تحت شعار “التوافق على تنمية منصفة ومستدامة”، انطلقت في بيونس آيرس بالأمس أعمال قمة مجموعة الدول العشرين، التي غابت عنها الملفات الدولية التي يحملها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحل مكانها صراع قضائي يتعلق بملاحقة جنائية محتملة على خلفية ارتكاب جرائم حرب في اليمن وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من الطبيعة الاقتصادية من الدرجة الأولى لهذا اللقاء، كانت قضية خاشقجي الصامت الحاضر بقوة في نظرات السياسيين والزعماء وكاميرات وسائل الإعلام الدولية التي ركزت على الأمير الشاب في أول حدث دولي يشارك فيه بعد جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي، والذي بات بفعل الاتهامات الموجهة له من أكثر السياسيين شهرة.
ضيف “بوينس آيرس” غير المرغوب فيه
لم يدخل ولي العهد السعودي أرض الأرجنتين آمنًا من ملفات ملطخة بالدماء تطارده في كل مكان، وبدلاً من الإقامة في أحد الفنادق الفخمة في العاصمة الأرجنتينية كما كان مقررًا، اتخذ ولي العهد من بيت سفير بلاده – الذي تحول إلى شبه ثكنة عسكرية من كثرة الإجراءات الأمنية – مقرًا لإقامته.
يحضر الأمير محمد بن سلمان قمة العشرين، ولكن تغيب صورة الأمير الشاب المنفتح والمصلح
الأمر لا يعود كما يبدو إلى حنين الأمير محمد بن سلمان إلى أجواء سعودية في قلب أمريكا الجنوبية، إذ يرجح المتابعون أنه فضَّل قدر الإمكان الابتعاد عن الأضواء وكاميرات الصحفيين هربًا من أسئلة الصحفيين والحقوقيين الذين يطاردونه بسبب اتهامه بجرائم تتعلق بالإنسانية، في مقدمتها جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
يحضر الأمير محمد بن سلمان قمة العشرين، ولكن تغيب صورة الأمير الشاب المنفتح والمصلح، بينما تحضر الصورة المتداولة الآن في الاحتجاجات، وفيها قتلى مدنيون في اليمن بغارات للتحالف الذي تقوده السعودية وقائمة طويلة لمعتقلي الرأي وعلماء دين وأكاديميين في سجون المملكة، وجريمة بشعة ضد صحفي منتقد – لا معارض – داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.
لم ينل ابن سلمان كثيرًا من الاهتمام والمصافحة خلال اللقطة الافتتاحية
جاء ابن سلمان إلى الأرجنتين متمتعًا بحصانة كممثل للسعودية في مهمة دبلوماسية، كما قال المدعي العام الأرجنتيني، لكن “رويترز” نقلت عن رئيس البلاد أن القمة قد تناقش الشكاوى والاتهامات الموجهة لولي العهد في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب وقضية خاشقجي، كما لم تحمه حصانته من أكثر من موقف حرج كان بانتظاره.
قانونيًا، ورغم تأكيد السلطات الأرجنتينية على الحصانة الدبلوماسية لولي العهد، واصل القضاء جهوده للحصول على معلومات بشأن قضيتي اليمن وخاشقجي، وقد تلقى القضاء الأرجنتيني رسالة دعم عابرة للقارات من السيناتور الديمقراطي البارز باتريك ليهي عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي اعتبر في بيان أن التحقيقات الجارية في الأرجنتين تبعث برسالة قوية للضحايا وذويهم مفادها أن العدالة ممكنة وأن المسؤولين عن الجرائم الخطيرة لن يفلتوا بالضرورة من الحساب إلى الأبد.
أما شعبيًا فقد تظاهر في وسط العاصمة بوينس آيرس ناشطون تلبية لدعوة عدد من المنظمات السياسية والحقوقية للتنديد بالحرب في اليمن، وطالب المتظاهرون بمحاكمة المسؤولين عن الحرب وعن تجويع اليمنيين وصولاً إلى قطع العلاقات مع الحكومة السعودية.
ابن سلمان معزولاً
قبيل افتتاح القمة ظهر محمد بن سلمان عند استقباله من الرئيس الأرجنتيني قبل أقل من ساعة من الافتتاح الرسمي للقمة، بدت الصورة رسمية وتقليدية ولا توحي بتعابير خاصة، بينما سارعت وسائل الإعلام السعودية ووزارة الخارجية لتبديد “ظلال” جريمة قتل خاشقجي وحرب اليمن وإظهار أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليس معزولاً في قمة العشرين.
ومع افتتاح القمة اتجهت الأنظار نحو حضور الأمير الشاب، وما تلتقطه كاميرات المصورين بشأن تعامل قادة وزعماء العالم معه، الذين أدان أغلبهم تعاطي السعودية مع حادثة مقتل خاشقجي وشككوا في رواياتها المتتالية.
وبلغ الجهد الإعلامي في محاولة قراءة مواقف القادة الدوليين من الأمير السعودي حد الانتباه إلى وقوفه في طرف الصورة الجماعية التقليدية في حين مر به الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وقد تجنب مصافحته كما تجنب لقاءه رسميًا وفق جدول أعماله.
لم ينل محمد بن سلمان، وهو الذي وضع نفسه أو وضعه البرتوكول الرسمي للقمة في ركن قصي من الصف الثاني للزعماء، الكثير من الاهتمام والمصافحة خلال اللقطة الافتتاحية
لم ينل محمد بن سلمان، وهو الذي وضع نفسه أو وضعه البرتوكول الرسمي للقمة في ركن قصي من الصف الثاني للزعماء، الكثير من الاهتمام والمصافحة خلال اللقطة الافتتاحية، بل إن أغلب الزعماء والقادة لم يصافحوه رغم أنه أول من يستقبل القادمين لالتقاط الصور.
ظهر ولي العهد مرتبك القسمات خلال اللقطة، وبعدها، لم يبق الرجل طويلاً بين قادة العالم، وكان أول المغادرين لمنصة القمة الأكثر أهمية خلال العام الحاليّ، وهو ما أثار اهتمام وفضول الكثير من المتابعين.
رأى البعض أن البروتوكول المنظم للقطة التصوير وضع الأمير الشاب على طرف، وفي زاوية، حتى لا يحرج غيره من القادة الذين لا يريدون الظهور معه في لقطة رسمية، بينما فسر آخرون الأمر ليظهر حالته السياسية في عالم بات ينظر إلى الأمير باعتباره طرفًا ضد العدالة وحرية الرأي.
مزيد من التهميش
إن كانت الصورة السابقة شكلت مادة للتكهنات والتأويلات، فإن التصريحات المسموعة لم تحتمل تأويلاً، فبين القادة الذين تحدثوا إلى ولي عهد السعودية على هامش القمة التي بدأت أعمالها أمس الجمعة كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان حازمًا فيما يتعلق بقضيتيي خاشقجي واليمن.
الرئيس الفرنسي يتحدث إلى ولي العهد على هامش قمة العشرين
ونشرت وسائل إعلام سعودية فيديو للاجتماع يظهر فيه الرجلان يتحدثان بصوت خفيض، وقد قرب كل منهما رأسه من الآخر، وظهر في الفيديو ماكرون وهو ينظر مباشرة إلى عيني محمد بن سلمان بينما كان الأمير يومئ ويبتسم أحيانًا.
أظهر الفيديو نوعًا من التناقض بين وجه محمد بن سلمان وهو يرسم ابتسامة مغلفة بالحرج ووجه الرئيس الفرنسي الذي كان صارمًا إلى حد ما، وكان حريصًا على نقل هذه الرسائل بأسلوب بالغ الحزم.
وفي الصوت المصاحب للفيديو كان من الممكن سماع الأمير محمد وهو يقول “لا تقلق”، في حين رد ماكرون قائلاً “أنا قلق”، وفي مقطع مصور لمدة دقيقة واحدة نشر على تويتر في وقت لاحق قال ماكرون: “أنت لا تستمع إليّ أبدًا” ورد الأمير محمد بالقول: “أنا أفعل أستمع طبعًا”.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبخ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان: “أنت لم تستمع إلي أبداً” كما نقل فيديو لقائهما على هامش قمة العشرين ورويترز تنقل عن مسؤول فرنسي قوله إن الحوار كان بشأن #جمال_خاشقجي وحرب #اليمن ومحمد بن سلمان سمع يرد “سأسمع كلمتك من الآن وصاعدًا” pic.twitter.com/qDkceU0m2Z
— Zaid Benjamin (@zaidbenjamin) November 30, 2018
وبحسب مسؤول في قصر الإليزيه، أبلغ ماكرون الأمير ابن سلمان أن الأوربيين يصرون على إشراك خبراء دوليين في التحقيقات الخاصة بمقتل خاشقجي فضلاً عن تشديده على ضرورة إيجاد حل سياسي للوضع في اليمن.
وبرر مكتب ماكرون اللقاء العابر مع ابن سلمان، وقال إن الاجتماع مع ابن سلمان له ما يبرره لأن الدول الأوروبية تريد إرسال رسالة موحدة بشأن ضرورة نزاهة التحقيق ولم يكن ممكنًا إهدار الفرصة للتأكيد على هذه الرسالة خلال قمة العشرين.
تجنب ترامب مصافحة ابن سلمان
مهمة البحث عن أصدقاء جدد
لم يتدافع قادة الدول الكبرى للقاء محمد بن سلمان، حتى حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برره البيت الأبيض بأنه كان في إطار تبادل المجاملات لا أكثر، ولعل إعلان عدد كبير من قادة الدول أنهم لن يلتقوا ابن سلمان في أثناء القمة يحمل مؤشرًا على ما يحيط بالأمير الشاب من فتور.
وحدها كانت مصافحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مفتاح الفرج بالنسبة للأمير المحاصر سياسيًا في قمة العشرين، وبدت لافتة للانتباه طريقة المصافحة بين الرجلين التي أظهرت مستوى من الحميمية بينهما وكأنهما صديقان قديمان رغم فارق السن والمكان والوزن السياسي بينهما.
أثارت صور مصافحة ولي العهد الكثير من الجدل والقراءات، فقد بدا مسرورًا بمصافحة استثنائية ونادرة للتغطية على ما سبقها من مواقف خلال وجوده في هذا الجمع، أما الرئيس الروسي ربما استغل هو الآخر وضع الأمير وصافحه بحميمية وود، وقد تكون في ذلك كله نكاية لمن يهمه الأمر.
ليس بوتين بالقائد “الغِر” حتى تمر حركة كهذه في مثل هذا الظرف وأمام أعين العالم بأسره، لكنها لغة المناورات العسكرية بين روسيا بقيادة نفس الرجل وإيران التي باتت في نظر الرياض العدو الأول، فيما تبدو موسكو – التي يتطلع ولي العهد إلى التحالف معها والتقرب منها – متحالفة مع طهران، العدو الأول للسعودية في المنطقة.
يتجلى هذا التخبط أكثر في مهاجمة ولي العهد لإيران ووصفها “بقوة الشر الأكبر في المنطقة”، وفي الوقت نفسه، يغازل موسكو التي هي الحليف المعلن والأقوى لطهران في الوقت ذاته، وليس الأمر ببعيد ولا في حاجة لقوة ذاكرة، فإيران شهدت في الأيام الماضية، وتحديدًا في مدينة كييش جنوب إيران معرضًا دوليًا للطيران ومناورات دولية مشتركة إيرانية روسية في رسالة واضحة مفادها إظهار القوة للجار اللدود لإيران، السعودية.
تحمي الحصانة الدبلوماسية ولي العهد السعودي في الأرجنتين من أي ملاحقة قانونية، ولكن ليس من سهام اتهامات منظمات حقوقية ووسائل إعلام عالمية
وتمضي “سيمفونية” التخبط بعيدًا حين يعلن الكرملين أن التحضير جارٍ لزيارة الرئيس بوتين إلى السعودية، حيث قال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن تاريخ الزيارة يمكن تحديده بعد لقاء بوتين مع ولي العهد على هامش قمة مجموعة العشرين.
فهل ستجري الزيارة ويفوز بوتين بصفقات السلاح التي طالما أعلن ترامب تخوفه من فقدانها لصالح روسيا، أم أن ولي العهد لم يدرك بعد التوازنات الدولية التي يختلط فيها السياسي والاقتصادي، أم أنه نسى أو تناسى أنه قاد مع آخرين حصار قطر قبل أكثر من عام ونصف بذرائع من بينها علاقة الدوحة مع طهران؟
قد تحمي الحصانة الدبلوماسية ولي العهد السعودي في الأرجنتين من أي ملاحقة قانونية، ولكن ليس من سهام اتهامات منظمات حقوقية ووسائل إعلام عالمية بل وحتى نظرات الشك والريبة من مسؤولين غربيين فكر بعضهم ألف مرة قبل إلقاء التحية على ضيف بوينس آيرس المتعدد الخطايا السياسية.