حمّى الذهب في السودان.. مَن يسرق الثروة الكبرى؟
الثروات هي سبب سعادة ورخاء البلدان وتقدمها، لكنها قد تكون أيضًا سببًا من أسباب شقائها واحتلالها أو اندلاع النزاعات الداخلية فيها للاستحواذ على الثروات حينما تضعف الدولة، كما هو الحال بالنسبة إلى الذهب في السودان في الوقت الحالي.
هذا المعدن الأصفر اللامع يؤجّج الصراع على السلطة، ويشكّل مصدرًا ماليًا مهمًّا لجنرالات الحرب، فضلًا عن كونه محط أنظار أطراف إقليمية ودولية، ويعزز التدخل في الشأن السوداني، فمن يملك هذا المعدن النفيس؟ وكيف يُستغل؟ ومن يستفيد من عائداته؟
الثروة المنهوبة
يمتلك هذا البلد الممتد من سواحل البحر الأحمر إلى تخوم وسط أفريقيا خريطة من الثروات المعدنية النفيسة التي تعجّ في أرضه، كالنحاس والحديد والكروم والمنغنيز والرخام والحجر الجيري واليورانيوم والميكا، وهي ثروات مهدرة في بلد مقهور يتصارع فيه السياسيون والمسلحون من جيش وميليشيات.
أما عن الثروات الأخرى، فهو النفط الذي يجعل السودان ثالت أكبر مصدِّر له في القارة الإفريقية بعد نيجيريا وأنغولا، وبجانب هذا الذهب الأسود يعتبر السودان ثالث أكبر منتج للذهب في القارة السمراء خلف جنوب إفريقيا وغانا، وهو التاسع بين الدول المنتجة على مستوى العالم.
وتُقدّر الاحتياطيات الاستراتيجية غير المستغلة من هذا المعدن بنحو 1550 طنًّا، في حين تُقدَّر احتياطيات الفضة بـ 1500 طن مع 5 ملايين طن من النحاس، و1.5 مليون طن من اليورانيوم، لكن هذا البلد لم يستهلك إلا 1% فقط من احتياطيات الذهب والمعادن الأخرى وفق تقارير رسمية.
ولك أن تتخيل أن كل هذه الأرقام موجودة في بلد يعيش الآن أسوأ أيامه، ويموت أهله جوعًا، ويعيش ثلثا سكانه تحت خط الفقر، وأصبح موطنًا لأكبر عدد من الأشخاص الذين شردهم الصراع في جميع أنحاء العالم، مع نزوح ما يقرب من 11 مليون شخص بالفعل، منهم 3 ملايين من الأطفال.
ومنذ انفصال جنوب السودان في يوليو/ تموز 2011، فقد الاقتصاد السوداني ثلاثة أرباع عائداته النفطية، و80% من موارد النقد الأجنبي التي كانت تشكّل ركنًا أساسيًا في الاقتصاد، و50% من إيرادات الخزينة العامة.
وبعد ظهور الذهب في عدد من المواقع في ولايات السودان المختلفة، اعتمدت الخرطوم على هذا المعدن كمصدر أساسي لتوفير العملات الأجنبية، إذ تشكل عوائد تصديره قرابة 37% من إجمالي صادرات البلاد الخارجية، وبلغت عائدات تصديره في النصف الأول من العام الماضي نحو 1.3 مليار دولار.
وحسب الإحصاءات الحكومية، بلغ معدل إنتاج السودان من الذهب حوالي 100 طن في العام، يصل ما يتم تصديره منها ما بين 20 إلى 30 طنًّا في أفضل الأحوال، في حين يشترى بنك السودان حوالي 8 أطنان فقط.
وتقول تقديرات المعدنين إن الإنتاج الفعلي يتراوح ما بين 230 و240 طنًّا، وهذا يعني أن المعدل التقديري لما يُفقد من الذهب يتراوح بين 100 و130 طنًّا سنويًا، ويذهب هذا الفارق في الكمية التي تُقدَّر بمليارات الدولارات في متاهة تبدأ التفافاتها من نقطة البحث عنه.
ويتم إنتاج الذهب في السودان عبر طريقتين، أولها التعدين التقليدي أو الأهلي الذي يمثله المعدِّنون التقليديون، وهؤلاء قد يكونون أفرادًا أو شركات صغيرة، ويحققون نسبة إنتاج تصل إلى 85%، ويشتري البنك المركزي الذهب منهم بأقل من سعر السوق، لذلك يكشفون عن كميات قليلة من إنتاجهم، ويخفون الباقي لبيعه بسعر البورصة العالمية، وهذه أول خطوة في الضياع.
وينشط التعدين التقليدي للذهب في معظم أنحاء السودان، حيث يتمركز في 14 ولاية من بين 18 ولاية، ما يجعل السيطرة عليه شبه مستحيلة، ويصعب ضبط ومراقبة إنتاج المعدِّنين التقليديين الذين تعاني مناطق عملهم من إهمال تام، فرحلة البحث عن الذهب ليست سهلة كما يظنها البعض، حيث يتعرض الكثير منهم لإصابات خطيرة أثناء العمل ولدغات الأفاعي والعقارب.
والمؤسف أن العاملين في التعدين التقليدي، والكثير منهم أطفال، يستخدمون الزئبق السام لاستخراج الذهب، ما يعرض صحتهم للخطر الشديد، كما يتسبّب نشاط التجار في التنقيب عن الذهب في تلوث المياه والأرض وتدهور الزراعة وارتفاع أسعار الغذاء، لتكتمل بذلك أضلاع مثلث الألم: الفقر والحرب والموت.
الطريقة الثانية لإنتاج الذهب هي التعدين المنظَّم أو الرسمي، ويمثلها المعدِّنون غير التقليديين من الشركات الكبيرة، ويصل إنتاجهم إلى 15% من إجمالي الذهب المستخلص، وهذا يجعل نسبة استفادة الدولة من التعدين التقليدي أكبر من التعدين الرسمي الذي يتم عن طريق شركات تتلاعب في أرقام الاستخراج، وتهرّب الكثير منها خارج البلاد.
ويصل عدد هذه الشركات إلى 243 شركة، منها 11 شركة امتياز، لكن 70% من عوائد صادراتها لا يدخل إلى البلاد أصلًا، ولمدة 25 عامًا كاملة، وذلك لأن شركات الامتياز تعاقدت مع الحكومة على هذا الشرط، ولم يتمكن البنك المركزي من فعل شيء، بل ألغى قرار مجلس الوزراء رقم 455، القاضي بإعادة الصادر للبنوك المحلية.
وتدّعي الحكومة أنه يمكنها ضبط مصادر إنتاج الذهب وحصرها عبر عدد من الخطوات العملية تنتهي بنصيب الدولة من هذا الإنتاج، لكن يكفي أن شركات الامتياز هذه مملوكة لشخصيات نافذة في الدولة، بينهم أخوة الرئيس المخلوع عمر البشير الذي حكم لمدة 30 عامًا، ووفقًا لتحقيق لموقع “ميدان“، صدَّرت هذه الشركات ذهبًا بقيمة 6.5 مليارات دولار بين عامي 2011 و2018، لكن معظم هذه الأموال لم يسد رمق الاقتصاد الذي يعاني من أزمات وتعقيدات.
وتوسعت دائرة التنقيب عن الذهب بأرض السودان في عدد من الولايات التي تزخر أرضها بالمعادن، لكن الحرب قلصت من دائرة الإنتاج إلى 6 ولايات أبرزها ولاية نهر النيل وجنوب كردفان والبحر الأحمر، ويعمل في هذا القطاع أكثر من 3 ملايين مواطن (مليون عامل بجانب مليونين من المعدِّنين) في قرابة 800 موقع في أنحاء السودان كافة، لا تقوم الدولة بإنتاج هذا المعدن إلا في 73 موقعًا منها.
ومن خلال الفساد والمعاملات غير الشرعية، فقدَ السودان مليارات الدولارات التي كان بإمكانها أن تسهم في تحسين الاقتصاد الوطني الذي يعاني، وخاصة هذه الأيام، من تراجع في عملته الوطنية التي فقدت أكثر من 50% من قيمتها مقابل العملات الأجنبية، وبخلاف ذلك، وفّر الذهب للأطراف المتنافسة -سواء المحليين أو الأجانب- الوسائل المالية لبدء الحروب.
حميدتي.. إمبراطور الذهب
يأتي الذهب في مقدمة المعادن التي تؤجّج قلب الصراع الدائر على الأرض، حيث تتناحر شركات تعدين تابعة للحكومة السودانية وشركات أخرى تابعة للجيش، لكن أبرز الشركات وأكبرها تلك التابعة لقوات الدعم السريع، هذا إضافة إلى شركات من دول أخرى مثل الصين وكندا وفرنسا وأستراليا وروسيا، ويقدَّر عدد الشركات الدولية بنحو 140 شركة.
وتقع نسبة كبيرة من نشاط تعدين وتجارة الذهب وتصديره تحت سيطرة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، تاجر الإبل السابق والمعروف باسم “حميدتي”، الذي برز اسمه لأول مرة في عام 2003 كأحد قادة ميليشيا “الجنجويد” التي شاركت في قمع متمردي إقليم دارفور في صراع أودى بحياة نحو 300 ألف مدني، وشرَّد مليونين آخرين من ديارهم قبل 20 عامًا.
ويُنظر إلى قوات الدعم السريع على أنها قوة فاعلة على الأرض منذ سنوات، ومستقلة تسليحًا وتمويلًا، ولها نفوذ عسكري وسياسي واقتصادي، وعلاقات متشعّبة داخليًا وخارجيًا، وتملك من الأموال إلى حدّ دعا قائدها حميدتي إلى ادّعاء أنه دعم الدولة بأكثر من مليار دولار من تجارة الذهب والأموال المدفوعة لقوات الدعم السريع من الخليج.
وتنامت ثروة حميدتي بشكل فعلي بعد سيطرة قواته على العديد من مناجم الذهب في السودان بعد أن أصبح قريبًا من عمر البشير، الذي أعطى حميدتي حرية التصرف لبيع أغلى موارد السودان الطبيعية عندما كان اقتصاد السودان ينهار في عام 2018، مقابل تسليم حميدتي بعض عائدات صادراته إلى الدولة لدفع ثمن مشتريات الحكومة من الوقود والقمح.
وجاء صعود حميدتي في عهد البشير مصحوبًا بمكافآت أخرى، فقد سُمح له بالعمل باستقلالية ودرجة كبيرة من الإفلات من العقاب، واستولت ميليشياته على مناجم جبل عامر بالكامل، أحد أكثر مناجم السودان ربحيةً، في عام 2017، ولم يواجه سوى عقبات قليلة أثناء توسيع عملياته من دارفور إلى جنوب كردفان ومناطق أخرى من البلاد.
وعلى الرغم من إنكار حميدتي سيطرته على منابع أحد أكثر أصول السودان قيمة وإثارة للجدل، إلا أن سبق أن تحدث علانية عن امتلاكه لمصالح في الذهب، وكان آخرها في مقابلة مع “بي بي سي” في أغسطس/ آب 2019. وقال حينها عن علاقته بحُمَّى الذهب في البلاد: “لست أول رجل يمتلك مناجم ذهب، ولا يوجد ما يمنعنا من العمل في الذهب”.
وتبلور تنامي ثروة حميدتي وعائلته أكثر في شكل شركة “الجنيد” للأنشطة المتعددة المحدودة التي يترأّس مجلس إدارتها شقيق حميدتي، عبد الرحيم دقلو، الذي يشغل أيضًا منصب نائب رئيس قوات الدعم السريع، بينما يحمل حميدتي منصب عضو في مجلس إدارة الشركة التي يُقال إنها تعمل في مجالات تتراوح من النقل والبناء، إلى إدارة المناجم في دارفور وجنوب كردفان، وكلها تحت حراسة قوات الدعم السريع.
ومع المطالبات بوضع جميع ثروات السودان الطبيعية تحت سيطرة الدولة، اشترط آل دقلو أواخر عام 2020 للتنازل عن شركة “الجنيد” التي تسيطر على التنقيب عن الذهب لوزارة المالية، الحصول على 34% من شركة “سودامين” الحكومية للتعدين، والتي تديرها وزارة المالية بالاشتراك مع البنك المركزي.
وفي يونيو/ حزيران 2023، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على شركات مرتبطة بالعسكر لدورها في تغذية طرفَي النزاع في السودان، وجاء في مقدمتها شركة “الجنيد” التي قال مكتب مراقبة الأصول الأجنبية إنها “تحقق إيرادات من النزاع في السودان وتساهم فيه”.
ويُشير بيان وزارة الخزانة الأمريكية إلى شركة “الجنيد” على أنها شركة سودانية قابضة يقع مقرها في الخرطوم، وتدير 11 شركة تابعة عبر قطاعات اقتصادية متعددة، بما في ذلك صناعة تعدين الذهب وتصديره، التي أصبحت مصدرًا حيويًا لثروة عائلة دقلو وقوات الدعم السريع، واستخدم تلك الثروة لتعزيز مكانته الرائدة في النظام السياسي الكليبتوقراطي في السودان.
ومنذ سيطرة قوات الدعم السريع على مناجم الذهب في جبل عامر، شهدت عمليات التنقيب التي تقوم بها قوات حميدتي تطورًا وتوسعة غير مسبوقَين، حيث تُظهر صور الأقمار الاصطناعية بين عامي 2017 و2020 طفرة في عمليات الحفر وتلال الرمال والحفر الكبيرة، مع تزايد عمل قوات الدعم السريع في عمليات تنظيف وتنقية الرواسب لاستخراج الذهب من أماكن بعيدة عن مركز المنجم تبعد 4 كيلومترات تقريبًا.
وكانت شركة “الجنيد” تستغل عمال المناجم الفقراء المعرّضين للمخاطر الصحية، وأدَّت هذه الممارسات أحيانًا إلى دخول الشركة في صراع مع السكان المحليين، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أشعل سكان مدينة تالودي في جنوب كردفان النار في مصنع تابع لشركة “الجنيد”، متهمين الشركة بنهب ذهبهم وتلويث تربتهم.
وكشف تحقيق لوكالة “رويترز” أن مجموعة “الجنيد” تجاوزت في بعض الأحيان قيود البنك المركزي على صادرات الذهب، وفي أحيان أخرى باعتها للبنك المركزي بسعر تفضيلي.
ووفقًا للوكالة، أظهرت فواتير الشحن الجوي أنه على مدى فترة 4 أسابيع من نهاية عام 2018، تعاملت شركة “الجنيد” مع طرف واحد في دبي، وهي شركة تسمّى “روزيلا”، وأرسلت حوالي 30 مليون دولار من سبائك الذهب إلى دبي، يبلغ مجموع وزنها طنًّا تقريبًا، في وقت كان فيه حميدتي يتهم رجال البشير بالتربُّح على حساب الشعب.
ووفق تحقيق لمنظمة “غلوبال ويتنس”، هناك شركتان تعملان واجهة للحوالات المالية التي تتلقاها وترسلها قوات الدعم السريع: شركة “جي إس كي أدفانسد” للتكنولوجيا والأمن، ومقرها السودان، وشركة “تريديف” للتجارة العامة، التي خضعت العام الماضي للعقوبات الأمريكية بسبب استخدامها كغظاء لشراء معدّات لقوات الدعم السريع.
عاجل | بلينكن: فرضنا عقوبات على شركة تريدف للتجارة العامة التي تستخدمها قوات الدعم السريع لشراء معدات لقواتها
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) June 1, 2023
وتمثل شركة “تريديف”، التي تتخذ من الإمارات مقرًّا لها، إحدى واجهات قوات الدعم السريع، ويديرها القوني حمدان دقلو، شقيق حميدتي، وتتجلى دورها في تغذية الصراع في ضخّ ملايين الدولارات لشراء أسلحة ومركبات لقوات الدعم السريع التي تجوب الشوارع بقذائف صاروخية ومدافع رشاشة مثبتة على سيارات جيب.
وتظهر الوثائق المصرفية امتلاك قوات الدعم السريع حسابات باسمها في مصرف أبوظبي الوطني، كانت تظهر الأوراق الائتمانية الخاصة بشركة “تريديف” تسلمها 11 مليون دولار من حساب قوات الدعم السريع على 4 دفعات بين أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 2019.
بناءً على ذلك، تؤكد التسريبات أن غرض شركة “تريديف” هو توفير غطاء تجاري لتحويل الأموال إلى قوات الدعم السريع، بينما تستخدم شركة “جي إس كي” الحوالات المالية لتأمين المشتريات العسكرية والأمنية اللازمة.
ووفقًا لمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، تحوَّل التصدير غير المشروع للذهب إلى مصدر رئيسي لتمويل الحرب وشراء الأسلحة، وأصبح قائد قوات الدعم السريع، بحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واحدًا من أغنى الشخصيات في السودان بسبب مناجم الذهب التي سيطر عليها هو وعائلته.
وساهمت شبكة غسيل الأموال الدولية التي أنشأها حميدتي في إطالة عمر الحرب المستمرة منذ نحو 18 شهرًا، ومكَّنته عمليات تهريب الذهب من شراء أسلحة حديثة ومتطورة مثل مدافع هاوتزر وأنظمة الصواريخ متعددة الإطلاق والطائرات بدون طيار، إضافة إلى صواريخ أرض جو المحمولة على الكتف، وكل هذا من عوائد الذهب.
وإلى جانب الذهب، تستفيد قوات الدعم السريع من أموال الاتحاد الأوروبي الرامية إلى وقف تدفق المهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا، فبحسب تقرير صادر عن مركز الأبحاث الهولندي “كلينغينديل”، في سبتمبر/ أيلول 2018، فإن الاتحاد الأوروبي خصّص 160 مليون يورو على الأقل للسودان بين عامي 2016 و2018.
وتعترض قوات الدعم السريع آلاف المهاجرين على الحدود السودانية، بل تهرِّب بعضهم إلى ميليشيات في ليبيا بحسب تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز“، كشف أن قوات الدعم السريع تشارك في الاتجار وتهريب البشر عبر الحدود الغربية والشمالية الغربية للصحراء بين مصر وليبيا وتشاد.
الإمارات.. المستفيد الأكبر
على مدى العقد الماضي، فتحت الإدارة الخاطئة وتفشي الفساد والاضطرابات السياسية الباب لعمليات تهريب الذهب التي انتشرت بصورة كبيرة، وحالت دون الاستفادة من تلك الثروات التي لم تُستغل بالصورة المثلى منذ استقلال السودان عام 1956.
وتشهد المنافذ البرية والجوية السودانية بصفة مستمرة عمليات تهريب الذهب المستخرج عن طريق المعدِّنين التقليديين، وازدادت وتيرة هذه العمليات مع تردي الظروف السياسية والاقتصادية، حيث وصل الفرق بين المنتَج من الذهب في السودان والمصدَّر إلى الخارج ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار سنويًا.
ووفق تقرير أممي في سبتمبر/ أيلول 2021، فقدَ السودان قرابة 267 طنًّا من الذهب عن طريق التهريب، وكشف التقرير نصف السنوي لوزارة المعادن السودانية في عام 2018 أن ما فُقد من الذهب بلغ 48.8 طنًّا، بنسبة وصلت في بعض الأحيان إلى 80% من إجمالي الإنتاج دون أن تدرَّ عوائدها فلسًا واحدًا على جيوب السودانيين.
وترى دول عربية فرصًا مغرية بشكل خاص لاستغلال الموارد الطبيعية في السودان، فقد أصبحت الإمارات على وجه التحديد وجهة للذهب المستخرج من المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، ووجد تحليل للأمم المتحدة أنها تساعد قوات حميدتي من خلال تلقي الذهب الذي تهرّبه الشركات الخاضعة للعقوبات بشكل غير مشروع خارج السودان.
ومع تزايد دور حميدتي في تجارة الذهب، تعمّقت علاقاته مع قادة أبوظبي، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، استفاد بشكل كبير من الحرب في اليمن بوصفه أمير حرب، ووفَّرت له الحرب مصدرًا قيِّمًا آخر للإيرادات، فقد جنَّد مقاتلين من دارفور كمرتزقة في اليمن، وقاتل الآلاف من قوات الدعم السريع هناك لصالح السعودية والإمارات ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
وتتحدث تقارير عن تقديم أبوظبي أسلحة للدعم السريع بدلًا من المساعدات إلى السودانيين، منتهكة بذلك حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، ما أطال أمد الحرب الأهلية، ومكَّن قوات حميدتي -في مرحلة ما من الحرب- من قلب موازين القوى لصالحها في العديد من أجزاء السودان، بما في ذلك الخرطوم وأماكن رئيسية في الشرق.
ووفقًا لوكالة الأنباء السودانية، تعدّ الإمارات أبرز المستفيدين من ذهب السودان، إذ تشتري أكثر من 90% من إنتاجها، ما يجعلها أكبر مشترٍ فعلي للذهب السوداني وفقًا لتصريحات وزير التجارة السوداني الأسبق موسى كرامة، الذي أكَّد أن الكمية المعلن عنها لإجمالي صادرات الذهب في عام 2015 بلغت 70 طنًّا.
في المقابل، وفي العام نفسه، قُدِّرت الكمية التي تم تصديرها من الخرطوم إلى دبي عبر الخطوط الجوية الإماراتية بـ 102 طنّ، وهذا يعني أن السودان لو باع ذهبه كله للإمارات فقط، فهناك زيادة تقدَّر تصل إلى 32 طنًّا غير مذكورة في الإحصاءات.
إذًا هناك ذهب يتم تهريبه إلى الإمارات، وهذا ما يؤكده تقرير لخبراء في الأمم المتحدة صدر عام 2016، وكشف أن الذهب المنهوب من السودان إلى الإمارات ما بين عامي 2010 و2014 بلغت قيمته 4.6 مليارات دولار، وهذا يعني أن قيمة ما يهرّب من ذهب إلى الإمارات تفوق قيمة صادرات السودان من شرقها إلى غربها.
كل هذه الكمية المهرّبة تعبر عبر خطوط تهريب جوية وبرية، وأهمها وأخطرها عبر مطار الخرطوم، وهناك حكايات عن رحلات ليلية إلى الإمارات بطائرات محمّلة بسبائك ذهب بملايين الدولارات، حيث يتم التهريب جوًّا عبر براميل مغلقة بإحكام تعرَّف على أنها عينات رمال، أو من خلال أسطوانات أكسجين معبّأة بالذهب.
وتوجد عمليات تصدير كبيرة للذهب في المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوداني أيضًا، فمنذ بداية الحرب حوّلت القوات المسلحة السودانية وجهتها الرئيسية لتصدير الذهب من الإمارات إلى مصر، وحظيت عمليات تهريب الذهب إلى مصر باهتمام أقل، لكن هذه الصادرات غير المشروعة تساعد أيضًا في إدامة الصراع العنيف.
روسيا.. نهب الذهب
فتح إحكام قبضة حميدتي على الذهب السوداني الأبواب لدخوله لعبة المصالح الإقليمية، إذ تنشب في مناطق التنقيب عن الذهب صراعات عنيفة من حين لآخر، وربما هذا ما دفع صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية إلى القول إن المجموعة الروسية شبة العسكرية “فاغنر” ارتبطت بعلاقات مع حميدتي، حيث عملت شركة “إم إنفست” (M-invest) التابعة لفاغنر في مجال تعدين الذهب بالسودان مع توفير الأسلحة والتدريب للجيش والجماعات شبه العسكرية في البلاد.
وكان حميدتي محوريًا في الترتيبات التي سمحت لروسيا بتجاوز الجهات الرسمية والوصول إلى مليارات الدولارات من الذهب السوداني مقابل حرمان الدولة الفقيرة من مئات الملايين من العائدات، إما عن طريق استيراد الذهب مباشرة أو بالشراكة مع الإمارات لغسله في أسواق الذهب الدولية كمصدر للنقد غير القابل للتتبُّع.
كما سهّلت “فاغنر” عمليات الشراء واسعة النطاق للذهب الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، ووفّرت لهذه القوات مساعدات عسكرية مثل الصواريخ “أرض-جو”. في المقابل، تحقق “فاغنر” -التي ارتبطت بالتعذيب والقتل الجماعي والنهب في العديد من البلدان التي مزقتها الحرب- عوائد تصل إلى أكثر من مليار دولار سنويًا من الذهب السوداني، والذي يتم شراؤه وتصديره بشكل غير قانوني.
وفي يوليو/ تموز 2023، أصدرت لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية في المملكة المتحدة تقريرًا عن دور “فاغنر” سيّئة السمعة في تمويل حرب روسيا في أوكرانيا، فقد بدأ تدخل روسيا في الذهب السوداني بشكل جدّي في عام 2014، بعد أن أدّى غزوها لشبه جزيرة القرم إلى فرض سلسلة من العقوبات الغربية، وأشارت إلى مخططها المتقن لنهب ثروات السودان في محاولة لتحصين روسيا ضد العقوبات الغربية المتزايدة المفروضة عليها.
كما تشير الأدلة إلى أن روسيا تواطأت مع القيادة العسكرية المحاصرة في السودان، ما مكّن من تهريب مليارات الدولارات من الذهب، وفي المقابل دعمت روسيا الانقلاب العسكري في السودان عام 2021، وقدمت دعمًا عسكريًا قويًا لجنرالات الحرب يتراوح بين التدريب والدعم الاستخباراتي إلى الاستفادة المشتركة من الذهب السوداني المسروق، من أجل الحفاظ على وصولها إلى الموارد الطبيعية للسودان.
وأدَّى الارتباط المتزايد بين القادة العسكريين في السودان وموسكو إلى ظهور شبكة معقدة لتهريب الذهب، حيث تتبع شحنات الذهب طريقًا بريًا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث دعمت “فاغنر” نظامًا قمعيًا هناك، ويُقال إنها استخدمت بعضًا من أكثر تكتيكاتها قسوة على سكان البلاد.
وكشفت بيانات اطَّلعت عليها شبكة “سي إن إن” في يوليو/ تموز 2022 عن تهريب الذهب إلى سوريا عبر طائرات شحن عسكري روسية، في رحلات متعددة وصلت إلى ما لا يقل عن 16 رحلة جوية من السودان إلى اللاذقية حيث توجد قاعدة جوية رئيسية لروسيا، في عامي 2021 و2022.
وبحسب تقرير “سي إن إن”، فإن الذهب المهرَّب كان يُستخدم في تمويل “فاغنر” في حرب روسيا على أوكرانيا مقابل المال والعتاد والتدريب العسكري والدعم الاستخباراتي، الذي يُقدَّم لقوات الدعم السريع المنتشرة في جميع أنحاء السودان لحماية مناجم الذهب والمباني الاستراتيجية.
ومنذ عقد على الأقل، أخفت روسيا تعاملاتها مع الذهب السوداني من السجلّات الرسمية، فمنذ عام 2011 تدرّجت إحصاءات التجارة الخارجية للسودان باستمرار إجمالي صادرات روسيا من الذهب من البلاد عند الصفر، لذلك يصعب تحديد الكمية الدقيقة من الذهب الذي هرَّبته روسيا من السودان، رغم الأدلة الوفيرة على تعاملات موسكو المكثفة في هذا القطاع.
وكان بإمكان هذا المعدن أن يكون منقذًا للاقتصاد السوداني وسببًا في إثرائه، لكن ما جرى كان العكس تمامًا، حيث يعجز غالبية السودانيين عن شراء الذهب هذه الأيام، وصار التفريط في هذا المورد سببًا في حرمان السودان من الاستقرار وانقسامه وانكفائه على نفسه حتى تحوَّل إلى بلد منسي.