لا بدّ وأنّك لاحظت سابقًا أنك بمجرد استنشاقك لرائحةٍ ما فستكون، بطريقةٍ تلقائية غير مفهومة أبدًا، على استحضار العديد من الذكريات البعيدة أو التجارب المنسية، بل إنّ الأمر يصل أحيانًا إلى سيلٍ من الذكريات المتدفّقة بصورةٍ سريعة وكثيفة جدًا. رائحة زهر الليمون قد تذكّرك برحلتك المدرسية، رائحة القرفة قد تذكّرك بالكعكة التي كانت والدتك تعدّها، ورائحة التراب المبلّل بالمطر قد تأخذك إلى عشر سنين للوراء، أو ربّما أكثر.
تقودنا هذه الحالات للعديد من الأسئلة فيما يتعلّق بالروائح وحاسّة الشمّ لدينا كبشر. خاصّة إذا علمنا أنّ حاسّة الشمّ لدينا هي الحاسّة الأكثر بدائية من بين كل حواسّنا الأخرى، وهي مرتبطة بأقدم وأعمق أجزاء الدماغ أيضًا. إذ غالبًا ما استخدم الإنسان الأول الروائح كإنذارٍ بدائيّ للسلامة أو الخطر، للصديق أو للعدو.
ما يعني أنّ الروائح لها القدرة على قيادة السلوك، عند البشر والثدييات، على مستوى غريزي ولا واعي. هذا ما تُخبرنا به وجهة النظر التطورية؛ يمكن لرائحة سلبية مثل حيوان ميت أو رائحة الدم المُسال على سبيل المثال أن تحفّز وضع الهروب والقتال. فيما يمكن للرائحة الإيجابية كرائحة الزهور واللحم المشوي أنْ تثير الإحساس بالأمان والرغبة بالتزاوج والاستمرار.
الروائح تتصل مباشرةً بالدماغ، تثير المشاعر والذكريات
على المستوى الفسيولوجي، تقع المنطقة المسؤولة عن الروائح والتي تُعرف باسم البصلة الشمّية أو “olfactory bulbs“، إلى جوار الحُصين، وهو جزء الدماغ المسؤول عن صناعة الذكريات طويلة المدى. وتتّصل تلك البصلة أيضًا باللوزة الدماغية “amygdala” التي تلعب دورًا كبيرًا بالتحكّم في المزاج والذاكرة والعاطفة والعديد من السلوكيّات. وغالبًا ما يُنظر إلى هذين الجزأين باعتبارهما الجزء القديم أو البدائي من الدماغ الذي تطوّر عند الثدييات الأولى.
تتصل الروائح من حولنا مباشرةً بجزأي الدماغ المسؤوليْن عن الذكريات والمشاعر. ما يفسّر لنا سبب ارتباطها بالعديد من المشاعر المختلفة أو قدرتها على استحضار ذكرياتٍ عديدة مرّت عليها فترات زمنية طويلة
وعلى النقيض من الحواس الأخرى، فإنّ المعلومات المتعلقة بالروائح التي نستنشقها تمرّ مباشرةً إلى البصلة الشمّية في الدماغ، فيما تمرّ المعلومات الحسّية الأخرى كالبصرية والسمعية إلى المهاد أو الثلاموس “Thalamus” الذي يعمل كمحطة توصيل بين كثير من المعلومات التي تدخل قشرة المخ وتلك التي تخرج منها.
ومن هنا، نستطيع الاستنتاج أنّ الروائح من حولنا تتّصل مباشرةً بجزأي الدماغ المسؤوليْن عن الذكريات والمشاعر. الأمر الذي قد يفسّر لنا سبب ارتباطها بالعديد من المشاعر المختلفة أو قدرتها على استحضار ذكرياتٍ عديدة مرّت عليها فترات زمنية طويلة والسبب وراء حالات النوستالجيا والحنين التي تدخل بها لمجرّد مرور رائحة مألوفة في الجوّ المحيط بك.
على المستوى الشخصي، تكون الرائحة في غاية الأهمية عندما يتعلق الأمر بالانجذاب بين شخصين، لا سيّما بين الذكر والأنثى. وقد أظهرت الأبحاث أنّ أجسامنا من خلال جينات معيّنة تُنتج روائح خاصة فيها يمكن أنْ تساعدنا على اختيار وجذب شركائنا بشكلٍ لا شعوريّ ولا واعٍ. ويعتقد آخرون أيضًا أنّ القُبلة قد تطوّرت فعليًّا من الشمّ والاستنشاق؛ ما يعني أنّ القُبلة الأولى التي عرفها الإنسان تطوّرت في الأساس كسلوكٍ أوليّ أو بدائيّ لاستنشاق رائحة الشريك لاتخاذ قرار فيما إذا كان مناسبًا أم لا.
أنْ تشمّ ذكريات الماضي
بالإضافة إلى كونها أكثر ارتباطًا بالذاكرة، فالروائح أيضًا قادرة على خلق الانفعالات العاطفية الكثيرة. ولا عجب أنّ التنوّع الكبير في روائح العطور مبنيٌّ على هذه النقطة. حيث يتمّ العمل على تطوير العطور التي تستطيع خلق مجموعة واسعة من العواطف والمشاعر، من الرغبة في الاسترخاء أو الشعور بالهدوء إلى الرغبة بالتحكّم والسُلطة، وما إلى ذلك.
يُخبرنا “تأثير بروست” أنّ ذكريات الماضي المنسية يمكن لها أن تعود مرة أخرى إلى الوعي والشعور من خلال الرائحة والشمّ
في روايته الشهيرة “البحث عن الزمن المفقود“، يصوّر الأديب الفرنسي “مارسيل بروست” قدرة إحدى الشخصيات على استعادة بعض ذكريات الطفولة المنسية بوضوحٍ تامّ بعد استنشاقه لرائحة بسكويت مادلين المغطّس بالشاي. وبتعبيرٍ آخر، يصف بروست بوضوح كيف أن ذكريات الطفولة المنسية يمكن لها أن تعود مرة أخرى إلى الوعي والشعور بكثافتها الأصلية من خلال الرائحة فقط.
استعار الباحثون قصة الرواية هذه ليُطلقوا مصطلح “تأثير الذاكرة البروستية” أو “ Proustian memory effect” للإشارة إلى ذكريات الماضي التي يُمكن استعادتها من خلال الروائح والشمّ. جديرٌ بالذكر أنّ الروائح المرتبطة بالذكريات المؤلمة تكون أكثر فعاليةً من تلك المرتبطة بالذكريات الإيجابية والمريحة. ولهذا فرائحة الدم أو البنزين أو الرصاص قادرة على استدعاء ذكريات الحرب لمن عاشها أو شارك فيها.
باختصار، يمكن أن يظهر تأثير ذاكرة بروست بأشكال عديدة ومتنوّعة، سواء كانت رائحة لطيفة مثل رائحة كتاب قديم يعيدك إلى سنوات شبابك، أو رائحة كعك العيد الذي يذكّرك بطفولتك. أو قد تكون روائح سلبية ومؤلمة مثل ذكريات ما بعد الصدمات والحروب والتجارب السيئة.
فقدان الشمّ والذكريات.. علاقة باتجاهين
نظرًا للارتباط العميق بين الرائحة والعاطفة، فليس من المستغرب أبدًا أن يؤدي حدوث خلل في أحدهما إلى حدوث مشكلات مع الآخر. وبالتالي، ففقدان القدرة على الشمّ غالبًا ما يرتبط باحتمالية الإصابة بالاكتئاب المرَضي، والعكس صحيح. أيْ أنّ المكتئبين فعادةً ما يُظهرون حساسيةً أقل للروائح من غيرهم.
أمّا على مستوى الذاكرة، فقد يكون انخفاض القدرة على الشمّ إشارة مبكرة للإصابة ببعض الاضطرابات العصبية مثل أمراض باركنسون وألزهايمر وهنتنغتون، والتي ترتبط جميعها بالخرَف وفقدان الذاكرة. وبالتالي، يمكن أن يؤثر فقدان الرائحة على قدرة الشخص على تكوين علاقات شخصية وثيقة والحفاظ عليها نظرًا لفقدان الشخص للقدرة على بناء مسار عاطفي مهم للذكريات والعواطف.
الرائحة كأداة استهلاكية: كيف تستغلّ المتاجر حواسّنا؟
فهم الدارسون لعلم التسويق أثر الرائحة جيّدًا في التأثير على الذكريات والعواطف والمزاج، لذلك لا عجب وأنّ معظم المتاجر العريقة تخصّص جمعًا من الدراسين لعلم النفس لتطويع الرائحة وحاسة الشمّ في جذب المستهلكين والتأثير في قراراتهم لزيادة المبيعات وتحقيق أرباحًا أكثر وأعلى.
قاعدة بسيطة باختصار: حواسّنا تتجاوز عقلنا الواعي، قادرة على اختراق ذكرياتنا والتأثير بمشاعرنا. فقد تشمّ رائحة اللافندر وجوز الهند، فيسرح عقلك في تخيّلات الصيف والرحلات. وقد تشمّ رائحة بودرة أطفال، فتشعر بالدفء تجاههم وتتحرّك مشاعرك اللطيفة أكثر وأكثر. كما تميل المتاجر الفاخرة الراقية إلى استخدام العطور الثقيلة التي تشي بسعرها الباهظ، الأمر الذي يجعلك ترى المنتجات أمامك مرغوبة و متميزة. قد تكون ذلك بالفعل، لكنّ الشراء وإنفاق المال هو الفخّ، وما الرائحة سوى إحدى الطرق المعبّدة التي تؤدي إليه.
نحن غير واعين لفكرة أنّنا قد نعود لمتجرٍ ما بسبب رائحته التي أحببناه وجعلتنا نشعر بشعورٍ مريحٍ أو إيجابيّ
يسعى خبراء التسويق إلى استحضار الذاكرة الصحيحة التي تتعلّق بالمنتج للوصول إلى الحالة المزاجية التي تحفّز الإنفاق والشراء. وبشكلٍ لا يصدّق، فما يقارب 75% من العواطف والمشاعر التي نمرّ بها يوميًّا تتأثر بالروائح التي نشمّها. والأكثر غرابةً هو أنّ إحساسنا بالروئح يمتلك طابعًا شخصيًّا للغاية، فلا يوجد شخصان في العالم يستطيعان شمّ الرائحة الواحدة بنفس الطريقة.
هذا يعني أنّ المتاجر تستطيع من خلال هذه الحقيقة خلق تجربة مميّزة وخاصة لكلّ عميلٍ يدخل إليها، ما يشعره بالفعل بأنّ المتجر قادرٌ على تقديم ما هو مميّز. أنتَ تعرف بالتأكيد أنّ الأمر سيزيد من رغبته بالشراء والإنفاق. فوفقا لدراسة أجرتها شركة Nike عام 1990، يمكن لرائحة المتجر أنْ تزيد من رغبة زوّاره في الشراء بنسبة 80٪. وبالمثل، فإن الرائحة المناسبة للعلامة التجارية يمكن أن تشجع المتسوقين أيضًا على قضاء وقتٍ أكثر تصل نسبته إلى 20٪ داخل المتجر مقارنةً بالمتاجر التي لا تستخدم الرائحة المناسبة.
وبما أنّنا غير واعين لفكرة أنّنا قد نعود لمتجرٍ ما بسبب رائحته، يمكننا القول أنّ خبراء التسويق باستعانة علم النفس قد استطاعوا بنجاحٍ منقطع النظير بجعلنا ننقاد إلى خدعة الاستهلاك والتسوق والامتلاك، تمامًا كما تستغلّ حواسّنا الأخرى باهتمامها بلون المتجر وتصميمه ومساحاته والموسيقى والأغاني التي نسمعها فيه وتستطيع بدورها إثارة عواطفنا وذكرياتنا والتحكّم بقرارتنا وسلوكيّتنا الشرائية والاستهلاكية.