في خضم الحرب المشتعلة بالجنوب اللبناني، تتجه الأنظار الإسرائيلية نحو الجبهة السورية، وتحديدًا في المنطقة العازلة بالجولان السوري المحتل، إذ يبدو أن الجانب الإسرائيلي يتجه إلى توسيع عملياته البرية هناك ضد “حزب الله”.
وكالة “روتيرز” كانت قد أكدت، الثلاثاء الماضي، أن الجيش الإسرائيلي أزال ألغامًا أرضية وأقام حواجز جديدة على الحدود بين مرتفعات الجولان المحتلة وشريط منزوع السلاح على الحدود مع سوريا، إضافة إلى تحريكه السياج الفاصل بين المنطقة منزوعة السلاح نحو الجانب السوري وحفر المزيد من التحصينات في المنطقة، ما يشير إلى زيادة احتمال توسع عملياته البرية ضد “حزب الله” اللبناني.
وأضافت الوكالة نقلًا عن جندي إسرائيلي في الجنوب السوري، أن “إسرائيل تبدو كأنها تعمل على إنشاء منطقة عازلة في المنطقة منزوعة السلاح، كما أن تحركاتها تأتي لمنع أي تسلل في حال اشتعال هذه الجبهة”.
من جهتها، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن خطة لإنشاء ما وصفته بـ”حاجز بري كبير” يتضمن سياجًا مزدوجًا وكومة من التراب والخنادق، على الحدود مع سوريا، ليصعّب الطريق على “الإرهابيين” الذين سيحاولون دخول “إسرائيل” في المستقبل.
التوغل الإسرائيلي المتواصل داخل الجنوب السوري اقترب من بلدة “الأصبح” الحدودية في منطقة فض الاشتباك مع الجولان السوري المحتل، في 14 الشهر الجاري، وقد شاركت فيه عدة آليات منها جرافات مصفحة وحفارات مصحوبة بقوة عسكرية مؤلفة من أربع دبابات وقرابة 50 عنصرًا، تبعه قصف الأحراش الزراعية قرب بلدة حضر في ريف القنيطرة الشمالي بالمدفعية، وذلك بعد رصد تحركات لمجموعات محلية موالية لإيران في المنطقة.
وقد سبقت عملية التوغل هذه عملية أخرى قبل ثلاثة أيام، قرب بلدة كودنة، حيث جرفت القوات الإسرائيلية أيضًا الأراضي الزراعية وضمتها إلى الجانب الإسرائيلي عبر وضع شريط شائك، الأمر الذي دفع إعلام النظام السوري إلى نفي أيّ توغل إسرائيلي، مؤكدًا في الوقت ذاته أن “سكان القرى في القنيطرة يمارسون حياتهم بشكل آمن”.
“التوغلات الإسرائيلية تعود إلى التخوف الإسرائيلي من إسناد الجبهة السورية سواء من قوات النظام أو الميليشيات الإيرانية وتوظيف انتشارها ضد “إسرائيل” بالتزامن مع ما يجري في جنوب لبنان وإمكانية تطوير العمليات البرية المحدودة إلى عملية واسعة”، يقول الباحث العسكري في مركز جسور للدراسات، رشيد حوراني.
مشيرًا إلى أن ما تقوم به “إسرائيل” يمثل تحصينات استباقية تقطع بموجبها أي عمليات ضدها، وتمكّنها من منع عمليات التسلل لمجموعات المشاة باتجاهها، خاصة أن الجيش الإسرائيلي يسيطر على كل المرتفعات في المنطقة، وبإمكان مجموعات المشاة عبر آليات الإخفاء والتمويه العسكرية التسلل إلى مناطق الاحتلال الإسرائيلي في الجولان.
مطالب باحتلال “جبل الشيخ”
في 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نقلت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية مطالبة رئيس حزب “إسرائيل بيتنا”، أفيغدور ليبرمان، باحتلال الجزء السوري من جبل الشيخ، عند الجولان المحتل “لمنع أي هجوم وعقابًا للنظام السوري على جعل سوريا قاعدة لوجستية لأعداء إسرائيل”، على حد تعبيره.
وقال عضو الكنيست: “الجيش الإسرائيلي سيقوم بكل بساطة باحتلال الجزء السوري من جبل الشيخ، ولن ينسحب منه حتى إشعار آخر، والرسالة يجب أن تصل للأسد بكل بساطة، في وسائل الإعلام العامة، أو في القنوات الاستخبارية والدبلوماسية، أو عبر إجراء محادثة مباشرة معه”.
لا تعد دعوة ليبرمان باحتلال جبل الشيخ الأولى، بل سبقه بذلك ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل” الذي وصف جبل الشيخ بـ”أبو المياه” والنافذة الاستراتيجية، طامحًا إلى احتلاله بالكامل منذ قيام الكيان الإسرائيلي، باعتباره مصدرًا مهمًا وحيويًا وخزانًا مائيًا يغذي جوف منطقة الجولان وأجزاءً من القطاع الشرقي لجنوب لبنان وسهل الحولة في فلسطين والتي تبلغ مساحتها 165 ألف دونم، فضلًا عن بحيرة طبريا (بحيرة الجليل).
في شهر يوليو/تموز الفائت، وللمرة الأولى منذ حرب منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، استهدف “حزب الله” مركز استطلاع (مرصد التزلج الشرقي) في جبل الشيخ عبر مسيرات انقضاضية، وعلى الرغم من استهدافه مناطق أخرى في مرتفعات الجولان السورية المحتلة مرارًا وتكرارًا، فإن هذه المرة هي الأولى التي يضرب فيها الحزب هدفًا عسكريًا يقع على أعلى ارتفاع في الجولان، إذ أشار حينها إلى أن الاستهداف هو “أكبر عملية للقوات الجوية بالحزب” منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الفائت.
تعد جبهة جبل الشيخ جنوب سوريا من الجبهات الهادئة، ونادرًا ما يتناولها النظام عبر إعلامه، فبعد أكثر من نصف قرن على آخر المعارك بين الجانبين السوري والإسرائيلي خلال حرب 1973 استعرض النظام السوري في شتاء 2021 صورًا لعناصر من قوات النظام، أظهرت حينها العناصر في مراصد تابعة لهم في الجبل المغطى بالثلوج.
مؤخرًا جمّد نظام الأسد كل النشاطات العسكرية لميليشيات إيران و”حزب الله”، في المنطقة المحاذية للحدود مع الجولان المحتل، إضافة إلى تشكيله برفقة القوات الروسية دوريات على مواقع الميليشيات الإيرانية، في عدة مناطق بسوريا، لرصد نشاطات الميليشيات، ومنع أي إزعاج من شأنه أن يغضب الجانب الإسرائيلي الذي لطالما يهدد بعمليات اجتياح واسعة في حالة عجز النظام عن ضبط الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” الموجودة هناك.
حسب حديث الباحث حوراني، فإن أعمال “إسرائيل” الأساسية لتهيئة ممرات لقواتها عبر الأعمال الهندسية تأتي قبل تنفيذ أي هجوم بري إسرائيلي، بهدف تأمين دخولها من الأراضي السورية إلى الأراضي اللبنانية شرق نهر الليطاني، وقطع التواصل بين البقاع والجنوب، ولهذا يحتاج الجيش الإسرائيلي للتدخل في مناطق الجنوب والجنوب الغربي لسوريا.
أهمية جبل الشيخ
يعد جبل الشيخ أهم مرتفعات الجولان، وأعلى قمة في جبل حرمون الذي تمر في وسطه الحدود الفاصلة بين سوريا ولبنان، ويبلغ ارتفاع هذه القمة 2814 مترًا، ويشكل القسم الأهم والأكبر من سلسلة جبال لبنان الشرقية التي تمتدّ بين لبنان وسوريا.
ينفصل عن بقية السلسلة الجبلية الشرقية للبنان بواسطة ممرات جبلية طبيعية عريضة، أما الحدود الفاصلة فعليًا هي رؤوس القمم، حيث يعتبر مقلب المياه الشرقي سوريًا، والمقلب الغربي لبنانيًا بما يحتويه من مزارع شبعا ومرتفعات كفرشويا والجزء اللبناني من بلدة الغجر.
ويمتد جبل الشيخ من بانياس السورية وسهل الحولة في الجنوب الغربي إلى وادي القرن ومجاز وادي الحرير شمال شرق، فيما يحدّه من الجهة الشرقية والجنوبية منطقة وادي العجم وهضبة الجولان وإقليم البلان، أمّا من الجهة الشمالية والغربية فالقسم الجنوبي من سهل البقاع ووادي التيم في لبنان، ويقع القسم الجنوبي الغربي من جبل الشيخ تحت الاحتلال الإسرائيلي لأنه يقع ضمن هضبة الجولان السورية.
ويطل الجبل من أعلى قمته على العديد من الدول مثل الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، فيمكن للزائر إذا كان على أعلى قمته التي تصل إلى 2814 مترًا والتي تقع على الحدود اللبنانية السورية أن يرى العديد من مناطق السورية كدمشق وبادية الشام والجولان وسهول حوران، كما يمكن مشاهدة جزء من الحدود الشمالية الأردنية والفلسطينية خاصة جبال الخليل ومحافظة إربد وبحيرة طبريا وسهل الحولة، بالإضافة إلى كل من جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع.
من الناحية العسكرية يتمتع جبل الشيخ بأهمية استراتيجية قصوى، لارتفاعه الذي يجعله مركزًا للرصد، إذ يشرف موضعيًا على كل الأراضي المحيطة به حتى الأفق، فمن هذا المرتفع يمكن القيام بأعمال المراقبة بالنظر وبوساطة أجهزة المراقبة البصرية وعشرات الكيلومترات ورصد كامل الاتجاه العملياتي لدمشق- القنيطرة، وكذلك لمناطق نوى، درعا، القنيطرة، الصنمين، قطنا، ضواحي دمشق الجنوبية، كما يمكن متابعة كل التحركات العسكرية وتصحيح نيران المدفعية وضربات الطيران.
وتسمح محطات الرادار والمراقبة في قمة جبل الشيخ بكشف الطائرات التي تطير على ارتفاعات منخفضة منذ لحظة إقلاعها من المطارات الموجودة في منطقة دمشق وجنوبها، لا سيما أنه يبعد عن العاصمة دمشق 38 كيلومترًا.
ويخضع جبل الشيخ حاليًا لسيطرة الأمم المتحدة، فيما السفح الغربي تسيطر عليه “إسرائيل”، والسفح الشرقي تحت السيطرة السورية وتتمركز فيه قطع عسكرية للفرقة 14 قوات خاصة، وقطع لجيش التحرير الفلسطيني.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول العقيد المنشق مالك الكردي، “إن احتلال جبل الشيخ كاملًا من قبل الإسرائيليين معقد، لكن احتلاله بظروف الضعف الحالية التي يعانيها النظام سهل، كما أن احتلاله يعني احتلال عدة قرى سورية تقع على قاعدة الجبل الشرقي مع سيطرة رصد مستمر وكامل للجبهة الشمالية تصل إلى عمق كبير كأطراف البادية وجبال القلمون الغربية وسهل البقاع في لبنان مع سيطرة نارية بالمدفعية تصل إلى جميع أحياء مدينة دمشق الغربية والقصر الجمهوري، ومن خلال هذا الارتفاع تستطيع إسرائيل تتبع كل التحركات العسكرية على مناطق واسعة جدًا كمتابعة حركة التجمعات والآليات العسكرية وحركة الأفراد والتعامل الناري المباشر معها بالمدفعية والصواريخ، ما يقلل من احتياجها للقيام بطلعات جوية لتحقيق أهدافها”.
المياه ومنع التهريب
ينبع نهر الأردن من جبل الشيخ، ويتدفق جنوبًا نحو شمال فلسطين إلى بحيرة طبريا، ثم يخرج منها، ويتدفق لتقع فلسطين على ضفته الشرقية، ويقع الأردن على الضفة الغربية منه، ليصب في النهاية بالبحر الميت، لذا تعتبر “إسرائيل” جبل الشيخ ورقة رابحة للتحكم في النهر وتهديد مصادر المياه العربية خاصة أن مسألة المياه شكلت أهمية كبيرة في فكر الحركة الصهيونية، وذكر مؤسس الحركة الصهيونية، تيودر هيرتزل، في كتابه “الأرض الجديدة.. الأرض القديمة”، الذي تدور أحداثه في المستقبل الممكن: “إن وجود إسرائيل متوقف على وجود الموارد المائية، وإنشاء إسرائيل يحتاج إلى خطط مائية توفر الكميات اللازمة للزراعة والصناعة ومياه الشرب، لذا وضع مخططو إنشاء إسرائيل أنهار الأردن واليرموك والليطاني نصب أعينهم”.
ويضم جبل الشيخ الذي يحتل مكانة كبيرة في الفلكلور اليهودي أربع قمم، أعلى قمة تسمى شارة حرمون في سوريا، ويصل ارتفاعها إلى 2814 مترًا، أما القمة الثانية إلى الغرب فيصل ارتفاعها إلى 2294 مترًا، والقمة الثالثة إلى الجنوب 2236 مترًا، وتقع في القسم السوري الذي تحتله “إسرائيل”، أما القمة الرابعة إلى الشرق فإن ارتفاعها يصل إلى 2145 مترًا، فيما تشكل قمة جبل حرمون التي تحتوي على منصة مراقبة ورادارات، قاعدة للاستخبارات شمال “إسرائيل”.
باعتبار تميز الجبل بالمنحدرات الجبلية الصعبة والظروف الجوية القاسية، فإن منطقة الجبل تنشط بعمليات تهريب الأسلحة والذخائر من خلال معابر وعرة من الأراضي السورية إلى الجانب اللبناني، لا سيما بين قرى عرنة، بقعسم، وقلعة الجندل، وبيت جن في سوريا ومنطقة راشيا بلبنان. عمليات التهريب هذه زادت بشكل كبير منذ بدء حرب السابع من أكتوبر، ما يعني حاجة “حزب الله” المتزايدة للسلاح.
بالمقابل تسعى “إسرائيل” إلى منع إيران من استنساخ جنوب لبناني آخر في جنوب سوريا، وتوسيع تحركاتها من الجهة السورية رغبة منها بقطع طرق إمداد “حزب الله” بالأسلحة القادمة من سوريا وإيران، إضافة لاستهداف الخلايا المرتبطة بالحزب.
يرى الباحث حوراني، أن تلويح “إسرائيل “بالسيطرة على جبل الشيخ، يعود إلى رغبة الأخيرة في تأمين استطلاع أكثر عمقًا لمناطق في سوريا والأردن وفلسطين، لا سيما أن منطقة جبل الشيخ باتت تعد محورية لـ”حزب الله” الذي طور شبكة من النقاط العسكرية الخاصة ومعابر التهريب غير النظامية لتهريب السلاح إلى مناطقه في الأراضي اللبنانية بالتعاون مع الفرقة الرابعة والوحدات العسكرية الأخرى التابعة للنظام في المنطقة، وكذلك شبكة من المتعاونين المحلين من المنطقة معه، بعد أن أوفد “حزب الله” سمير القنطار إلى المنطقة منذ بداية الثورة، وأسس ما يسمى جبهة تحرير الجولان.
من جهته يرسم العقيد الكردي مشهدًا في حال محاولة “إسرائيل” تنفيذ سيناريو احتلال جبل الشيخ، قائلًا “ربما إسرائيل ستلقى مقاومة كبيرة في منطقة المرتفعات من قبل قوات جيش التحرير الفلسطيني وبعض ما تبقى من الفرقة 14 التي اضمحلت أعدادها بشكل كبير بعد الثورة وحلّت محلها ميليشيات لحزب الله الضعيفة بعد انهيار منظومة القيادة لديها، وبالتالي فإن نظام الأسد الذي بات يحاول التنصل من علاقته بهذه الميليشيات سيجد نفسه مضطرًا إلى دعمها بما لم تعد قادرة على تأمينه من سلاح وعتاد وجميع أشكال الإمداد.
ويعلل الكردي ذلك الاضطرار بأن سقوط جبل الشيخ بيد الإسرائيليين يعني سقوط دمشق ناريًا، حيث ستكون الفرقة العاشرة والرابعة عشر والفرقة الرابعة ومعهم الحرس الجمهوري تحت المرمى المباشر للنيران الإسرائيلية، مع الإشارة إلى أن جميع هذه التشكيلات تعاني من نقص كبير بالعنصر البشري وانتشار واسع لقطعها في مناطق سورية متعددة ونقص كبير بالذخائر.
“السيناريو الثاني يقول إن الأسد المعتاد على تقديم التنازلات حفاظًا على نظامه، إضافة إلى ما يعانيه من ضعف شديد نتيجة للموقف العسكري القائم وخشية التحرك الشعبي الناقم عليه، ربما يلجأ إلى عرض سلام غير مشروط مع الإسرائيليين يخضع فيها إلى جميع الشروط التي يملوها عليه ويمكن أن نصفه بعرض استسلام يتنازل فيه كليًّا عن المطالبة بالجولان وبمرتفعات جبل الشيخ مقابل الحفاظ على كرسي السلطة وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا”، يختم الكردي حديثه.