8 أشهر مضت منذ تسلم آبي أحمد علي منصب رئيس الوزراء في إثيوبيا، هذه الفترة القصيرة شهدت كثيرًا من الأحداث والتطورات المتلاحقة كان أبرزها إنجاز المصالحة مع إريتريا ومواصلة سياسات الإصلاح التي بدأها سلفه هايلي مريام ديسالين بإغلاق سجن “ميكالاوي”، أكبر معتقل سياسي في البلاد وهو سجن سيء السمعة كان يتم فيه تعذيب المعتقلين للحصول على اعترافات، كما أفرجت السلطات الإثيوبية مطلع العام الحاليّ – قبل مجيء آبي أحمد – عن 115 سجينًا سياسيًا، يمثلون الدفعة الأولى من المعتقلين السياسيين في سجن كيلنتو الإصلاحي في العاصمة أديس أبابا.
ومع وصول آبي أحمد للسلطة تسارعت مسيرة الإصلاح بوتيرة مذهلة، فقد أصدر عفوًا عن أحزاب المعارضة التي كان بعضها مصنفة إرهابية فعادت وفود تلك الأحزاب بل وحتى قادة وجنود الحركات المسلحة التي كانت تقاتل الحكومة الفيدرالية مثل حركة “قنبوت سبات” التي لم يكن أحد يتوقع عودتها في يوم من الأيام.
ولكن مع الصورة المشرقة المذهلة التي عكست إنجازات الحكومة الإثيوبية الجديدة هناك صورة أخرى لا يعرفها إلا من يعيش في الداخل الإثيوبي، فالصراعات الموجودة أصلًا تفجّرت في العديد من الأقاليم: بني شنقول والصومال الإثيوبي وأمهرا وتغراي، وشهدت الفترة الماضية اندلاع أحداث عنف دفعت المئات من المواطنين الإثيوبيين إلى اللجوء للسودان.
كيف روّج آبي أحمد لصورة إيجابية عن إثيوبيا؟
بعكس أسلافه الذين كانوا يعملون في صمت شديد، أدرك آبي أحمد بحكم تخصصه في تقنية المعلومات أهمية الإعلام، فهو حاصل على درجة البكالوريوس في هندسة الحاسوب بالإضافة إلى دراسات عليا في المجال نفسه، ولذلك يُقال إنه متابع جيد لما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أن كان مديرًا لوكالة أمن شبكة المعلومات الإثيوبية (إنسا).
اهتم جدًا بتطوير مكتبه الإعلامي وجعل له حسابًا خاصًا على تويتر كان يشرف عليه مدير مكتبه السابق فيتسوم أريجا الذي انتقل حاليًا إلى منصب مفوض الاستثمار وكانت وكالات الأنباء تتسابق لنشر الأخبار التي يبثها أريجا عبر تغطياته الحيّة لكل نشاطات رئيس الوزراء وتصريحاته.
الخطاب الذي تبنّاه آبي أحمد
يوم أدائه اليمين الدستورية في أبريل/نيسان الماضي ودعا فيه إلى الوحدة ومحاربة الفساد والحوار مع المعارضة إلى جانب المصالحة مع إرتريا، وجد ترحيبًا واسعًا من الشعب الإثيوبي، خاصة أنه أجرى بعد ذلك سلسلة من اللقاءات المشهودة في كل أقاليم البلاد والتقى بعدد من الجاليات الإثيوبية بالخارج مستخدمًا لغة جديدة نجح بها في جذب فئة الشباب مما أكسبه قاعدة جماهيرية عريضة.
هذا بالإضافة إلى القرارات الإصلاحية الجريئة التي اتخذها بتصحيح أوضاع سد النهضة وخصخصة شركات حكومية كبرى مثل الخطوط الجوية الإثيوبية وشركة إثيوتيليكوم وقطاع الخدمات اللوجيستية وغيرها كلها انصبّت ضمن ملف إنجازاته.
نجاح في ملف العلاقات الخارجية
استهل آبي احمد أولى جولاته الخارجية بزيارة جيبوتي ثم السودان حيث ترتبط بلاده بعلاقات وثيقة مع الدولتين اللتين ساهمتا في كسر عزلة إثيوبيا الحبيسة التي لا تمتلك أي منافذ بحرية، فكانت حركة الصادرات والواردات تتم عن طريق ميناءي جيبوتي وبورتسودان.
في مايو/أيار أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي جولةً خليجية شملت السعودية والإمارات، بحثت في ظاهرها العلاقات بين بلاده من جهة والرياض وأبو ظبي من الجهة المقابلة، ثم كان إعلان إطلاق سراح سجناء إثيوبيين من البلدين الخليجيين، وهي عادة تبناها آبي أحمد من زيارته الأولى للسودان، حيث طلب من الرئيس السوداني عمر البشير إطلاق سجناء الحق العام من مواطنيه فاستجاب له البشير وقادة دول الجوار الأخرى.
كما زار آبي أحمد مصر والتقى رئيسها عبد الفتاح السيسي في يونيو/حزيران الماضي، وهي زيارة اعتبرها كثيرون نقلة في العلاقات التي كانت متوترة بين البلدين على خلفية سد النهضة الذي تشيده إثيوبيا على منابع النيل الأزرق في الحدود مع السودان، فقد أقسم الرجل حينها على عدم الإضرار بمصالح مصر المائية جراء بناء السد.
رغم الدعم الإماراتي ومحاولات أبو ظبي لكسب ود إثيوبيا البلد المؤثر إفريقيًا لا يزال آبي يحافظ على حياده في الصراع الشرق أوسطي الكبير وعلى علاقاته مع قطر.
وبالطبع أجرى زيارة وصفت بالتاريخية في يوليو/حزيران إلى إريتريا حيث تم توقيع اتفاق المصالحة الذي أنهى 20 عامًا بين القطيعة والحرب، وتم الاتفاق خلال الزيارة مع رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي على استئناف العلاقات الدبلوماسية وفتح الموانئ الإريترية أمام حركة الصادرات والواردات الإثيوبية.
قبل المصالحة مع إريتريا كانت زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى أديس أبابا في أول أيام عيد الفطر المبارك الماضي، وهي زيارة أثارت توجّسًا وانزعاجًا حتى لدى بعض مؤيدي آبي أحمد والمعجبين به من المواطنين الإثيوبيين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وخلال الزيارة أوضح المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية آنذاك أحمد شيدي أن الإمارات تعهدت بضخ 3 مليارات دولار في الاقتصاد الإثيوبي، منها مليار وديعة مباشرة، وملياران عبارة عن استثمارات متنوعة، ورغم الدعم الإماراتي ومحاولات أبو ظبي لكسب ود إثيوبيا البلد المؤثر إفريقيًا لا يزال آبي يحافظ على حياده في الصراع الشرق أوسطي الكبير وعلى علاقاته مع قطر.
لكن الصراعات تتفاقم مع الداخل
النجاح الكبير الذي تشهده علاقات إثيوبيا الخارجية مع دول الجوار والعالم في عهد آبي أحمد لم ينعكس على الوضع الداخلي، إذ تفجّرت الصراعات بشكلٍ غير مسبوق على الحدود بين إقليمي أوروميا وبني شنقول غربي إثيوبيا، كما يشهد الإقليم الصومالي توترات مستمرة بين سكان المنطقة وقوميات أخرى تسكن الإقليم.
وامتدت أعمال العنف إلى مشارف العاصمة أديس أبابا، حيث شهدت بلدة بورايو التابعة لولاية أوروميا الإقليمية مواجهات عنف ذات طابع عرقي أدت إلى نزوح آلاف المواطنين إلى العاصمة، وفي إقليم أمهرا طردت مجموعات من السكان المئات من قومية تغراي إلى خارج الإقليم فآثر المبعدون اللجوء إلى السودان، حيث وفرت الحكومة السودانية للاجئين مناطق إيواء مؤقتة في نقاط معينة بولاية القضارف الحدودية، وتكفلت جمعية الصداقة السودانية الإثيوبية بوجبات غذائية للاجئين، أملًا في استقرار الأوضاع وحتى تتمكن الشعوب الإثيوبية من العيش في سلام بحسب تصريح للأمين العام الفضل حسن.
مع ملاحظة أن الحكومة الفيدرالية لم تتحرك بما يكفي لاحتواء هذه الأزمات الداخلية التي توشك أن تتحول إلى صراع مفتوح يقضي على تجربة إثيوبيا الحديثة، فالحكومة الجديدة التي شكّلها آبي أحمد مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم تضع خططًا عاجلة تدير بها ملف الصراع الآخذ في التصاعد، بعكس ما كان يحدث سابقًا إذ كانت السلطات لا تتردد في فرض هيبة الدولة ولو باتخاذ إجراءات صعبة مثل فرض حالة الطوارئ.
احتجاجات في إقليم تغراي تكشف حجم الصراع
الأيام القليلة الماضية شهدت تنظيم مسيرات سلمية في عدد من مدن إقليم تغراي شمال إثيوبيا من بينها الحمرة وأكسوم وعدوة والماطا لتأييد الجبهة الشعبية لتحرير تغراي الحاكمة في الإقليم ، وقبل هذه المظاهرات كان رئيس الجبهة وحاكم الإقليم بالإنابة ديبراصيون جبري مايكل قد رفض في وقتٍ سابقٍ ما أسماه استهداف الإقليم تحت ذريعة سيادة حكم القانون.
وتكشف المظاهرات وتصريحات مايكل عمق الخلافات بين أعضاء جبهة تحرير شعب التيغراي (الحركة التي تهيمن على إثيوبيا منذ عقود)، ورئيس الوزراء الإصلاحي الجديد آبي أحمد الذي غيّر سياسات كثيرة عبر سلسلة من التحولات الجذرية رغم أن الاثنين شركاء في ائتلاف الجبهة الثورية الحاكم.
وكانت السلطات الإثيوبية قد اعتقلت 79 شخصًا على الأقل منهم مسؤولون سياسيون وأمنيون ورجال أعمال ونساء جميعهم من التغراي منذ الأسبوع قبل الماضي بموجب ما قالت الحكومة إنها حملة على الفساد وسوء معاملة السجناء، لكن رئيس جبهة تحرير تغراي الذي يشغل منصب نائب حاكم الإقليم في الوقت نفسه اعتبر أن الحملة ذات دوافع سياسية وعرقية لاستهداف تغراي من دون القوميات الأخرى وهي المعاني التي أكد عليها المتظاهرون في مدن الإقليم، مشيرين إلى أن متهمين من قوميات أخرى ما زالوا أحرارًا ويمارسون أنشطتهم العادية ولم يتم توقيفهم حتى الآن.
مظاهرات في مدن إقليم تغراي الإثيوبي احتجاجًا على الحكومة الفيدرالية
يعتقد الكاتب الإريتري شوقي أحمد أن نظام أسياس أفورقي يسعى إلى الاستفادة من الصراعات العرقية التي تجري في إثيوبيا من أجل إطالة أمد حكمه في إريتريا،ويشير أحمد إلى أن الآلاف ما زالوا يقبعون في السجون الإرترية منذ 25 عامًا وأكثر، متسائلًا عن جدوى اتفاقات السلام والصلح مع عدم تغير أوضاع الإنسان الإريتري؟
المحلل السياسي الإثيوبي علم برهان بدا متشائمًا خلال حديثه لـ”نون بوست”، إذ يتوقع انهيار الائتلاف الحاكم بفعل الصراعات العميقة التي تعصف بأحزابه الأربع ويشير إلى أن رئيس جبهة تحرير تغراي كان صريحًا عندما قال إن الحكومة الفيدرالية تنفذ برامج وأشياء لم يتم الاتفاق عليها في الائتلاف
وللتعليق على التطورات الأخيرة يقول رئيس تحرير صحيفة العَلَم الإثيوبية أيوب قدي لـ”نون بوست”، إن الائتلاف الحاكم تواجهه تحديات عديدة، في مقدمتها الحالة الأمنية والاضطرابات، رغم الانفراج السياسي وتسريح من كانوا في السجون من السياسين والصحفيين والناشطين وأجواء المصالحة الوطنية والسياسات الاقتصادية الجديدة.
ويضيف قدي في حديثه لـ”نون يوست”: “للأسف هناك بعض المجموعات التي بدأت تلعب بالوتر الإثني وهناك بعض القادة المتورطين في عمليات الفساد الإداري ﻻ يريدون أن يعم السلام ويحاولون اللعب بورقة القوميات وبأن قومياتهم مضطهدة وأن القانون ﻻ يحمي الجميع”، ويجزم أيوب قدي أن يد العدالة ستطال كل المتهمين بالفساد الإداري والأعمال غير القانونية التي ﻻ تليق بحقوق اﻻنسان وغيرها.
لكن المحلل السياسي الإثيوبي علم برهان بدا متشائمًا خلال حديثه لـ”نون بوست”، إذ يتوقع انهيار الائتلاف الحاكم بفعل الصراعات العميقة التي تعصف بأحزابه الأربع ويشير إلى أن رئيس جبهة تحرير تغراي كان صريحًا عندما قال إن الحكومة الفيدرالية تنفذ برامج وأشياء لم يتم الاتفاق عليها في الائتلاف، ويلفت برهان إلى أن رئيس الوزراء آبي أحمد غير منتبه تمامًا للملف الداخلي، حيث يرى أن تركيزه الأكبر على العلاقات مع الخارج أدى إلى تفجُّر الصراعات على هذا النحو.
ولم يبرئ محدثنا جبهة تحرير تغراي من التورط في تهم القمع والفساد، مشيرًا إلى أن أبناء الإقليم أول من تضرروا من سياساتها، لكنه أكد في الوقت نفسه على ضرورة أن تشمل المحاسبة والتحقيق كل المتورطين من القوميات الأخرى.
الحاجة إلى تدخل عاجل لاحتواء الأزمات
وما بين هذا الرأي أو ذاك، من المؤكد أن آبي أحمد لن يسمح بأن يوصم عهده بالفشل الداخلي أو باستهداف قومية بعينها في ظل الإنجازات الكبيرة التي حققها في الفترة الماضية، ولعل هجومه على الائتلاف الحاكم أتى من باب الرغبة في تصحيح الأخطاء لذلك نتوقع منه حراكًا عاجلًا يواكب قفزاته الإصلاحية التي نالت استحسان الداخل والخارج.
إثيوبيا منذ أواخر التسعينيات لفتت الانتباه بتجربتها في التحول من ثاني أفقر دولة في العالم إلى أن أصبحت الأولى في معدل النمو، وهي الآن نموذج يضرب بها المثل
تعزيز الشراكة وبناء جسور الثقة والتفاهم يجب أن يكونا شعار المرحلة المقبلة مع أطراف ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية “الحاكم” ومن بينها جبهة تحرير تغراي المؤسسة للتحالف منذ العام 1991، حتى يتسنى للتجمع دخول انتخابات 2020 ككتلة موحدة تفخر بإنجازاتها وبمسيرة الإصلاح التي تم التوافق عليها في المؤتمر الأخير للائتلاف قبل أقل من شهرين.
أما الصراعات العرقية فلا حل لها إلا بتنظيم مؤتمرات مصالحة وطنية يتم فيها عقد جلسات نقاش مستفيض لإزالة أسباب الصراع من جذوره، ويقع العبء الأكبر في هذا الصدد على وزارة السلام التي استحدثها آبي أحمد لأول مرة واختار لها رئيسة البرلمان السابقة مفرحات كامل بصلاحيات واسعة، كما يفترض أن تكون الوزارة المرجع الأساسي عند اندلاع أي خلاف أو أزمة داخلية، فهي تضم جهاز الاستخبارات والأمن الوطني (NISS) ووكالة أمن شبكة المعلومات (INSA) ولجنة الشرطة الفيدرالية.
إثيوبيا منذ أواخر التسعينيات لفتت الانتباه بتجربتها في التحول من ثاني أفقر دولة في العالم إلى أن أصبحت الأولى في معدل النمو، وهي الآن نموذج يضرب بها المثل وتسير بخطى واثقة نحو النجاح بإصلاحات آبي أحمد التي جاءت مكملة للنهضة المشهودة في عهد أسلافه مليس زناوي وهايلي ديسالين، لذلك نتمنى أن تعي الشعوب الإثيوبية الدرس مما جرى في دول المنطقة من تقسيم وتشرذم وأن تكون الحكومة على قدر التحدي والمسؤولية لطي ملف الصراع الداخلي حتى تتفرغ للبناء والتنمية.