العائلة.
يعتقد الباحثون أنّ الطفل الأكبر عادة ما يكون أكثر ذكاءً نظرًا لأنه يعيش في جو عائلي أفراده راشدون و أذكياء دون وجود وسيط بينهم
ذلك ما تعتقده كاثرين سالمون في كتابها “القوة السرية للطفل الأوسط“، والذي جمعت فيه نتاج أبحاثها عن أثر ترتيب الطفل في العائلة على شخصيته ونموّه. تعتقد سالمون أنّ ميزة الطفل الأوسط قد تكون هي أنه لا يخضع لإشراف مفرطٍ من قبل والديه، ما يجعله أكثر قدرة على تطوير الاستقلالية والبحث عن الجديد واللامألوف، كما أنهم يمتلكون حريةً أكبر في اتخاذ قراراتهم.
من جهته، أشار الطبيب النفسي الأمريكي فرانك سولواي في كتابه “Born to Rebel” أنّ الترتيب الوِلادي يؤثر بشكل كبير على عناصر الشخصية الخمسة لدى الفرد، حيث زعم أنّ الطفل البكر عادةً ما يكون يقظ الضمير، ولديه نزعة للهيمنة الاجتماعية، ولكن في المقابل يكون أقل مقبولية وانفتاحًا للأفكار الجديدة مقارنة بأخوته المولودين لاحقًا.
من المهم أنْ نعي أنّ جميع هذه الدراسات والأبحاث، مثلها مثل غيرها من الأبحاث والنظريات التي تدرس الشخصية، هي بالنهاية مجرد فرضيات لا يمكن تطبيقها على الجميع
دراسة أخرى أشارت إلى أنّ الطفل الأكبر يكون أكثر ذكاءً من بقية أخوته، ويرجع السبب إلى أنّ الطفل البكر يُفرض عليه أن يعيش في جو عائلي أفراده راشدون و أذكياء، ما يؤثّر على شخصيته ومعدل ذكائه نظرًا لتعامله بشكل مباشر دون وسيط مع أولئك الراشدين. إضافةً إلى أنّ بعض الأبحاث أشارت إلى ارتفاع مشابه في معدل ذكاء الطفل الثاني الذي وُلد بعد خمس سنوات من الطفل البكر على سبيل المثال، نظرًا لاستفادته من أخيه الأكبر.
بالمحصلة، من المهم أنْ نعي أنّ جميع هذه الدراسات والأبحاث، مثلها مثل غيرها من الأبحاث والنظريات التي تدرس الشخصية، هي بالنهاية مجرد فرضيات لا يمكن تطبيقها على الجميع، لا سيّما وأنّ مجال الدراسة هذا لا يزال متواضعًا ولا يمكن تعميمه بشكلٍ واسع وعريض. كما أنّ ما هو أكثر أهمية فيما يتعلّق بالشخصية، هو أنّ وجود علاقة بين عامليْن لا تعني بالضرورة أنّ أحدهما هو السبب بحصول الأخرى. وبكلماتٍ أخرى، كونك الطفل الأوسط قد لا يكون السبب في أنك أكثر انفتاحًا واستقلاليةً. فالأمر غالبًا قد لا يخرج من نطاق العلاقة التي لا تشي أو تحدد الأسباب.