في الساعات الأولى لاستقرار الأوضاع في العراق لمصلحة الاحتلال الأمريكي بعد العام 2003، بدأت عمليات اغتيالات منظمة في عموم البلاد، الاغتيالات لم تكن عبثية أو عشوائية، وإنما كانت موجهة ضد شخصيات مهمة في المجتمع، ومن بينهم الطيارين والعلماء والمفكرين وغيرهم، وكانت قوات الاحتلال تغض الطرف عن هذه الجرائم ولا تحرك ساكنًا في ضرورة حماية المدنيين، ولا أحد يعرف ما القوى التي تقف وراء جرائم الاغتيال؟
واستمرت تلك الكارثة الوطنية على قدم وساق، ومع الأيام بدأت تتكشف الحقائق، ويتأكد أن إيران وأذرعها لهم اليد الأقوى في تنفيذ تلك الاغتيالات.
ومن يومها لم يتوقف شلال دم المغدورين وآخرها استهداف وتهديد بعض الشخصيات الفنية والإعلامية والرياضية، وبالذات من النساء، وهو ما دفع رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي لبيان أن الاغتيالات ليست من باب الصدفة، وهذه الممارسات تعطي انطباعًا بأن وراءها مخطط من جهات منظمة هدفه الإخلال بالأمن تحت ذرائع محاربة مظاهر الانحراف وإظهارها على أنها حالات منفردة وهي لا تبدو كذلك.
ووجه العبادي – نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، على خلفية اغتيال الـ”موديل” العراقية تارة فارس بهجوم مسلح في بغداد – الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالعمل الفوري وتركيز الجهود للحصول على معلومات بشأن جرائم الاغتيال والخطف.
العراقيون واعون تمامًا لحقيقة الدور الإيراني
وفي يوم الجمعة الماضية نشر كون كوغلن محرر الشؤون الدفاعية في صحيفة ديلي تلغراف البريطانية تقريرًا ينقل عن مسؤولين أمنيين بريطانيين قولهم: “طهران تستخدم فرق اغتيالات لإسكات منتقديها، وهذه الفرق نُشرت بأوامر من قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، في محاولة لإرهاب خصوم إيران في العراق، ونشر هذه الفرق تم في أعقاب الانتخابات العامة في العراق مايو/أيار، بعد أن تعرقلت محاولات طهران لفرض نفوذها في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة جراء فشل المرشحين الذين دعمتهم في الفوز بالأصوات الكافية لتشكيل الحكومة”.
التقرير رغم أنه من صحيفة بريطانية كبيرة، فيه مغالطة واضحة وذلك لأنهم ذكروا بأن نشر هذه الفرق تم “بعد أن تعرقلت محاولات طهران لفرض نفوذها في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة”! وهذا الكلام ليس دقيقًا، وإيران اليوم أقوى من قبل في المشهد العراقي، والكثير من مناصريها يمتلكون مقاعد ثقيلة في البرلمان، وعليه فإن كلام الصحيفة فيه مخالفة للواقع السياسي والأمني العراقي!
اغتيال ناشط في البصرة
رغم فرق الاغتيالات ما زالت أصوات العراقيين تتعالى، واتهموا إيران صراحة بأنها لوثت شط العرب من خلال نفايات المصانع والمفاعلات النووية التابعة لها جراء مخلَّفاتها التي تؤثر على المياه في البصرة؛ ما تسبَّب في ارتفاع معدلات تلوث المياه وتسمم المواطنين وسط صمت وإهمال من الحكومة العراقية.
آثار جريمة التلويث موثقة من مفوضية حقوق الإنسان العراقية، التي كشفت في الـ30 من أغسطس الماضي، توثيق 18 ألف حالة مرضية في البصرة، من الفئات العمرية كافة، فيما شملت بعض الحالات عائلات بأكملها نتيجة تلوث المياه، مؤكدة تسجيلها ما يقارب 1200 حالة يوميًا في عموم المحافظة.
العراقيون واعون تمامًا لحقيقة الدور الإيراني، ولهذا رأينا كيف أن رجال البصرة أحرقوا القنصلية الإيرانية مما أربك حكومة طهران التي استدعت سفيرها إلى وزارة الخارجية بطهران وتم إبلاغه بمذكرة احتجاج شديدة للحكومة العراقية لتقاعس القوات الأمنية في الحفاظ على هذا المبنى.
رغم النفوذ الإيراني والاغتيالات التي صارت ظاهرة مجتمعية حاولوا من خلالها اغتيال كلمة العراقيين الحرة، فإن العراقيين آمنوا أنه لا خلاص لهم إلا بحكومة المواطنة وإنهاء التدخل الأجنبي في شأنهم الداخلي
مسلسل الاغتيالات في بلاد الرافدين له بداية ولا يبدو أن نهايته قريبة بسبب التلاحم والتداخل الكبير في غالبية الملفات السياسية والأمنية، وضياع بوصلة الدولة، ومن هنا لا توجد إحصاءات دقيقة عن أعداد ضحايا الاغتيالات، لا من الحكومة ولا من المنظمات ذات الصلة، عدا إحصاءات الأمم المتحدة وبعض المنظمات والهيئات المعارضة التي تذكر إحصاءات شهرية عن القتلى في العراق، وفي الغالب لا تذكر أسباب القتل، وبالمحصلة هي آلاف من الأبرياء الذين قتلوا بلا ذنب سوى أنهم في دولة بلا قانون!
إيران اليوم حاكمة في المشهد العراقي ولو بطريقة غير مباشرة، ولديها نفوذ واضح على الأرض، وهي تتحكم بالمساحة الأكبر من الساحة السياسية، وعندها القدرة على فعل أي شيء، وتصفية أي شخصية عبر أذرعها المنتشرة في الأجهزة الرسمية وغير الرسمية!
رغم النفوذ الإيراني والاغتيالات التي صارت ظاهرة مجتمعية حاولوا من خلالها اغتيال كلمة العراقيين الحرة، فإن العراقيين آمنوا أنه لا خلاص لهم إلا بحكومة المواطنة وإنهاء التدخل الأجنبي في شأنهم الداخلي، وهم مصممون على بلوغ هذا الهدف النبيل رغم كل التضحيات.