تتداول وسائل الإعلام بشكل يومي تقريبًا أخبارًا عن قطاع غزة وما يعانيه أهل هذه المدينة من ظروف سياسية واقتصادية قاسية، وقلما نفكر في تفاصيل وأحداث يومهم الروتينية في ظل هذه الضغوط، أي أننا نعرف أخبارهم السطحية ولكننا في الحقيقة لا نفهم أحوالهم ولا ندرك حجم التحديات والصعوبات التي يمرون بها أملًا في اقتناص فرصة العيش كغيرهم، ولعل تكرار الأخبار على مر السنوات الماضية خدر شعورنا وتفاعلنا مع هذه القصص ولكن هذا لا يعني أنها لم تعد جزءًا من الواقع.
في السنوات الأخيرة لا سيما بعد اشتداد الحصار، ذاع صيت ظاهرة “مكاتب تيسير الزواج” في القطاع، التي من شأنها أن تخدم الشباب المقبلين على الزواج، وعلى الرغم من غرابة هذا المشروع عن المجتمع الغزي، فإن تكالب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة مع العادات الاجتماعية حصر الشباب بالزاوية ولم يترك لهم خيارًا آخر سوى الوفاء بلائحة المتطلبات والمستلزمات المادية، الضرورية وغير الضرورية، التي عليهم إتمامها وتقديمها لكي يحققوا خطوة الارتباط بالشكل الذي تقتضيه التعاليم الاجتماعية.
كيف تخفف هذه المؤسسات من أعباء الزواج؟
فرضت هذه المكاتب نفسها على القطاع بعد أن هجرت فئة كبيرة من الشباب فكرة الزواج بسبب معدل البطالة، فبحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2016 وصل معدل البطالة إلى أكثر من 58%، ونحو 80% من سكان القطاع الذي يبلغ عددهم مليونين يعيشون على المساعدات، ما يعني أن أساسيات الحياة وضرورياتها ليست متاحة لأكثر من النصف، وعلى هذا الاعتبار لاقت هذه المؤسسات رواجًا مقبولًا بين العائلات والشباب الذين يعجزون عن اتخاذ قرار الزواج دون الحصول على مساعدات مادية.
بحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2016 وصل معدل البطالة إلى أكثر من 58%، ونحو 80% من سكان القطاع الذي يبلغ عددهم مليونين يعيشون على المساعدات، ما يعني أن أساسيات الحياة وضرورياتها ليست متاحة لأكثر من النصف
مع العلم، أن الظروف الاقتصادية التي تسببت بها الحالة السياسية العامة ليست العامل الوحيد الذي يزيد الأمور تعقيدًا، وإنما القوانين الاجتماعية التي تعطل الكثير من الزيجات أو تلغيها في أحيانٍ أخرى بسبب الشروط المادية المطلوبة التي تشمل المهر والذهب والشقة وأثاث المنزل ومستلزماته وتكاليف الحفل، وما يضاف إليها من هدايا وعزائم ومجاملات اجتماعية أخرى.
وهي التزامات يفرضها المجتمع لأنه غالبًا ما يربط بين قيمة المرأة وما ينفقه الشاب مقابل الزواج بها وخاصة فيما يتعلق بالمهر الذي تتراوح قيمته ما بين 3 إلى 10 آلاف دولار، ولإتمام هذه المهمة وإرضاء الزيف والاستعراض الاجتماعي يلجأ العديد من الشباب إلى الديون أو الأقساط، وهذا بالتحديد ما تقدمه هذه المكاتب.
من أشهر هذه المؤسسات “أكورد” التي تأسست عام 2011 وتؤمن أن لديها مهمة وطنية تجاه الشباب الذين أعرضوا عن مشروع الزواج بسبب إمكاناتهم المتواضعة، إذ تقول مديرة العلاقات العامة في المؤسسة، هناء هنية في أحد اللقاءات الصحفية: “أطلقت المؤسسة العديد من البرامج والمشاريع المتميزة التي من ضمنها “القدس عروس أفراحنا” واستهدفت من خلالها نحو 500 شاب لمساعدتهم في تكاليف الزواج، إيمانًا من المؤسسة أن المعركة القائمة مع المحتل الإسرائيلي هي معركة ديمغرافية في الأساس، وعلى هذا الأساس تشير هنية إلى تركيز المؤسسة على تزويج الأسرى والجرحى وكل من تضرر بالأوضاع السياسية على القطاع.
في حوار خاص لـ”نون بوست” مع خليل الوردي (اسم مستعار)، أحد المستفيدين من هذه الجمعيات، قال: “من خلال هذه المكاتب استطعت تأثيث المنزل، فقد قدموا لي غرفة النوم والصالة، إضافة إلى بعض تكاليف حفل الزفاف مثل الدعوات والمواصلات والعزائم”، مضيفًا “وذلك مقابل دفع ثُلث المبلغ أو النصف بالتقسيط الشهري مقابل 100 دولار شهريًا الذي قد يمتد إلى سنة أو سنتين”، مشيرًا إلى حسن حظه في التعامل مع هذه المؤسسة التي ساعدته على توفير الكثير من الجهد والعناء والمصروفات دون أن يواجه أي مشاكل أو تعقيدات، بحسب قوله.
رغم تزايد الإقبال الشعبي على هذه المؤسسات واكتسابها ثقة الشباب بشكل كبير، إلا أنه تم اتهام بعضها بالاحتيال والتلاعب بسبب طمعها في الأرباح وتحويل الاستفادة المادية إليها بدلًا من المقبلين على الزواج
كما تختلف الآلية العمل والمساهمة باختلاف المؤسسة وحجم المساعدات الذي تتلاقه من الجمعيات الخيرية المتعاونة أو الجهات الممولة، فقد تتبرع مؤسسة للمتقدم بجزء من تكاليف الزواج أو تقدم بعض المساعدات العينية والهدايا أو تتكفل بإعداد حفل زفاف جماعي لعدد كبير منهم قد يصل إلى ألفي زوج وزوجة دون مقابل.
لكن بصفة عامة، يتقدم الشاب إلى المؤسسة بطلب يوضح فيه إمكاناته المادية وبعض الأوراق اللازمة في حال قبول حالته مثل الكفيل البنكي وورقة التزام من المحكمة ودفعة أولية تتغير قيمتها من 600 دولار تقريبًا إلى 1000 دولار، وعلى هذا الأساس تدرس المؤسسة ملفه وتقيم وضعه وتضمن التزامه بسداد الأقساط في الوقت المتفق عليه وتبدأ بتتبع مراحل إتمام الزواج مع الموردين وجميع المتعاونين في هذا المشروع.
رغم تزايد الإقبال الشعبي على هذه المؤسسات واكتسابها ثقة الشباب بشكل كبير، إلا أنه تم اتهام بعضها بالاحتيال والتلاعب بسبب عدم مطابقتها للشروط المتوافق عليها أو عدم وفائها بتقديم ما يطلبه الزوجين أو قد تطمع في الأرباح وتحول الاستفادة المادية إليها بدلًا من المقبلين على الزواج.
شاب تزوج عبر مكاتب تيسير الزواج، قال: “يستعين الشباب بهذه المؤسسات اضطررًا وافتقارًا لأي مصدر دعم آخر، وليس تميزًا بالمساعدات”
ففي حوار آخر لـ “نون بوست” مع أحمد أبو هاشم، شاب تزوج عبر مكاتب تيسير الزواج، قال: “يستعين الشباب بهذه المؤسسات اضطررًا وافتقارًا لأي مصدر دعم آخر، وليس تميزًا بالمساعدات”، فهو كما يعتقد لا يؤيد هذه التجربة ولا ينصح بها بسبب الالتزامات والديون التي تزيد الشاب قلقًا بعد الزواج، خاصة بالنسبة للعاطلين عن العمل والذين لا يعرفون من أين سيسددون الأقساط الشهرية المتتالية.
وفي نفس الجانب، يضيف أبو هاشم: “تهدف هذه المؤسسات إلى تحقيق الربح، فهي لا تقدم هذه المساعدات دون مقابل، بل تكسب نسبة معينة -تصل إلى 20%-، ويتم ذلك من خلال اتفاقياتهم مع أصحاب المعارض والمتاجر”، ويضرب مثلًا بذلك، قائلًا: “لو ذهبتُ مباشرةً للمعرض لشراء أثاث غرفة النوم، سأحصل على طقم بجودة جيدة ومقبولة وبسعر أقل من السعر الذي تعلن عنه المؤسسة، أما لو اعتمدت على المؤسسة فسأحصل على أثاث بجودة رديئة وبتكلفة إضافية عن السعر الحقيقي”.
إلى جانب ذلك، يرى أن هذه المؤسسات تتشدد في مواعيد الدفع، فكما يذكر، لديه العديد من الأصدقاء الذين وصلتهم عشرات أوامر الحبس من المحكمة بسبب عدم سدادهم للأقساط، ولكن ليس بيدهم حيلة “فمن يتزوج في الزمن الحالي في غزة على حسابه الخاص، هو ابن ملوك”، على حد وصفه.
في الجهة المقابلة، علقت مؤسسة “فرحة لتيسير الزواج” في غزة لـ “نون بوست” على هذا الموضوع قائلةً: “اتهام هذه المؤسسات بالاحتيال ليس منطقيًا على الإطلاق، لأن المؤسسة توضح شروط الاتفاق للعريس وأهله قبل التسجيل أو الإقدام بأي خطوة تنفيذية، وبالمقابل لا يلتزم العديد من المشتركين بالدفع، فتقع المؤسسة في موقف حرج مع الموردين وبالتالي يتم اتهامها بالاحتيال وبمخالفة الشروط”. وما بين الاتهامات والتبريرات، لا شك أن هذه المؤسسات تبقى يدًا منقذة للعديد من الشباب المقبلين على الزواج والحالمين بحياة جديدة بمعايير متواضعة وبسيطة.