إنه الوقت نفسه من كلّ عام، حيث لا يكون لديك رغبة معيّنة سوى البقاء في المنزل، ففكرة خروجك في هذه الأجواء الماطرة والباردة قد تسبّب لك الحزن والإحباط. وعلى الرغم من أنّ الكثير منّا يحبّ الأجواء المصاحبة لفصل الشتاء، مثل جمعات الأصدقاء الليلية ووجبات العائلة الحميمية، إلا أنه بالفعل قد يكون ثقيلًا علينا فيأسرنا في موجةٍ من الاكتئاب.
في اللغة الدارجة قد نقول عنه “اكتئاب الشتاء” أو “الشجن الشتوي” أو “Winter Blue“، لكن في علم النفس يمتدّ المصطلح إلى أبعد من ذلك ليصبح “الاضطرابات العاطفية الموسمية” أو “Seasonal affective disorder“، وهي اضطرابات مزاجية مرتبطة بغياب ضوء الشمس وتأثر الساعة البيولوجية للجسم، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل الإيقاعات اليومية للشخص مع العديد من الأعراض مثل: الشعور باليأس وانخفاض التركيز والركود ولانسحاب الاجتماعي والتعاسة وحدّة الطباع.
يحدث هذا النوع من الاضطرابات بشكلٍ دوريّ في الوقت نفسه من العام بدءًا من أواخر الخريف إلى أوائل الربيع، وتبلغ ذروتها في فصل الشتاء. ووفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات والأمراض العقلية “5–DSM” فتتنوّع الأعراض المرتبطة به في حدّتها وخطورتها، فقد تكون مجرد شعورٍ باليأس أو فقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية والانسحاب الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، قد تتطوّر لتصبح مشاعر سلبية مرتبطة بأفكار انتحارية حادّة قد تؤدي فعلًا إلى الانتحار.
عدّة نظريات مُقنعة.. كيف نفهم الأسباب؟
ربّما قد يكون الجواب بسيطًا للغاية، تتأثر إيقاعاتنا اليومية بسبب قصر الأيام وفقدان ضوء النهار في فصل الشتاء، الأمر الذي يؤثّر على مستويات هرمون الميلاتونين في أجسامنا والذي نحتاجه لتنظيم العديد من العمليات الحيوية مثل النوم والجوع والعطس والجنس والحالة المزاجية ودرجة حرارة الجسم وغيرها الكثير.
تتنوّع الأعراض المرتبطة باكتئاب الشتاء، فقد تكون مجرد شعورٍ باليأس أو فقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية والانسحاب الاجتماعي أو تتطوّر لتصبح مشاعر سلبية مرتبطة بأفكار انتحارية حادّة قد تؤدي فعلًا إلى الانتحار
كما أنّ العديد من الدراسات والأبحاث توصّلت لوجود علاقة بين هرمون السيروتونين وتعرّض الجسم لكميات مباشرة من أشعة الشمس الطبيعية التي تأتي في مجموعة متنوعة من الأطوال الموجية الضوئية، وبشكلٍ خاص الطيف الأزرق الذي يلعب دورًا في إفراز السيروتونين من الخلايا العصبية للتحكّم في إيقاعات الساعة البيولوجية.
من جهةٍ ثانية، يرى علم النفس التطوّري أنّ الإنسان قبل آلاف أو عشرات الآلاف من السنين استطاع أنْ يطوّر حالاتٍ شبيهة بالحالات التي نمرّ بها بالشتاء، هدفًا منه لحفظ طاقة الجسم في أوقات البرد القارصة التي كانت ترتبط بالمجاعات ونقص الغذاء والنباتات ومصادر الصيد وغيرها.
لذلك فكانت مشاعر الحزن المرتبطة بهذا الموسم هي الطريقة المثلى لتجنّب الموت والمجاعات، وذلك بالتركيز على الأطعمة ذات الطاقة العالية دون غيرها من جهة، وتكييف الجسم على الطاقة المنخفضة والأنشطة القليلة، بهدف أن تكفل آليات الدفاع هذه بقاءه على قيد الحياة خلال مواسم الشتاء الصعبة، كما أنها تزيد من إمكانية خصوبته في الربيع، ما يعني قدرةً أكبر على تمرير الجينات للأجيال اللاحقة.
هذه الأنواع من الاكتئاب له صلة وراثية؛ إذ طوّرها أجدادنا لضمان بقائهم على قيد الحياة ثمّ انتقلت إلينا عبر الأجيال العديدة
وبما أنّ علم النفس التطوّري يرى أنّ العديد من سلوكيّاتنا وحالاتنا النفسية قد اكتسبناها عن طريق جيناتنا التي تطوّرت تبعًا للحياة التي عاش عليها الإنسان الأول، فيمكننا القول أنّ هذه الأنواع من الاكتئاب له صلة وراثية؛ إذ طوّرها أجدادنا لضمان بقائهم على قيد الحياة ثمّ انتقلت إلينا عبر الأجيال العديدة. وهذا يفسّر لنا السبب الذي يجعل من معظم الأشخاص في العالم يمرّون بانحدارٍ في المزاج وزيادة الرغبة بالنوم والأكل خلال أشهر الشتاء.
ماذا عن المناطق الباردة؟
في مقالها على موقع “ذا كونفيرسيشن”، تتساءل “كاري ليبوفيتز” عن الأفراد الذين يعيشون في أكثر الأماكن برودةً في العالم، حيث يكون فيها الشتاء أطول وساعات النهار لا تكاد تعدّ، كيف يتجنّبون اكتئاب الشتاء؟
وفي محاولتها للإجابة على السؤال، انتقلت للعيش في مدينة ترومسو النرويجية، حيث يسكنها أكثر من 70 ألف نسمة على بُعد 200 ميل شمال الدائرة القطبية الشمالية، ما يجعلها قد تمرّ بشهرٍ كاملٍ دون أنْ تشرق عليها الشمس ولو لساعة. ولكن على الرغم من ظروف الشتاء القاسية، فقد أظهرت العديد من الدراسات أنّ سكان ترومسو لا يعانون من الاكتئاب الموسمي أو شجن الشتاء كما يتوقع الكثيرون.
تشير الدراسات أنّ سكان مدينة ترومسو النرويجية لا يتأثرون باكتئاب الشتاء بسبب الطريقة الإيجابية التي ينظرون بها للموسم وما فيه من تغيرات طقسية
تقترح ليبوفيتز أنّ المفهوم النفسي للاكتئاب والصحة العقلية هو ما يقي سكّان المدينة من الاكتئاب. ومن هُنا، نستطيع أنْ نستتنج أنّ المفاهيم العقلية قد تكون واحدًا من العوامل التي تؤثر على قابلية الفرد للاكتئاب وتفاعلهم مع فصل الشتاء ببرودته وقساوته. ما يعني أنّ الطريقة التي ننظر بها للشتاء وطريقة تعاملنا معه هي ما يحدّد أداءنا النفسيّ، سواء على مستوى الصحة أو المرض.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ العلاج بالضوء أو بمضادات الاكتئاب وغيرها من الأدوية قد تكون فعلًا علاجًا فعّالًا وناجحًا للتخلص من اكتئاب الشتاء أو على الأقل لمجابهته والتعامل معه. فتعريض الجسم لكميات محددة من الضوء يمكن أنْ يُحدث تغييرًا في المواد الكيمائية بالدماغ والمرتبطة بالحالة المزاجية، ولهذا السبب تقوم العديد من الدول التي تفتقر لساعات النهار إلى تركيز شدة الضوء في الأماكن العامة، كوسيلة للحدّ من أعراض الاكتئاب الموسميّ المنتشرة بكثرة.
يوصي الخبراء النفسيّون بشدة بالبحث عن أكبر قدر ممكن من الضوء الطبيعي. مع التركيز على أنّ نمط الحياة المعاصر الذي يلزمنا بالبقاء بالمكاتب المغلقة لساعاتٍ طويلة، قد يزيد من الحالة سوءًا
لكن في الوقت ذاته، والأهمّ من ذلك كلّه هو الطريقة التي تختارها لتنظر بها إلى الشتاء وبرودته. فإنْ كنتَ مصرًّا على رؤيته كموسمٍ كئيب يسحب طاقتك ويحفّز رغبتك بالبقاء داخل البيت والابتعاد عن أصدقائك فستبقى تراه كذلك، حتى لو تناولت الأدوية. ولا تنسى أيضًا أنّ قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء ومحاولة الانشغال بالنشاطات الإيجابية كالطعام الجيد ومشاهدة الأفلام أو الجلسات الحميمة مع من تحبّهم قد تكون العلاج الأكثر فعاليةً من كلّ الأدوية.
كما يوصي الخبراء النفسيّون بشدة بالبحث عن أكبر قدر ممكن من الضوء الطبيعي. مع التركيز على أنّ نمط الحياة المعاصر الذي يلزمنا بالبقاء بالمكاتب المغلقة لساعاتٍ طويلة، قد يزيد من الحالة سوءًا. لذلك، فإن نشاطًا صغيرًا مثل المشي الصباحي أو تناول الغداء في الهواء الطلق يمكن أن يحدث فرقًا. علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد اتباع نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة لرفع معدل ضربات القلب على الحد من أعراض الحزن والاكئتاب.