التماسك الاجتماعي والمحبة، والألفة والتعاون، والعقلانية المنقطعة النظير، والهدوء واحترام الآراء، والتفاعل الإيجابي مع الأصدقاء في مشاكلهم وفي فرحهم وحزنهم، كل تلك القيم نشاهدها يوميًا ولا نشهدها، نقرأها ولا نقربها، نرمقها بعيوننا ولا نروقها بأفئدتنا بل تبقى حبيسةً في صفحات فيسبوك دون أن نلمسها على أرض الواقع، لتبقى مجرد منشور يحصد مئات التعليقات و”اللايكات” من المعجبين والمعجبات.
لكن ماذا لو تمثلنا تلك الآراء في الواقع؟ ألن تنال إعجابًا أكبر عند الناس؟ ألن تكون لها ثمار أكثر ممَّا لو بقيت سطورًا مكتوبة تفتح بابًا واسعًا لما يسمى بـ”النفاق الإلكتروني”.
النفاق الإلكتروني هو أن يمتلك المرء شخصيتين: واقعية وأخرى إلكترونية بينهما اختلاف واختلال في التفكير والتطبيق، وهو بذلك ربما يكون أقرب إلى الانفصام من النفاق، فكثيرٌ منَّا يتفاجأ بمنشورات إيجابية لا تعبر عن شخصيات أصحابها في الحياة الواقعية، فمن أين ينتج الاختلاف؟ ولماذا يصعب التطبيق؟
الوعي المجتمعي موجود إلى حدٍّ ما، لكنه بلا تطبيق فعلي واضح
كل الاستبداد والقمع الذي ظهر في الحقبة الأخيرة لا سيَّما في الشرق الأوسط استطاع أن يقيد حرية الإنسان المادية، لكن لا يوجد قيدٌ يمكنه أن يسلب العقل حرية التفكير، ومن هنا وجد الكثيرون جدران الفيسبوك مكانًا مناسبًا و”أكثر أمانًا” لبثِّ فكرهم مقتصرين على بث الأفكار دون تطبيقها، كبعض الصفحات التي تدعو إلى ترسيخ القيم المضادة للحكام والوقوف في وجه الأنظمة المستبدة وغالبًا ما تحمل هذه الصفحات أسماء وهمية.
لكن الاختلاف المقصود هنا هو الاختلاف في الأمور الاجتماعية الجدلية مثل “مسألة العدل والمساواة في المجتمع” و”مسألة تعليم المرأة” و”مسألة حرية الاختيار والتعبير والانتماء والتوجه” ومسائل أخرى نراها مفهومة بشكل إيجابي على منصات التواصل، لكنها غائبة بشكل واضح في مجتمعاتنا، والسبب هو الخوف من نظرة المجتمع إلى صاحب الرأي وهو يخالف العادة والعرف وربما يظهر كمن يبحث عن الطوباوية المثلى.
إذًا الوعي المجتمعي موجود إلى حدٍّ ما، لكنه بلا تطبيق فعلي واضح، فربما تجد 10 آلاف شخص يناصرون رأيًا فكريًا يدعو إلى الحرية في التعبير والرأي والانتماء فتعتقد للوهلة الأولى أن هذا المجتمع حضاري إنساني إلى أقصى حدٍّ وسرعان ما ستمرُّ في عقلك صور التقييد والاستبداد وفرض الآراء على الناس ومحاسبتهم عليها وستستفيق لتجد نفسك في فيس بوك لا في الواقع، ولو طبّق بعض هؤلاء ما يدعون إليه في المجتمع لكان مجتمعنا صورة واقعية للفيسبوك الأزرق بتماسكه وقوة الترابط بين ساكنيه.
مهما بلغت نسبة التواصل الإلكتروني وأهميته لن تتفوق على التواصل المحسوس الواقعي، فلماذا يجب علينا أن نختبئ خلف القناع الأزرق ونكتفي بالقول دون العمل؟
نال فيسبوك شعبية كبيرة بين الناس حتى أصبح ملاذهم من المجتمع يهربون إليه خوفًا من تعقيدات الحياة الواقعية
حقيقةً لا حلّ لذلك سوى التغيير، تغيير الذات ومنهجية التفكير والإيمان بأن مقياس نجاح الفكرة تطبيقها، وإلا فإن كلّ وعي لا يحدث تغييرًا يبقى فارغًا دون أي قيمة.
لا بدَّ أن نذكر التأثير السلبي للفيس بوك المتمثل بتجميد الفكر الإنساني، فالفكرة تموت بعد كتابتها وهذا التأثير يكون أكثر سلبية على فئة الشباب الذين باتوا يكتفون بنشر الوعي دون ترجمته على أرض الواقع ليصل تأثيره إلى أولئك المسحوقين والفئات المضطهدة فكريًا.
نال فيسبوك شعبية كبيرة بين الناس حتى أصبح ملاذهم من المجتمع يهربون إليه خوفًا من تعقيدات الحياة الواقعية، لكن يبقى السؤال حائرًا على شفتي ماذا لوكان مجتمعنا كـ”فيسبوك”؟ هل سنتفاعل مع هذا المجتمع كما نتفاعل مع الفيسبوك ونكسب القيم ذاتها ونترجمها على أرض الواقع؟