“لنَسْلِك أعطِ هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات”، نص يقدسه اليهود في سفر التكوين، ويحتج به الصهاينة لتبرير استيلائهم على الأراضي العربية، وهو ما قاله عام 1967 موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي “إذا كنا نملك التوراة، وإذا كنا نعد أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي التوراتية”، حسبما وثق المفكر الفرنسي روجيه جارودي.
يرى جارودي أن “إسرائيل” قامت على نوعين من الأساطير، أهمهما الأساطير الدينية القديمة، والثانية هي الأساطير السياسية الحديثة مثل المحرقة، كما يوضح في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”.
الأساطير الدينية نسفها – قبل تأسيس إسرائيل – الحاخام اليهودي المجري الأمريكي، يويل تيتلباوم Yoel Teitelbaum، أو جويل تيتلباوم Joel Teitelbaum، مؤسس حركة ساتمار اليهودية، الذي أثبت أن قيام “إسرائيل” خطيئة وخروج عن اليهودية.
جويل تيتلباوم: ملك الحاخامات
تيتلباوم أو “ملك كل الحاخامات” بحسب وصف مجلة “تايم” الأمريكية له، اعتبر أن وقوع المحرقة النازية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) سببه محاولاتهم إنشاء وطن في فلسطين، في مخالفة لتعليمات الرب، حسبما نقل عنه أستاذ التاريخ اليهودي زفي جوناثان كابلان في دراسته “الحاخام جويل تيتلباوم، الصهيونية والأرثوذكسية المتطرفة في المجر RABBI JOEL TEITELBAUM, ZIONISM, AND HUNGARIAN ULTRA-ORTHODOXY”.
خطورة الرجل على “إسرائيل”، تمثلت في كونه حاخامًا أرثوذكسيًا يهوديًا تقيًا، وصاحب كاريزما سحرت عشرات أو ربما مئات الآلاف من اليهود، ولم يقارع الصهاينة بأساليب سياسية أو قانونية، وإنما نسف شرعية وجود الدولة من أساسها الديني، وفقًا لحجج وأدلة من داخل النصوص المقدسة اليهودية ذاتها.
تيتلباوم أقوى صوت يهودي عارض قيام “إسرائيل” قبل تأسيسها عام 1947 وبعد قيامها، لتأثيره الديني الكبير، فهو قائد التيار الديني اليهودي المعارض بشراسة لوجود “إسرائيل” والصهيونية، يقول مناحيم كارين كارتز Menachem Keren-Kratz الباحث بالتاريخ اليهودي في دراسته “Rabbi Yoel Teitelbaum—the Satmar Rebbe—and the Rise of Anti-Zionism in American Orthodoxy الحاخام يويل تيتلباوم- حاخام ساتمار وصعود معاداة الصهيونية في الأرثوذكسية الأمريكية”.
يرى كارتز أن تيتلباوم حوّل معاداة الصهيونية في الولايات المتحدة إلى عقيدة دينية يهودية، بل في مرتبة عالية من العقيدة، بعد أن جعلها عنصرًا أساسيًا في تعاليمه وبين أفراد جماعته الأرثوذكسية اليهودية الكبيرة (ساتمار)، بل بين اليهود الأرثوذكس عمومًا.
ومع تزايد قوة “إسرائيل” أخذت شعبية تيتلباوم ونظريته تجاه الصهيونية تتزايد بين اليهود الأرثوذكس في الولايات المتحدة، وصارت مشاهدة التظاهرات الدينية اليهودية ضد “إسرائيل” أمرًا معتادًا هناك تحت غطاء ديني شرعي أسسه تيتلباوم، حتى أنها وصفت الصهاينة بالنازيين الجدد، بل أخطر من النازي، يقول كارتز.
هذه الشعبية الضخمة والتأثير الكبير لتيتلباوم وحركته التي أسسها (ساتمار) جعلت “إسرائيل” تحاول استرضاءه واستمالته لها، وفي المقابل شكك فيه كثيرون واتهموه بالجهل بالدين اليهودي، إلا أنه ظل على موقفه الرافض بل المعادي لوجود الدولة الصهيونية من الأساس حتى وفاته في 19 أغسطس/آب 1979، وقال قوله الشهير الذي نقله عنه الباحث في الدراسات اليهودية ألان نادلرAllan Nadler في دراسة له:
“رغم أنني أصبحت موضوعًا للاحتقار والازدراء فإنني لن أتراجع عن رأيي، ولن تحركني أي قوة في العالم عن موقفي لأقبل، لا قدر الله، البدعة الصهيونية، التي أدعوا الله أن ينقذنا منها”.
كيف نشأ تيتلباوم وكون معتقداته؟ وكيف تحول لزعيم ديني يهودي كان هو الأهم في زمن وجوده؟ وكيف ناضل ضد “إسرائيل”؟ وماذا قدم من فكر ديني نسف الصهيونية وصورها كمعصية للرب وهرطقة دينية؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه.
جويل تيتلباوم: من الطفولة النابغة إلى الزعامة
ولد جويل تيتلباوم في في 13 يناير/كانون الثاني 1887 بمدينة سيغيت بالمجر، التي تتبع الآن رومانيا، لأسرة عريقة في التدين اليهودي؛ حيث كان والده هو الحاخام الأكبر بالمدينة، ويتولى رئاسة المعهد الديني الحاخامي وزعامة الحركة الحسيدية اليهودية الأرثوذكسية، وكذلك كان جده.
كان جويل هو الابن الأصغر لوالده حنانيا يوم توف ليبا تيتلباوم، وكان بارعًا في العلوم الدينية بشكل ملفت للأنظار منذ طفولته، حتى أنه في حفل بارميتزفا الخاص به، ألقى خطابًا دينيًا استمر لساعات.
وحفل بارميتزفا هو تقليد يهودي أرثوذكسي، يقام للطفل الذي بلغ سن الرشد، ولم يعد لأبويه سلطة كاملة عليه، ويقام عند سن الـ13.
وبجانب نبوغه العلمي والفكري كان جويل تيتلباوم تقيًا ومتدينًا متشددًا، كأغلب أفراد أسرته، حتى أن أهل طائفته كانوا يرونه الأولى بخلافة أبيه الحاخام الأكبر، إلا أنه كان أصغر إخوته.
وحين توفي والده عام 1904 تولى أخيه الأكبر منصب أبيه في المدينة التي كان اليهود يشكلون الأكثرية السكانية بها، وكان جويل عمره وقتها 17 عامًا، ففضل الابتعاد عن المدينة حتى لا يجبره الناس على الاصطدام بأخيه، واتجه إلى قرية ساتمار (تسمى الآن ساتو ماري وتقع ضمن حدود رومانيا)، بحسب دراسة مناحيم كارتز.
في ساتمار التي انتقل إليها تيتلباوم التف اليهود حوله، ومع الوقت صار زعيمًا دينيًا لهم، لما لاحظوه من حرصه وشدته على نفسه في الالتزام بالسلوك الشرعي اليهودي، ولما يتمتع به من كاريزما، وقبل كل ذلك لأجل علمه في الشريعة اليهودية، حتى أصبح عضوًا باللجنة التنفيذية للمكتب المركزي للطوائف الأرثوذكسية اليهودية في رومانيا التي صارت ساتمار جزءًا منها، وأخيرًا اختير عام 1934 كبير لحاخامات ساتمار، يحكي كارتز.
كان تيتلباوم متشددًا لدرجة أنه كان يهاجم بعض الجماعات المتدينة الأرثوذكسية الكبرى، ويراها منحلة دينيًا، وعلى رأس هذه الجماعات كانت حركة “أجوداث إسرائيل”، التي بدأت تميل إلى العلمانيين الصهاينة، وتتعايش معهم، بعد أن كانت في البداية رافضة للصهيونية.
عارض تتلباوم بشراسة الصهيونية التي كانت تنمو في ذلك الوقت، ورفض فكرة وجود دولة إسرائيلية، باعتبار أن ذلك به مخالفة لتعاليم الرب التي جاءت في الكتب المقدسة – سنعرض حججه في سطورنا اللاحقة – وهو الأمر الذي جعله في خصومة شديدة مع الصهاينة، بل ومع المتدينين الذين قدموا تجاوبًا ولو بسيطًا مع الصهيونية، ولكنه رغم ذلك كان يحظى باحترامهم، بسبب مكانته بين عوام اليهود وبين أنصاره الكثيرين.
رغم الحرب واحتياجه مساعدتهم.. عدو للصهاينة لآخر مدى
وفي ثلاثينيات القرن العشرين وبعد وصول أدولف هتلر لحكم ألمانيا، وبدء إرهاصات الحرب العالمية الثانية، كان تتلباوم يحذر من انحراف اليهود السلوكي والأخلاقي، ورأى أن الصهاينة والمتعاطفين معهم، خاصة من الصهاينة المزراحيين (الصهيونية الدينية) على رأس المنحرفين، معتبرًا أنهم السبب في التضييق الذي بدأ يقع على اليهود في ألمانيا وبولندا، بل وفي رومانيا، ودول أوروبية أخرى.
مع التشديد والتضييق على اليهود، واقتراب الحرب العالمية الثانية، بدأت تتشكل مجموعات صهيونية للدفاع عن اليهود في رومانيا، ونشطت حركة تهريبهم إلى خارج البلاد، وفي هذه الأثناء سافر تتيلباوم إلى تشيكوسلوفاكيا، وعاد بعد عام إلى رومانيا، وكان يخطب فيهم خلال هذه الفترة أن خلاصهم من التضييق عليهم لن يأتي بالصهيونية وجماعات التهريب، بل بالإخلاص إلى ربهم.
بعد قيام الحرب العالمية الثانية اشتدت الظروف أكثر على اليهود في أوروبا، وكان تيتلباوم يؤكد في جميع خطبه وعظاته أن النجاة لن تأتي إلا بالتوبة والرجوع إلى الله، وأن أكبر خطيئة تُرتكب هي الصهيونية، رافضًا التعاون معهم رغم اشتداد الظروف على اليهود.
في هذه الأثناء انتقلت السيادة على ساتمار إلى المجر مرة أخرى، ولم تكن ظروف اليهود داخل المجر أفضل من رومانيا، وهنا اضطر تيتلباوم مع اشتداد التضييق الموافقة على إنشاء حركة لتهريب اليهود، ولكن دون التعاون مع الصهاينة أو من يساندهم.
رحبت الوكالة اليهودية الدولية بخطوة تيتلباوم وعرضت مساعدة منظمته بشرط أن يوقع معها الحاخام اتفاقية مكتوبة، فرفض أيضًا ذلك، رغم أن الخطر كان يقترب منه شخصيًا، وكان هو نفسه يريد الهرب، وأجرى عدة محاولات ولم يستطع.
في هذه الأثناء، وفي عام 1944، احتل النازيون المجر وصار وضع يهود ساتمار في خطر كبير، وأمهل أدولف إيخمان القائد النازي، يهود ساتمار 3 أيام للانتقال إلى الحي اليهودي، وهنا عُرِض عليه أن يغير هيئته ويحلق لحيته ويسافر عبر القطار بهوية مزورة واسم غير اسمه، فرفض ذلك أيضًا.
وهنا تدخل أحد محبي تيتلباوم وأعطى رشوة لضابطين نازيين لنقله عبر سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر إلى خارج ساتمار فوافق، وبالفعل ركب السيارة، ووصل إلى مدينة كلوج، وهناك تركته السيارة مع عدد من مرافقيه في الشارع، حيث كانت الشرطة النازية تطارد اليهود، فاضطر إلى دخول الحي اليهودي الذي أمرت القيادة النازية بتجميع اليهود فيه، تمهيدًا لنقلهم إلى معسكرات الاعتقال.
في هذه الفترة استطاع بعض أتباعه أن يهربوه مع مجموعة من اليهود في قطار متجه إلى بودابست مقابل رشوة ضباط نازيين، وذلك في 30 يونيو/حزيران 1944.
وبعد تنقلات بين عدة مدن بالقطار، ورشاوى من محبيه لتهريبه، وصل تيتلباوم بعد شهر إلى معسكر في بيرغن بيلسن في ألمانيا، وهناك كانت تجري صفقات بين ألمانيا ودول الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا، الولايات المتحدة) لتبادل الأسرى بين الطرفين، وأخيرًا وبعد شهرين غادر تيتلباوم إلى سويسرا ضمن صفقات التبادل.
وبعدها جرى نقله إلى القدس حيث كانت ابنته وعدد من أقاربه قد سافر إلى هناك، وبعد عام سافر إلى الولايات المتحدة ليستقر بنيويورك عام 1946، ليكمل بها باقي حياته.
ونلاحظ أنه رغم المضايقات التي واجهته خلال الحقبة النازية، التي استعرضناها من واقع دراسة مناحيم كارتز، فإنه كان رافضًا بشدة التعاون مع الصهاينة، بل كان خلال تنقلاته يرفض أن يأكل من طعامهم، وكان قد أوشك على الاعتقال ومن ثم الموت بيد النازيين إلا أنه أصر على موقفه حتى آخر لحظة.
إلا أن أعداءه من الصهاينة يقولون إن من هربوه كانوا صهاينة، ولكن تتيلباوم رد على هذا الادعاء فيما بعد، وأكد أن خروجه من ألمانيا كان نتيجة تفاوض مع الألمان، شارك فيها تيتلباوم بنفسه، وساهم في ذلك زعماء من اليهود الحريديم الذين سعوا بجدية لدى الضباط الألمان لتركه يغادر إلى سويسرا، حسبما ينقل كارتز.
الصهيونية ليست من اليهودية وأعضاؤها ليسوا من بني إسرائيل
“أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء”، نص يهودي مقدس جاء في سفر “نشيد الأنشاد“.
وفي التلمود هناك نص يرتبط بالنص السابق، مفاده أن الله أقسم 3 أيمان، اثنان منهما أقسمهما على اليهود وواحد يخص أمم العالم، حيث حلف على اليهود بعدم الصعود مجتمعين (كما لو كانوا محاطين بسور) إلى مدينة القدس، وبعدم التمرد على أمم العالم، وفي المقابل أقسم الرب على أمم العالم ألا تظلِم بني إسرائيل كثيرًا، أو تفرط في القسوة عليهم.
الآيات السابقة في التلمود ونشيد الأنشاد حظيت بأكبر شعبية لها بين اليهود بفضل تيتلباوم، حيث اعتبرها تحذيرًا إلهيًا لليهود من تأسيس دولة لهم في فلسطين، ووثق ذلك في أكثر من مؤلف له، أهمها كتابه “Introduction to Sefer VaYoel Moshe مقدمة في سفر فايوئيل موشيه”، حيث خصص فصلًا بعنوان “Essay on the Three Oaths مقال في الأيمان الثلاثة” يشرح فيه الأيمان التي أقسمها الله على إسرائيل والعالم.
ويرى تيتلباوم أن الصهاينة تمردوا على العالم، وصعدوا إلى القدس مجتمعين، في عصيان واضح للأوامر الإلهية، الأمر الذي جلب اللعنة لليهود وتمثل ذلك في المحرقة النازية.
وهذا التحريم لا ينفي آية سفر التكوين الخاصة بأرض الميعاد، فالآية تتعلق بنبوءة آخر الزمان وقدوم المسيح بمعجزة إلهية ليقيم العدل والسلام في الأرض، ويصنع مملكته الروحية انطلاقًا من أرض الميعاد.
ويرى تيتلباوم أن الصهاينة حين عصوا أوامر الرب عطلوا قدوم المسيح، وجلبوا اللعنة والعذاب لكل اليهود، حتى المتدينين منهم، معتقدًا أن الصهاينة ليسوا يهودًا أصليين من نسل إسرائيل (النبي يعقوب) وإنما هم من نسل إيريف راف Erev Rav، وهم الذين خرجوا من مصر مع النبي موسى وبني إسرائيل، ويُتهمون بأنهم من عبدوا العجل الذهبي، وأضلوا بني إسرائيل، وصاروا رمزًا للشر، لكنهم يحسبون على بني إسرائيل.
وفي موضع آخر من كتابه يشبه تيتلباوم الصهاينة بـ”ساباتاي زفي Sabbatai Zevi”، وكان متصوفًا يهوديًا عثمانيًا، ورُسّم حاخام، ونشط بين أنحاء الدولة العثمانية وزعم زيفًا أنه المسيح اليهودي المنتظر، وهكذا الصهاينة ومن يدعون منهم التدين اليهودي كذابون في رأيه.
ودعم تيتلباوم رأيه وعقيدته بما كتبه الحاخام موسى بن ميمون (توفي بالقاهرة في 13 ديسمبر/كانون الأول 1204) أهم علماء اليهود في العصور الوسطى، وينقل عنه نصًا:
“لقد علمنا الأنبياء أن المدّعين سيظهرون بأعداد كبيرة في الوقت الذي يقترب فيه مجيء المسيح الحقيقي، لكنهم لن يتمكنوا من إثبات ادعائهم، وسوف يهلكون مع العديد من أنصارهم. لقد تنبأ سليمان بوحي من الروح القدس، بأن طول مدة المنفى سوف يحرض بعض شعبنا على السعي إلى إنهائه قبل الوقت المحدد، ونتيجة لذلك سوف يواجهون الكارثة، لذلك نصحهم بلغة مجازية بالكف، كما نقرأ: أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء”.
وترجمة لما سبق، اعتبر تيتلباوم أن الصهاينة هم المقصودون من حديث ابن ميمون، وهم المسيح الكاذب، وهم رمز الشر Erev Rav، وتصديقًا للنبوءة وللكتاب المقدس كان أدولف هتلر هو الانتقام الإلهي منهم.
ثم يوضح تيتلباوم أن الصهاينة رغم كل ذلك كانوا المستفيد الأكبر من هتلر، فقد استثمروا المحرقة في تهجير اليهود إلى فلسطين بكثافة، وكانت المنظمات الصهيونية في أوروبا القائمة على تهريب اليهود من المحرقة، تعمل على عرقلة هجرتهم لأي مكان في العالم سوى فلسطين، وكانوا يمارسون تمييزًا خلال عمليات التهجير ضد اليهود الرافضين للصهيونية، ويشترطون لتقديم مساعدتهم التوقيع على ما يفيد قبولهم للصهيونية.
تيتلباوم يقود المظاهرات ضد “إسرائيل” ويؤكد: انتصار 67 كان وهمًا
بعد استقراره في نيويورك عام 1946 بدأ تيتلباوم العمل على بناء حركة ساتمار التي كان يقودها في رومانيا والمجر، التي تتبع نهجًا يهوديًا دينيًا أرثوذوكسيًا متشددًا.
ورغم الصعوبات التي واجهها في البداية باعتبار أنه يبدأ حياة في مجتمع جديد عليه، وتحظى فيه الصهيونية بشعبية كبيرة، استطاع تأسيس حركته في أبريل/نيسان 1948.
واستطاع تيتلباوم أن يجعل من حركته أقوى الحركات الدينية اليهودية في أمريكا، بل وفي العالم، في رأي أستاذ الدراسات اليهودية موتي عنباري Motti Inbari، الذي يوضح في دراسته “Jewish Radical Ultra-Orthodoxy Confronts Modernity, Zionism and Women’s Equality Motti Inbari التطرف اليهودي والتعصب الديني في مواجهة الحداثة والصهيونية والمساواة بين الجنسين”، أن عدد المنتمين لحركة تيتلباوم في الولايات المتحدة وحدها وصل إلى 100 ألف يهودي، وذلك حتى عام 2016.
ويقول عنباري إن الحركة سريعة النمو حتى في داخل “إسرائيل” نفسها، بجانب الولايات المتحدة، بفعل نموها الطبيعي، المرتفع بطبعه.
وخلال الحرب العربية الإسرائيلية 1948، دعي تيتلباوم إلى اجتماع في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، حضره عدد من قادة المنظمات اليهودية بالولايات المتحدة دعمًا للدولة الإسرائيلية الوليدة التي تحارب العرب وقتها.
في الاجتماع خالف تيتلباوم الجميع ودعا إلى عدم الاعتراف بالدولة الصهيونية، وعدم دعمها أو الوقوف ضد العرب، مذكرًا إياهم برأيه وهو أن “إسرائيل” خطيئة في جبين اليهود، وهو الأمر الذي قوبل بهجوم كبير عليه، وكان إعلانه ومجاهرته برأيه في هذا الاجتماع بمثابة إعلان رسمي منه للمجتمع اليهودي الأمريكي عن حدة توجهاته وتوجهات حركته الوليدة ضد “إسرائيل”.
وبدأ تيتلباوم يدعو أتباعه في الولايات المتحدة إلى العمل وكسب المال، لدعم أتباعه الذين يناضلون ضد الدولة الإسرائيلية من داخلها، لقطع الطريق على حكومة تل أبيب التي تسعى إلى استرضائهم.
ورغم آرائه التي أغضبت الصهاينة الأمريكيين بدأت شعبيته تتمدد ويجذب المتدينين الأرثوذوكس إليه، وجرى تعيينه نائبًا لرئيس المجمع الحاخامي الأعلى في حركة إيداه هريديت Edah Haredit، التي تمثل عموم المجتمع الأرثوذكسي اليهودي الرافض للصهيونية، ثم أصبح رئيسها عام 1953.
وفي عام 1954 وقع حادث زلزل المجتمع اليهودي، حيث خرج آلاف اليهود الأرثوذكس بلحاهم الطويلة ومعاطفهم الطويلة لأول مرة في تظاهرة احتجاجية بقيادة تيتلباوم أمام القنصلية الإسرائيلية في نيويورك، يهاجمون “إسرائيل” ويعلنون تبرؤ اليهود المتدينين منها، وكان حدثًا تابعته وكتبت عنه كل الصحف الكبرى في الولايات المتحدة، وفي “إسرائيل”.
وعمل تيتلباوم على توحيد الجهود اليهودية ضد “إسرائيل”، فأعلن في نفس العام 1954 تأسيس المؤتمر الحاخامي المركزي للولايات المتحدة وكندا، والذي صار ينعقد بصفة دورية وفي كل مرة يمارس أعضاؤه وحاضروه الهجوم على “إسرائيل”، ونشطت هذه المؤتمرات بشدة خاصة خلال فترة خمسينيات القرن العشرين.
وانتشرت الفعاليات التي يقودها تيتلباوم في الولايات المتحدة، وتنوعت بين طباعة المنشورات باللغة الإنجليزية وتوزيعها على الناس في الشوارع، وبين التظاهرات في الأماكن العامة ومنها أمام البيت الأبيض نفسه، إضافة إلى المؤتمرات والندوات، وغيرها.
استشعرت “إسرائيل” الخطر، وأرسلت وزير داخليتها حاييم موشيه شابيرا الذي ربطته علاقة قديمة بتيتلباوم إلى نيويورك، والتقى به، ولم تعلن نتائج الاجتماع، ولكن مناحيم كارتز يتوقع في دراسته المشار إليها أعلاه أن تيتلباوم تلقى تهديدات من شابيرا.
لكن في العام التالي 1959 نُظّمت زيارة لتيتلباوم إلى “إسرائيل”، وتحكي صحيفة تايم الأمريكية في عدد 3 أغسطس/آب 1959 أن استقباله كان أسطوريًا هناك من جانب أتباعه، وأنه رفض السفر على متن سفينة إسرائيلية، وسافر على متن سفينة تركية، وحين وصل إلى ميناء حيفا كان أنصاره المتدينين بالآلاف في استقباله بلباسهم التقليدي.
واستأجروا له قطارًا كاملًا لنقله من حيفا إلى القدس، وحين وصلها وجد اللافتات تملأ الشوارع للترحيب به، وأنزلوه في أرقى فنادق المدينة، ونظمت له اللقاءات ليعظ محبيه ويخطب فيهم.
ومن الواضح جدا أن سماح الحكومة الإسرائيلية له بهذه الزيارة واللقاء بأتباعه كان محاولة لاسترضائه واستمالته لهم، ولكنه فاجأهم بتصرف مثير للغضب، حيث أمر أتباعه في الداخل الإسرائيلي بتسليم بطاقات هويتهم له، لكي يضمن أنهم لن يشاركوا في الانتخابات الإسرائيلية، كنوع من الاحتجاج على شرعية “إسرائيل”، فهو لا يرفض إقامة اليهود في القدس، ولكن بشرط أن تكون بشكل فردي تحت سيادة فلسطينية، لا تحت سيادة دولة يهودية.
وفي 1959 أصدر تيتلباوم كتابه الأهم “Introduction to Sefer VaYoel Moshe مقدمة في سفر فايوئيل موشيه”، الذي يلخص فيه أفكاره ويقدمها للمجتمع اليهودي، بعد أن كانت متناثرة بين تصريحات في مؤتمرات أو اجتماعات أو عظات أو خطابات، وكان لنشر الكتاب ضجة كبيرة في المجتمع اليهودي، بحسب مناحيم كارتز.
وفي العام 1967 حين انتصرت “إسرائيل” على العرب، أصدر تيتلباوم كتابه باللغة اليديشية “Al-Ha-Geula Ve-Al Ha-Temura”، الذي قال كارتز إنه ركز على إثبات أن انتصار “إسرائيل” لا يعني مباركة الرب لها، وإنما كان هذا النصر عملًا شيطانيًا لإحداث فتنة لليهود المتدينين في دينهم، داعيًا المؤمنين بعدم الانخداع بهذا النصر الواهم.
في عام 1968 تعرض تيتلباوم لسكتة دماغية وظل مريضًا حتى توفي عام 1979 عن عمر 92 عامًا، وحينها بدأت زوجته تدير شؤون الحركة بالتعاون مع كبار الحاخامات بها، حتى تولى ابن أخيه موشيه زعامة الحركة بعد عام من وفاة عمه وذلك في أغسطس/آب 1980، حسبما وثق Jerome Mintz جيروم مينتز في كتابه “Legends of the Hasidim: An Introduction to Hasidic Culture and Oral Tradition in the New World أساطير الحسيديم: مقدمة عن الثقافة الحسيدية والتقاليد الشفوية في العالم الجديد”.
وما زالت حركة ساتمار على موقفها الرافض للصهيونية حتى الآن، حتى لو حدثت انقسامات تنظيمية داخلها، إلا أنها ما زالت على موقفها، حتى لو هاجم فصيل منها حركة حماس بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنها تؤكد أن اعتراضها على هجوم حماس لا يعني أبدًا التعاطف مع الصهيونية أو “إسرائيل”.