بعد أكثر من عام من حرب الإبادة على قطاع غزة، ارتقى يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وقائدها الذي يحمِّله الاحتلال مسؤولية ضربة القرن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على القطاع بعد عملية طوفان الأقصى، وضع الاحتلال يحيى السنوار في مقدمة قائمته للمطلوبين، ولم يدخر جهدًا باستعمال أعقد الوسائل الاستخباراتية البشرية والتكنولوجية لملاحقته وتتبعه، وتجندت في هذه الحملة أجهزة استخبارات عالمية بما في ذلك الأمريكية البريطانية والفرنسية، لتعقّب السنوار الذي يلقب بـ”أبو إبراهيم”.
على مدار أكثر من عام، قاد السنوار العمليات القتالية داخل قطاع غزة المحاصر، مما وضع إسرائيل في مواجهة مقاومة صلبة عجزت عن حسمها، رغم استخدامها أحدث المنظومات التسليحية في محاولتها للقضاء على السنوار ورفاقه.
لم يكن لقائدٍ استثنائيٍّ مثل يحيى السنوار إلا أن يكون متميزًا في كل جانب من جوانب مسيرته، فقد كان استثنائيًّا في نهجه القيادي وإقدامه غير المعهود وفي قراراته وقدراته الاستراتيجية التي عقدت كل محاولة لتقدير خطواته.
في نقطة اشتباك متقدمة بمدينة رفح جنوبي قطاع غزة، خاض السنوار آخر معاركه بشجاعة فارتقى شهيدًا مرتديًا جعبته وممتشقًا سلاحه، متحديًا كل تقديرات الاحتلال التي نشرتها استخباراته حول مكان اختفائه وتحصنه، فلقد كانت نهايته تجسيدًا لنهج حياته: القتال حتى الرمق الأخير دون تراجع، في مواجهة مستمرة مع المحتل.
يحيى السنوار: سنوات القيادة التي غيَّرت المشهد
يحيى السنوار، من مواليد 1962 في مخيم خان يونس للاجئين بقطاع غزة، وتعرض للاعتقال عدة مرات من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وفي عام 1988 صدر بحقه حكم بالسجن أربعة مؤبدات بتهمة تأسيس جهاز أمني مرتبط بالمقاومة الفلسطينية، وبعد 23 عامًا من الاعتقال، أُفرج عنه في إطار صفقة تبادل الأسرى عام 2011، المعروفة بصفقة “وفاء الأحرار“، التي تضمنت الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
عقب الإفراج عنه، استأنف السنوار عمله داخل حركة حماس متقلدًا مناصب متنوعة، حيث قاد ملفات الأمن والعسكر وانتقل بعدها إلى قيادة الحركة في قطاع غزة، وفي 2017 انتُخب رئيسًا للمكتب السياسي للحركة في غزة ليصبح أحد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في صياغة سياسات الحركة داخليًا وخارجيًا.
شكّلت سنوات قيادة يحيى السنوار مرحلة مفصلية وواسعة في سياسات حركة حماس، حمل فيها توجهاتٍ استراتيجيةً متعددة، كانت نتاج سنوات من الدراسة والتقييم داخل سجنه الذي استثمره في بناء تصوراته حول الشكل الأجدى للمواجهة، وكيفية نقل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية من الاستنزاف في المشاغلة الداخلية إلى البعد الاستراتيجي التحرري للقضية الفلسطينية.
في إحدى لقاءاته، بعد توليه قيادة حركة حماس في قطاع غزة، ذكر أن سنوات سجنه كانت بمثابة فرن مشتعل لم يتوقف يصهر ويصلب شخصية السنوار، الذي ما انفك يخوض نقاشاته المعمقة مع كل قيادة الحركة الأسيرة حول تصورات كل القوى للشكل الأجدى للتحرير، واستثمار قوى الشعب الفلسطيني وتعزيز فعله بما يعيد للقضية الفلسطينية موقعها المركزي، ويصوب بوصلتها بوصفها مشروع تحرر.
منذ تحرره من سجون الاحتلال، أخذ أبو إبراهيم على عاتقه تنفيذ رؤيته، التي تقاسمها مع رفاقه في قيادة الحركة، وعكف على تحويلها إلى برنامج عمل يهدف إلى تخليص حماس من عبء التشتت في قضايا الحكم، إلى صالح إعادة الاعتبار لتعظيم الفعل المقاوم وتصليبه وتشديده، والتجهز لخوض مسار طويل يعيد تصويب المشهد الفلسطيني بأكمله.
لم تخلُ مسِيرة أبي إبراهيم من العثرات والمصاعب، ولم يكن مشروعه الطموح سهلًا، بل كان طريقًا مضنيًا صعبًا واجه فيه الكثير من الجدران، من تقليدية التفكير إلى حسابات المصالح، وليس انتهاءً بتاريخ حافل من الخلافات السياسية التي حكمت مشهد العلاقات الداخلية الفلسطينية، إضافةً إلى التعامل مع مشهد إقليمي معقد عانت فيه حماس من حالة من العزلة والحصار.
نجح يحيى السنوار في تجاوز العقبات من خلال إرساء دعائم المشروع وتعزيزه، وفتح آفاقًا جديدة عبر انفتاح غير مسبوق على قوى الإقليم، وعلى القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، كما نسج علاقات تحالف وترابط غير مسبوقة في المشهد الفلسطيني، حيث ارتكزت هذه التحالفات على محورية مشهد المواجهة مع الاحتلال، وأن عنوان المواجهة مع الاحتلال يجب أن يكون هو العنوان الأول الذي تتراجع أمامه كل مساحات الخلافات.
من جولات مواجهة المقاومة للعدوان الإسرائيلي في الأعوام 2012 و2014 و2021، ومسِيرات العودة الكبرى، كانت تتضح تدريجيًّا بصمات استراتيجية يحيى السنوار، والقدرة الاستثنائية على مخالفة التوقعات المعتادة في المشهد الفلسطيني والنمطية التي سادت الفعل الفلسطيني بعد انتهاء انتفاضة الأقصى في العام 2005.
يحيى السنوار: القائد الاستراتيجي الذي لا يمكن التنبؤ بقراراته
السنوار: قائد من عالم الأساطير
يمكن وصف يحيى السنوار بأنه رجل استثنائي، وهو ما يتضح عند متابعة مسيرته عن قرب، ولو لم نعايش هذه الحقبة ولم نشاهد سيرته ونراقب تحركاته ومواقفه، لظننا أن ما يُروى عنه أقرب إلى أسطورة خيالية، فكيف لرجل في عقده السادس تحرر بعد أن أمضى أكثر من 20 عامًا في السجون الإسرائيلية، أن يتخلى عن حياة الراحة والتمتع فيما بقي من حياته، وينكب منذ اللحظة الأولى لتحرره لاستئناف دوره في صفوف المقاومة والمواجهة.
تتضح استثنائية يحيى السنوار في كونه قائدًا يمزج بين الجرأة الميدانية والشجاعة السياسية، فهو القائد الذي نزل إلى حدود قطاع غزة مع متظاهرين وجاب الحدود الممتلئة بقناصة الاحتلال هاتفًا في الجماهير “على القدس رايحين شهداء بالملايين”، حاشدًا خلفه عشرات الآلاف من أبناء شعبه، متحديًا الولايات المتحدة وخطتها لتصفية القضية الفلسطينية، مؤكدًا أن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقبَل أو يتهاون مع هذه المحاولات.
وهو القائد الذي هددته آلة القتل الصهيونية صراحة بأنه رجل ميت يمشي، وأن اغتياله أولوية على كل الهدن وفترات الهدوء، بعد مواجهة “سيف القدس”، فاختار أن يخرج في مؤتمر صحفي، يعلن فيه علانية أنه سيعود إلى منزله مشيًا على الأقدام، وليجرأ الاحتلال على اغتياله.
وهو الرجل الذي خرج أمام العالم أجمع، وصرح بوضوح أن الاعتداء على المسجد الأقصى والمسّ بحقوق الأسرى، أو استمرار السياسات الإسرائيلية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني قادرًا على قلب الطاولة على رأس الجميع، وأن العام 2023 لن يمر دون حرب كبرى بسبب سياسات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي المجرم.
والسنوار هو القائد الذي قاد الضربة الأكبر في تاريخ المقاومة الفلسطينية، إذ تمكّن من توجيه ضربة قاسية إلى أضلاع الأمن القومي الإسرائيلي، مما هزّ أسطورة تفوقها الاستخباراتي والعسكري، وتحت قيادته خاضت المقاومة أكبر مواجهة مباشرة في تاريخها، حيث لم تكتفِ بالصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية بل استمرت في مقارعتها عامًا كاملاً – وما تزال – دون أن تنكسر أو تتراجع.
ولم يتردد السنوار أو يتراجع في قيادة المكتب السياسي للحركة، وفي الوقت الذي كان يبحث الاحتلال عنه في الأنفاق والأماكن المحصنة، كان يرتدي جعبته، ويمتشق سلاحه، يتوسط مقاتليه، ويتقدم الصفوف في المواجهة والاشتباك مع جنود الاحتلال وجهًا لوجه.
الصورة تحرم “نتنياهو” نشوةَ اللحظة
تسرَّب خبر استشهاد يحيى السنوار عبر نشر صور لجثمانه، ظهر فيها مرتديًا جعبته وممتشقًا سلاحه، وتعرض لإصابات قاتلة في رأسه بعد أن دمَّر جيش الاحتلال المنزل الذي كان يتحصن فيه، وذلك خلال اشتباك عنيف في حي تل السلطان غربي مدينة رفح.
هذه الصور كشفت أن السنوار لم يكن مختبئًا في نفق أو محصنًا بين الأسرى كما زعمت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية، ولم يكن منعزلًا أو بعيدًا عن الأنظار في “سابع أرض”، كما صوّرته الروايات الاستخباراتية لعدة أشهر، بل على العكس أثبتت الوقائع أنه كان موجودًا فوق الأرض، ويتحرك بين جبهات الاشتباك ويقود القتال مباشرة، ويشارك فيه.
وشهد حي تل السلطان خلال الأشهر الماضية أعنف المعارك وأشدها ضراوة، إذ كان خاليًا تمامًا من المدنيين منذ أكثر من أربعة أشهر، حيث تحوّل إلى ساحة اشتباكات عنيفة بين المقاومين وقوات الاحتلال، وفي هذا الحي الصامد، كان يحيى السنوار متواجدًا بين المقاومين المشتبكين، يقودهم من الخطوط الأمامية، مؤكدًا تمسكه بالمواجهة المباشرة مع الاحتلال، دون أن يغادر الميدان حتى لحظة استشهاده.
رحلة في عقل يحيى السنوار.. ماذا تخبرنا مؤلفاته في سجون الاحتلال؟
جاء تسريب الصورة نتيجة نشوة لحظية من جنود القوة المهاجمة التي تفاجأت بأن السنوار كان أحد المقاتلين الذين اشتبكوا معهم غربي رفح، فنُشرت الصور بتسرع دون الخضوع إلى الرقابة الإسرائيلية المعتادة، وقطعت الطريق أمام حكومة “نتنياهو”، وجيشه وأجهزة أمنه، عن تصدير روايتهم حول الحادث، وخلق الادعاءات المضخمة حول قدرة “إسرائيل” على الوصول إلى كل أعدائها بقدراتها الاستخباراتية الفائقة ويدها الطولى، وحرم “نتنياهو” من صورة النصر التي بحث عنها باستماتة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتعتبر طريقة استشهاد السنوار هزيمة للاحتلال وضربة قوية لمنظومته الأمنية، والتأكيد مجددًا أن أسطورة الاستخبارات الإسرائيلية ليست سوى أضحوكة لمن يفهمها جيدًا ويفككها ويعرف كيف يبتدع وسائل مواجهتها.
ولشهور طويلة، عمل الاحتلال على استثمار كل أدواته في التحريض على قائد “طوفان الأقصى” ومهندسه، ومحاولة تأليب الحاضنة الشعبية ضده، وتصويره وكأنه يعيش في نعيم الأنفاق تاركًا أبناء شعبهم يذوقون الموت والدمار والجوع والنزوح، واستخدمت “إسرائيلُ” في حملتها كل الأدوات، وأساليب الدعاية والهندسة الاجتماعية، كما جندت كل الأبواق في هذه المحاولة البائسة.
لكن بعد عام من المواجهة، حطم السنوار هذه الحملات وأبواقها، وحوَّل استشهاده إلى درس جديد في الإقدام، ونموذج القيادة الذي يجب أن يكون، ليكون أول قائد سياسي في الموقع الأول لفصيله يرتقي شهيدًا مشتبكًا مع الاحتلال.
السنوار نهج وليس شخصًا
يدور في ذهن الجميع تساؤل كبير: هل سيغلق استشهاد يحيى السنوار مرحلة مفصلية عكف الرجل على تدشينها وتثبيت قواعدها، قدَّم خلالها شكلًا جديد من حضور حركة حماس، ومن فعل المقاومة وتأثيرها، واستراتيجيتها التفاوضية؟
الإجابة بوضوح أن السنوار لم يعتمد على نمط القيادة الفردانية، بل ساد العمل المؤسسي داخل حركة حماس، والشراكة الوطنية في العمل المشترك مع فصائل وقوى المقاومة، عمل من خلالها السنوار على تثبيت أسس وقواعد استراتيجيته ضمن منهج عمل جماعي انعكس على كل المشهد في قطاع غزة، وعبره إلى سياسة الحركة وعلاقاتها السياسية الداخلية والإقليمية.
من حيث المبدأ، تقوم حركة حماس على نهج مؤسساتي رسخته عبر عقود من التحديات، وازدادت صلابته بفعل عمليات الاغتيال التي طالت العديد من قياداتها، بما في ذلك اغتيال الشيخ أحمد ياسين واغتيال إسماعيل هنية، وبفضل هذا النهج، تمكنت الحركة من تجاوز الضربات التي استهدفت رأس الهرم، ما يضمن استمرار العمل المؤسسي فيها دون خوف على سلامته.
أما عن استمرار النهج الذي خطَّه يحيى السنوار، فالأمر كان واضحًا بلا مواربة، حين اختارته حركة حماس قائدًا للحركة بالإجماع خلفًا للشهيد إسماعيل هنية، وهو ما يعني أن الحركة بأكملها اختارت نهج واستراتيجية السنوار نهجًا لها، ودربًا في المواجهة وفي السياسية، وفي العلاقات الوطنية والإقليمية.
على الرغم من الحزن العميق الذي يخيم على الشعب الفلسطيني، فإن استشهاد السنوار سيكون دافعًا إضافيًا ومحفزًا لتعزيز التماسك والصلابة في صفوف المقاومة الفلسطينية، فطريقة استشهاد وهو مشتبك في مواجهة مباشرة مع الاحتلال يؤكد التزامه بنهج المقاومة دون تردد، مما يعزز القناعة في داخل حركة حماس وفي صفوف المقاومة الفلسطينية بصوابية الطريق الذي اختاره.
استشهاد أبو إبراهيم يُنظر إليه على أنه امتداد لطوفان الأقصى، العملية التي قادها لإعادة صياغة المشهد الوطني والإقليمي،ويعيد إلى القضية الوطنية الفلسطينية زخمها وفعلها وتأثيرها، ويُتوقع أن يستمر هذا الطوفان، وفق رؤية السنوار، حتى استعادة الشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة، فلا الاغتيال يوقف مسيرة شعب، ولا غياب القادة يردع مقاومة ويوقف حزبًا عن درب المواجهة.
وفي النهاية، كان أمنية السنوار هي الشهادة، حيث كان يقول: “إن كنا نخشى الموت فنحن نخشى الموت على فراشنا كما يموت البعير، نخشى أن نموت في حوادث الطرق أو بجلطة دماغية أو بسكتة قلبية، لكننا لا نخشى أن نقتل في سبيل ديننا ووطننا ومقدساتنا، ودماؤنا وأرواحنا ليست أغلى من دماء أصغر شهيد قدم روحه”.