جولة مكوكية حثيثة، حمل خلالها وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، حقيبته المثقلة بالملفات والأوراق المهمة، طارقًا أبواب 8 دول دفعة واحدة، بعضها لم يزرها مسؤول إيراني كبير منذ أكثر من 11 عامًا، في محاولة لتشكيل تكتل دبلوماسي إقليمي ضاغط على الكيان المحتل، لتفادي التصعيد الإسرائيلي المحتمل الذي قد يُدخل المنطقة بأكملها في أتون حرب مفتوحة السيناريوهات.
تأتي تلك الجولة التي شملت لبنان وسوريا والعراق والسعودية وقطر وسلطنة عمان ومصر ثم تركيا كمحطة أخيرة، ضمن حراك دبلوماسي مكثف تقوم به طهران خلال الأيام الماضية، في ظل الأجواء الملتهبة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ بداية الحرب على غزة أكتوبر/تشرين الأول 2023، بصفة عامة، وتصاعد التوتير مع الجانب الإسرائيلي على وجه الخصوص، خاصة بعد الحديث عن ضربة إسرائيلية محتملة ردًا على الهجوم الإيراني على تل أبيب في الأول من الشهر الجاري.
وحملت لقاءات عراقجي مع كبار القادة والزعماء والمسؤولين في البلدان التي زارها، العديد من الرسائل، بعضها كانت تحذيرية، في وقت يتأهب فيه الجميع لخرق جديد لقواعد الاشتباك في المنطقة، في ظل انصياع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة لأطماعهم وطموحاتهم المجنونة بشأن خلق معادلة ردع جديدة، تقزم النفوذ الإيراني، فهل تنجح طهران من خلال هذا الحراك الدبلوماسي في احتواء هذا التصعيد وتلجيم رئيس الوزراء العبري المنفلت؟
مأزق إيران.. سياق مهم لفهم المشهد
تأتي تلك الجهود الدبلوماسية الإيرانية، التي تتزامن مع سيولة أمنية وسياسية داخلية، مدفوعة بحزمة من المؤشرات العامة التي تفرض تحديات إضافية تُزيد موقف طهران المتأزم، وتدفعها للدخول في سباق مع الزمن، لتقليل مستوى وحدة التوتير الإقليمي القابل للانفجار في أي وقت، بما قد يهدد كل المكتسبات التي حققتها الجمهورية الإيرانية على مدار العقدين الماضيين.
أولها: إصرار نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية على توجيه ضربة قاسية لإيران ردًا على عملية الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فالرد قادم لا محالة، هذا ما استقر في يقين الإيرانيين، حيث تشير التقديرات إلى أن قرار العملية تم اتخاذه فعليًا، ونوقشت الأهداف المتفق عليها، في انتظار ساعة التنفيذ.
ثانيها: الدعم الأمريكي المطلق لـ”إسرائيل” في توجيه تلك الضربة، مع تزويدها بمنظومة الصواريخ الدفاعية المتطورة “ثاد”، في إشارة إلى ضوء أخضر أمريكي وغربي بشأن الرد الإسرائيلي، وعليه فإن أي تعويل على ضغوط أمريكية أوروبية في هذا الأمر مضيعة للوقت وحرث في الماء دون جدوى.
ثالثها: الضربات التي تتعرض لها أذرع إيران في المنطقة، والقلق من تعميق حجم الخسائر في صفوفها، بما يفقدها السلاح المحوري في تعزيز نفوذها الإقليمي، حتى وإن استعادت بعض تلك الأذرع بعض عافيتها مؤخرًا، لكن تبقى الفجوة التسليحية العسكرية بين تلك الأذرع وجيش الاحتلال المدعوم من أقوى جيوش العالم كبيرة.
رابعها: القلق من توجيه ضربة إسرائيلية تضع طهران في مأزق وحرج كبير، داخليًا وخارجيًا، كأن يتم استهداف منشآتها النووية أو النفطية، وهو ما يتطلب الرد المضاد من النظام الإيراني بما قد يعمق الأزمة ويطيل أمد الصراع، الذي تخشى إيران أن يضع مشروعها النووي القومي على المحك، وأن يجردها من جميع المكتسبات التي حصلت عليها طيلة السنوات الماضية.
تكتل دبلوماسي ضد التصعيد الإسرائيلي
في ضوء هذا المشهد المرتبك وتعاظم المأزق الإيراني جاء هذا التحرك الدبلوماسي المكثف، الذي حاولت فيه طهران قدر الإمكان تجميد سياقات الخلافات مع بعض الدول التي تضمنتها الجولة ولو بشكل مؤقت، ويأتي على رأسها السعودية ومصر وتركيا، كذلك الأردن التي شهدت مع الجمهورية الإيرانية سجالًا حادًا خلال الأشهر الماضية بسبب موقف المملكة من الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي أطلقتها صوب الأراضي المحتلة أبريل/نيسان الماضي.
ومن ثم سحبت التطورات الإقليمية الراهنة والمخاوف من اندلاع حرب مفتوحة، البساط من تحت أقدام أي خلافات بينية، وباتت ضرورة مواجهة التحديات التي تواجه الإقليم برمته هي الشعار الأبرز والعنوان الأكثر وضوحًا، ليس لجولة عراقجي فقط، لكن لكل التحركات والجهود الدبلوماسية المبذولة من بعض دول المنطقة في تلك الفترة.
وعطفًا على ذلك جاءت مهمة وزير الخارجية الإيراني التي تنحصر في المقام الأول في بناء تكتل دبلوماسي قوي يضم بين جنباته بعض القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، كمصر والسعودية وتركيا على وجه التحديد، في مواجهة التصعيد الإسرائيلي ومحاولة لجم طموحات نتنياهو المنقاد من يمينه المتطرف الحالم بمنطقة مشتعلة تخدم أجندته الاستعمارية التوسعية.
ويمثل هذا الحراك الدبلوماسي ترجمة عملية لمطلب المرشد الأعلى الإيراني، على خامنئي، بالوحدة الإسلامية لمواجهة تصعيد “إسرائيل”، الذي نادى به في تصريحات له في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، حيث استقطاب الدول ذات الثقل الإقليمي مع دول الطوق الإسرائيلي، لتعزيز ودعم الرؤية الإيرانية، كخطوة مهمة في مشروع تدشين تحالف ضاغط على تل أبيب لإثنائها عن تجاوز الخطوط الحمراء في الرد على الضربة الإيرانية.
ويأمل الإيرانيون من خلال تلك الجهود أن تمارس حكومات الدول الحليفة لـ”إسرائيل” التي شملتهم الجولة، الإمارات ومعها الأردن ومصر والسعودية، ضغوطًا دبلوماسية على حكومة نتنياهو لإخضاع الرد المحتمل – إذا ما أصرت على القيام به – لإطار قواعد الاشتباك التقليدية دون تجاوز، وفي الوقت ذاته تدشين موقف داعم لطهران وقراراتها في حال تخطي الرد الإسرائيلي الخطوط الحمراء.
رسائل المغازلة والتحذير
حمل عراقجي في حقيبته العديد من رسائل المغازلة لدول المنطقة بشأن تعزيز التعاون المشترك في كل المجالات، وتعميق التفاهم والتنسيق بين طهران وجيرانها في الشرق الأوسط، في محاولة لامتصاص حالة الغضب من الممارسات الإيرانية التي كانت على مدار سنوات طويلة سببًا رئيسيًا في إشعال المنطقة بالمجازر والانتهاكات الوحشية عبر وكلائها الإقليميين.
لكن في النصف الآخر من ذات الحقيبة، كانت رسائل التحذير من أي تعاون أو تنسيق مع الكيان الإسرائيلي في ضربته المحتملة ضد إيران، حيث حذرت طهران دول الخليج من استخدام مجالها الجوي أو قواعدها العسكرية ضدها، حسبما نقلت وكالة “رويترز” على لسان مسؤول إيراني رفيع المستوى قوله إن “السماح باستخدام الأجواء أو القواعد العسكرية ضد إيران سيكون غير مقبول، وسيتسبب في رد فعل قوي من طهران”، مشيرًا إلى أن أي عمل تقوم به إحدى دول الخليج ضد إيران، سواء عبر استخدام الأجواء أم القواعد العسكرية، سيتم اعتباره عملًا جماعيًا، وسيتلقى ردًا من طهران وفقًا لذلك.
جدير بالذكر أن دول الخليج تحتضن السواد الأعظم من القواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، على رأسها “قاعدة العديد” في قطر، أكبر منشأة عسكرية أمريكية في المنطقة، وبها 13 ألف جندي أمريكي، كذلك الكويت التي تستضيف أكثر من 13 ألف جندي أمريكي يتمركزون في العديد من المواقع العسكرية، أهمها: قاعدة عريفجان، المقر الرئيسي للقوات الأمريكية في البلاد، وقاعدة علي السالم الجوية، وقاعدة معسكر الدوحة، وقاعدة بيورينغ.
وفي السعودية هناك تنسيق عسكري كبير مع القوات الأمريكية، حيث توفر المملكة للأمريكان أنظمة دفاع جوي وصاروخي واستخدام الطائرات العسكرية، كما تمتلك تلك القوات حق استخدام عشرات المرافق التابعة للجيش السعودي، إضافة إلى قاعدتين عسكريتين، هما: قاعدة الإسكان الجوية، وقاعدة الأمير سلطان الجوية، أما الإمارات فتستضيف 5 آلاف عسكري أمريكي في 3 قواعد عسكريةهم قاعدة الظفرة الجوية، وميناء جبل علي، وقاعدة الفجيرة البحرية.
وفي البحرين هناك أكثر من 9 آلاف جندي أمريكي يتمركزون في 3 قواعد، هي: قاعدة الجفير البحرية، وقاعدة الشيخ عيسى الجوية، وقاعدة المحرق الجوية، فيما يوجد 600 جندي في سلطنة عمان، لهم حق استخدام 24 مرفقًا عسكريًا في السلطنة، بما فيها المطارات والموانئ، ويتواجدون في عدد من القواعد أهمها: قاعدة مصيرة الجوية، وقاعدة المسننة الجوية، وقاعدة ثمريت الجوية التي تضم مخازن للعتاد والسلاح الأمريكي.
وينسحب التحذير ذاته على الساحة الأردنية بحكم أجوائها القريبة من الطيران الإسرائيلي، حيث شدد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، خلال استقباله وزير الخارجية الإيراني، أمس الأربعاء، على أن “الأردن لن يكون ساحة للصراعات الإقليمية”، في إشارة إلى رفض المملكة لاستخدام أجوائها الجوية في أي هجوم عسكري قد يقع بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا على ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة ووقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان كخطوة أولى نحو التهدئة.
ولدى الأردن تعاون عسكري وثيق مع الولايات المتحدة، حيث يتمركز نحو أكثر من 2800 عسكري أمريكي في المملكة، فيما يتوافد مئات من المدربين الأمريكيين سنويًا لإجراء مناورات عسكرية مكثفة، وتتمركز تلك القوات في قاعدة موفق السلطي الجوية وبعض القواعد السرية الأخرى، كما تقدم عمّان تسهيلات عسكرية للقوات الأمريكية في ميناء العقبة.
تسويق النظام الإيراني إقليميًا
رغم تلك الوضعية الحرجة والمشهد الملتهب والتحديات التي تحدق بالمنطقة بأسرها، فإن طهران لن تجد فرصة سانحة كهذه لتسويق نظامها الجديد، القادم على أنقاض كارثة استخباراتية وأمنية فاضحة، أطاحت بالرئيس ووزير خارجيته، ومحاولة فتح صفحة جديدة مع دول الشرق الأوسط تحاول بها طي صفحات الماضي التي كان عنوانها الأبرز الخلاف والصدام، وهو ما حملته تصريحات الرئيس مسعود بزشكيان خلال الفترة الماضية.
وتعكس خريطة البلدان التي شملتها جولة عراقجي ملامح هذا التسويق، حيث تركزت على 3 مسارات أساسية، الأول: تعزيز العلاقات مع الدول ذات الثقل الإقليمي رغم الخلافات، على رأسها السعودية (صراع النفوذ المشتعل وحرب الحوثيين)، وتركيا (الخلاف بشأن التدخل في سوريا) ومصر (تباين وجهات النظر بشأن الممارسات الإيرانية في البحر الأحمر وبعض الملفات الإقليمية)، الثاني: تعميق العلاقات مع الدول ذات المكانة الدبلوماسية المحورية في المنطقة كقطر، الثالث: التشديد على استمرار التنسيق والتفاهم مع حواضن الأذرع الإيرانية في المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان.
وتحاول طهران من خلال تلك السياسة الدبلوماسية الجديدة تفتيت الجهود التي قامت بها “إسرائيل” لتوسيع الهوة بينها وبين الدول العربية، أو على الأقل تضييق تلك الهوة قدر الإمكان، في ظل المزاج العام المحتقن ضدها إقليميًا، بما يساعدها على الجانب الآخر في تعزيز مصالحها في الشرق الأوسط التي باتت عرضة لتهديد جديّ وخطير.
وفي ظل حرب الاستقطابات المشتعلة حاليًا ومعارك التحالفات الساخنة، تحاول إيران إيجاد موطئ قدم لها، تسعى من خلاله إلى ترسيخ حضورها والحفاظ على نفوذها ومكاسبها التي حققتها على مدار سنوات طويلة، والهرولة نحو كسر العزلة الدولية المفروضة عليها، مستغلة السيولة السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة.. فهل ينجح عراقجي في مهمته؟