في سابقة هي الأولى، بعد توليه رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية يتلقى دعوة رسمية من وزارة الخارجية الروسية لزيارة موسكو، وقد حمل الدعوة سفير جمهورية روسيا الاتحادية لدى دولة فلسطين حيدر رشيد الذي سلم الدعوة مباشرة لهنية، في لقائهما في غزة يوم الأربعاء 28 من نوفمبر/تشرين الثاني.
وفي ذات السياق، يُذكر أن التواصل الدبلوماسي بين موسكو والحركة عاد يظهر للسطح، بعد زيارة وفد من حركة حماس بقيادة موسى أبو مرزوق، موسكو، في مارس/آذار الماضي، حيث التقى فيها وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف.
انطلاقًا من التصريحات الروسية الرسمية، فإن الزيارة تأتي في إطار هدف إجراء مباحثات بشأن مستقبل عملية السلام مع “إسرائيل“.
في ظل التوجه الروسي، في الوقت الحاليّ، نحو تثبيت أركان نفوذها بالاعتماد على بعض “أعمدة” الأقاليم حيوية الأهمية الجيوساسية، لا سيما حوض شرق البحر المتوسط وسوريا ومصر وليبيا، وهذا ما يجعلها أمام منافسة مُحتدمة مع القطب الغربي الذي يدعم “إسرائيل”
لكن يشوب الزيارة وتفاصيلها غموضًا يدفعنا إلى التساؤل عن بواعث وأهداف الزيارة، وربما يمكن تصور بواعث وأهداف الزيارة في إطار السيناريوهات التالية:
ـ المساهمة في إقناع حركة حماس بمسار المفاوضات مع “إسرائيل”، وبالتالي دعم مسار السلطة الفلسطينية، وإظهار ذاتها كبديل عن الولايات المتحدة في تسيير عملية التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين
باعتبار التنافس التاريخي بين واشنطن وموسكو، عند الحديث عن بديل عن الولايات المتحدة في عملية السلام، يخطر على البال للوهلة الأولى موسكو التي يُنظر إليها على أنها دولة تسعى لمنافسة واشنطن، للوصول إلى تحقيق أهدافها في إعادة روح تعدد القطبية على الساحة الدولية.
ويُستند في هذا الطرح إلى توجه موسكو للسياسة الخارجية القائم على نظرية جيوسياسية إستراتيجية تُعرف باسم “الأوراسيانية”، تلك الإستراتيجية التي تُشير إلى ضرورة تكامل روسيا مع أعمدة القوى البرية الدولية والإقليمية، لتُصبح قادرة على مواجهة القوى البحرية التي يتسنمها حلف “الناتو”، ويُصبح لها قدرة على الوصول إلى المياه الدافئة في أوراسيا التي تُعد قلب العالم، وبذلك يخرج للسطح ما يُسمى بـ”النظام العالمي الأوراسي الجديد“.
وفي ظل التوجه الروسي، في الوقت الحاليّ، نحو تثبيت أركان نفوذه بالاعتماد على بعض أعمدة الأقاليم حيوية الأهمية الجيوساسية، لا سيما حوض شرق البحر المتوسط وسوريا ومصر وليبيا، وهذا ما يجعلها أمام منافسة مُحتدمة مع القطب الغربي الذي يدعم “إسرائيل” التي لا ترى في موسكو دولة عُظمى، بل دولة كُبرى يمكن إخضاعها للتفاوض بشأن مصالحها، أي المصالح الإسرائيلية، من خلال التلويح بالركون إلى الولايات المتحدة.
لم يستطع الاتحاد السوفيتي تقديم رؤية سلام تضغط على الطرفين (الأمريكي والإسرائيلي) للقبول بها ولو جزئيًا
ولعل الدور الإسرائيلي الواضح في سوريا، الذي أرغم، إن صح التعبير، موسكو على التنسيق معها ومنحها الحرية في استهداف القوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا، خير دليل على مدى إدراك موسكو لأهمية الأمن الإسرائيلي بالنسبة للولايات المتحدة، وعليه، يبدو من الصعب توقع تأثير روسيا في هذا الملف على نحوٍ كبير، وبالتالي صعب توقع لقائها مع حماس في هذا الإطار، لا سيما أن روسيا تُدرك أن “إسرائيل” لا تُعير لدورها وثقلها الكثير من الأهمية، في ظل وجود الداعم الأمريكي.
لم يستطع الاتحاد السوفيتي تقديم رؤية سلام تضغط على الطرفين (الأمريكي والإسرائيلي) للقبول بها ولو جزئيًا، وعليه يبدو أنه من الصعب جدًا على روسيا التي لا تساوي قوتها الحاليّة القوة التي كان عليها الاتحاد السوفيتي، تقديم خطة ناجعة للحل، وبالتالي توجيه حماس لتوكيلها، أي توكيل موسكو في عملية قيادة مسار التوسط في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الشاملة لحركة حماس.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا ترى في “إسرائيل” دولة ذات سيادة، لذا فإنها ترى حق عودة الفلسطينيين انتهاكًا للسيادة الإسرائيلية، كما أنها تقبل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لكن على نحوٍ لا يهدد أمن “إسرائيل”، وانطلاقًا من هذه المعادلة، لم تُخالف مُعاهدة “أوسلو” التي تنافت مع القيمة المُتعارف عليها في القانون الدولي.
وفي ضوء ذلك، يبدو أن سيناريو استغلال الزيارة في الضغط على “إسرائيل” لتحقيق مصالحٍ لها في ميادين أخرى، لا سيما الميدان السوري، أكثر رجوحًا مقارنة بسيناريو تولي موسكو ملف التفاوض بضم حركة حماس لها، لكن قبل ختام هذا الباب، لا يُمكن استبعاد محاولة موسكو تقريب وجهات النظر بين حركة حماس والسلطة، في ظل وجود علاقات جيدة بينها وبين السلطة.
استغلال الزيارة في الضغط على “إسرائيل”
بعد حادثة التصعيد الأخيرة في قطاع غزة، أعربت وزارة الخارجية الروسية عن قلق موسكو العميق إزاء تصعيد التوتر في قطاع غزة، مشيرةً إلى أن “إسرائيل” خلقت حالة التصعيد الحاد للتوتر في قطاع غزة، داعيةً لضرورة الرجوع لاتفاق 2014.
يمكن توقع أن جزءًا كبيرًا من أهمية الزيارة يأتي من خلال ضغط روسيا على “إسرائيل” للقبول بالمعادلات التي تحاول طرحها في سوريا، ولو جزئيًا
في الحقيقة، يُعدّ موقف الخارجية الروسية مستحدثًا نوعًا ما، حيث جاء في اليوم الأول للحدث، كما جاء بصيغة الاتهام لـ”إسرائيل”، ويبدو أن الباعث الأساسي لهذا الموقف وجود حالة خلاف بين الطرفين في سوريا، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية التي لم تكن مرصودة في إطار اتفاق الطرفين للسماح لـ”إسرائيل” باستهداف قوات حزب الله والقوات الإيرانية، المُبرم عام 2015.
أيضًا، يعكس الموقف خلاف الطرفين فيما يتعلق بالحراك الأمني والجيوسياسي في حوض شرق البحر المتوسط، حيث تدعم روسيا حق لبنان في التنقيب عن الغاز الطبيعي في المناطق التي تعتبرها “إسرائيل” تابعة لها، وتحاول، أي روسيا، زيادة نفوذها في حوض شرق البحر المتوسط على حساب القطب الغربي الذي يحتضن “إسرائيل”، وقد ظهر تحرك “إسرائيل” الأولي ضد التوجه الروسي في الحوض، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية، بالتزامن مع اقتراب سفن تابعة “للناتو”، وأخرى تابعة لفرنسا، من المياه الإقليمية لسوريا، ما عكس رسالة إسرائيلية لروسيا مفادها “سنقف لجانب القطب الغربي ضد طموحك”، وهو ما حدا، حسب ما يبدو، روسيا لاستغلال الحدث في قطاع غزة، وإرسال رسالة لـ”إسرائيل” مفادها “سنستغل كل حدث لا يصب في صالحك، في حال رفعتم لواء التحدي ضدنا”.
أيضًا، كانت روسيا قد استخدمت أحداث قطاع غزة لإحراج “إسرائيل”، في أبريل/نيسان منصرم، حيث استهدفت “إسرائيل” بعض النقاط في حماه ودير الزور السوريتين، وكانت النقاط تهم المصلحة الروسية، ما حدا بروسيا لإدانة “العنف العشوائي” التي تقوم به “إسرائيل” ضد المتظاهرين سلميًا.
جاء تلويح عزام الأحمد باحتمال أن تكون موسكو بديلًا مُحتملًا عن القاهرة في رعاية عملية المُصالحة، كإشارة رجحت احتمال قدوم الزيارة في هذا الإطار
وعلى الأرجح، يمكن توقع أن جزءًا كبيرًا من أهمية الزيارة يأتي في هذا الإطار الذي تهدف من خلال روسيا الضغط على “إسرائيل” للقبول بالمعادلات التي تحاول روسيا طرحها في سوريا، ولو جزئيًا.
المصالحة مع النظام السوري
في هذا الإطار، قد يُشار إلى أن إيران أقرب للنظام وحركة حماس، في حال أرادت الأخيرة قطع خطوات تتعلق بالتصالح مع النظام السوري، لكن ردًا على هذه الرؤية، لا بد من الإشارة إلى أن روسيا أضحت صاحبة الكعب السياسي العالي والمؤثر في المُعادلة السورية، وعليه، فإن التصالح من خلالها يُعد أكثر جدوى وأكثر ضمانةً، غير أنه يبدو أن طرح هذه النقطة إعلاميًا في الوقت الحاليّ غير وارد، نظرًا لمسعى روسيا للإبقاء على المُعادلة السورية لصالحها، دون تشكيل عنصر ضغط كبير على “إسرائيل” يدفعها نحو التنسيق مع واشنطن، للتحرك ضد طموح روسيا، لكن لا يُمكن استبعاد طرح هذه النقطة على هامش الزيارة في حال وُجدت الإرادة السياسية لدى حركة حماس التي أظهرت العام الماضي توجهًا ملموسًا نحو العودة إلى محور إيران التي قد يزورها هنية في جولته الأخيرة.
المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية
جاء تلويح عزام الأحمد باحتمال أن تكون موسكو بديلًا مُحتملًا عن القاهرة في رعاية عملية المصالحة، كإشارة رجحت احتمال قدوم الزيارة في هذا الإطار، في الحقيقة، يبدو أن تلويح الأحمد بذلك يأتي في إطار محاولته إيجاد أداة ضغط إعلامية على القاهرة لعرقلة خروج هنية في جولته الدولية، أقرب للصواب، ويُصعب أن تكون موسكو بديلًا عن القاهرة، وإنما داعمة لجهودها، انطلاقًا من عدة عوامل أهمها:
تتعامل روسيا الاتحادية مع الملف الفلسطيني انطلاقًا من مُعادلة “اللعب على تناقضات توازن القوى” التي تعني التقارب من الفلسطينيين لتوفير أداة ضغط على “إسرائيل”
ـ التوكيل الأمريكي “الإسرائيلي” للقاهرة في رعاية العملية.
ـ مصالح الأطراف الفلسطينية “فتح وحماس” المترابطة مع القاهرة جغرافيًا وسياسيًا وأمنيًا، في ظل انعدام هذه الأوراق والمصالح لدى روسيا.
ـ الترابط التاريخي بين القاهرة والملف الفلسطيني، الذي لا يُمكن أن تتجاوزه روسيا، وتُدرك الأطراف الفلسطينية أهميته.
ـ انعدام الخبرة لدى موسكو فيما يتعلق بهذا الملف.
وعليه، يبدو أن موسكو قد تضطلع بدور “المُيسر” أو “الداعم” لجهود المصالحة أكثر منها دور الوسيط.
في الختام، تتعامل روسيا الاتحادية مع الملف الفلسطيني انطلاقًا من مُعادلة “اللعب على تناقضات توازن القوى” التي تعني التقارب من الفلسطينيين لتوفير أداة ضغط على “إسرائيل”، ولتأسيس مكانة دولية لذات تُظهرها، ولو على نحوٍ نسبي، أنها القطب البديل القادم للولايات المُتحدة، وفي ضوء ذلك، يبدو أن زيارة هنية لموسكو تأتي في إطار الضغط على “إسرائيل” التي تتفاوض مع روسيا بشأن ملف تدخلها الجوي ضد القوات الإيرانية هناك، وبهدف مناقشة ملفات جزئية لا تتسم بالتحول الإستراتيجي في مسار القضية الفلسطينية.