منذ أن شنّت “إسرائيل” حربها البرية على قطاع غزة عقب أحداث 7 أكتوبر، لجأت لتبرير قصفها للمدارس والمستشفيات والمرافق العامة والمجازر التي ترتكبها بحقّ المدنيين من منظور حق “الدفاع عن النفس”، إلا أن ما تقوم به يرقى إلى جرائم حرب بتوصيف مؤسسات دولية وأممية، وهو ما يتّسق مع توصيف أفعالها بجريمة “الإبادة الجماعية” التي دفعت جنوب إفريقيا لمرافعتها في محكمة العدل الدولية في لاهاي بتاريخ 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وخلصت المحكمة حينها إلى حثّ “إسرائيل” على اتخاذ تدابير تمنع وقوع أعمال إبادة جماعية وتحسّن الوضع الإنساني في قطاع غزة، وهو ما لم يحدث إذ لم تتخذ المحكمة أي إجراء ردعي يقضي بوقف إطلاق النار لتحييد “إسرائيل” في استخدام القوة المطلقة التي منحتها إياها الدول الحليفة لها، أي الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، بحجّة دفاعها عن نفسها.
وبدلًا من تطبيق توصيات لجنة المحكمة، عكفت “إسرائيل” على اجتياح رفح الذي كان وشيكًا قبل النطق بالحكم، إلا أن “إسرائيل” على ما يبدو كانت تتوخى ردّ المحكمة للاستمرار في حربها الهوجاء، وهو ما ضمنته بعدم تمرير المحكمة لقرار يقضي بوقف إطلاق النار، ما ترتب عنه اجتياح رفح وارتكاب مجازر فيها، كان أبرزها “محرقة الخيام” يوم 26 مايو/ أيار 2024، والتي راح ضحيتها 45 شهيدًا و249 مصابًا.
كما استمرت وتيرة المجازر بالتصاعد في كامل القطاع، فضلًا عن استغلال المجاعة بفعل الحرب على المدنيين بمنع دخول المساعدات أو إدخالها لدواعي ارتكاب المزيد من المجازر، وهو ما قامت به “إسرائيل” بقصف المدنيين عند دوار النابلسي في قطاع غزة أثناء استلام المساعدات في 29 فبراير/ شباط 2024، فيما وُصفت المجزرة بمجزرة “الطحين” والتي أسفرت عن قتل 112 فلسطينيًا وإصابة 760 مدنيًا.
يقرأ هذا التقرير استغلال “إسرائيل” لغياب الردع القانوني وتهميش القانون بما يخدم مصالحها، فيما يتعلق بتشريع الإبادة من منظور حق “الدفاع عن النفس”، والتوسع في حرب الإبادة بما يشمل لبنان والمساس بقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “اليونيفل”، وتداعيات هذه التجاوزات على مشروعية القانون الدولي عالميًا.
حق “الدفاع عن النفس” لمزيد من القتل
يعدّ حق “الدفاع عن النفس” مشروعًا للأفراد والدول لمواجهة أي خطر أو تهديد، وهو حق قانوني وأخلاقي وجزء من الحقوق الإنسانية المعترف به عالميًا. إلا أن الحرب على غزة طرحت تشويه “إسرائيل” لهذا الحق بصورة تستدعي إعادة النظر في منحها إياه عالميًا.
ويحظر هذا الحق استخدام القوة الزائدة أو رد الفعل الذي يتعارض مع القانون، وهو ما تتجاوزه “إسرائيل” علنًا باستخدام قنابل وأسلحة ثقيلة وصلت حدّ استخدام أسلحة محرّمة دوليًا وقنابل حرارية وارتجاجية ضد المدنيين العزل، وهي قنابل مخصصة للمساحات الشاسعة، إلا أن “إسرائيل” سلطتها على قطاع صغير مكتظ بالسكان ومحاصر من قبلها تبلغ مساحته 360 كيلومترًا.
ويرجع الأصل في استخدام القوة من منظور الحق في “الدفاع عن النفس” إلى مجلس الأمن الدولي وفق ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما لم تنتظره “إسرائيل” عقب السابع من أكتوبر، والتي عكفت على تسليط كل ما أوتيت من قوة ضد المدنيين بحجّة القضاء على حماس.
ويقوم هذا الحق بصورة أساسية على أي تهديد ينشب بين دول، وهو ما يسقط شرعيته فيما يتعلق بفصائل المقاومة التي قصدت من وراء السابع من أكتوبر لفت انتباه العالم لحقوق الفلسطينيين، التي غيّبتها “إسرائيل” بنظام الفصل العنصري الاستعماري وقتل الفلسطينيين ومصادرة ممتلكاتهم واعتقالهم دون سبب، وهو ما يقضي أن للفلسطينيين الحق في المقاومة و”الدفاع عن النفس” ضد “إسرائيل” التي تهدد وجودهم على أرضهم، وهو ما لم يلتفت إليه القانون ودول العالم.
٫ينبغي قراءة السياق الأوسع لما قامت به فصائل المقاومة، وهو سياق استمرار الاحتلال وتصفية قضية الفلسطينيين، أما ما قامت به فصائل المقاومة يندرج في سياق مقاومة الاستعمار الذي كان يقضي بحصار قطاع غزة منذ عام 2005، مع توسع الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس.
ويتضح أن “حق الدفاع عن النفس” لا يتّسق مع سياق الاحتلال الإسرائيلي، إنما يعززه بما يؤدي إلى قتل المزيد من الفلسطينيين وسلب حقوقهم وتشريع إبادتهم، إذ يكتسب هذا الحق صفة كونه مؤقتًا ريثما يتولى مجلس الأمن استعادة زمام الأمور، إلا أن ما تقوم به “إسرائيل” قام بتحييد مجلس الأمن وكل المؤسسات الدولية وحتى أي وساطة، بصورة عمدت من خلالها إلى استغلال “حق الدفاع عن النفس” لامتلاك القوة المطلقة لفعل ما تشاء كيفما تشاء وأينما تريد.
توسيع الحرب واستهداف “اليونيفل”
ونتيجة غياب الردع القانوني وعدم اتخاذ كل من محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية قرارات صارمة تنهي الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عكفت “إسرائيل” على اجتياح جنوب لبنان مبررةً ذلك أيضًا بحق الدفاع عن النفس، إلا أن وتيرة القصف تجاوزت جنوب لبنان لتطال مختلف المناطق اللبنانية، وارتكاب مجازر فيها بحق المدنيين أيضًا.
وتستخدم “إسرائيل” نفس وسائل القتل التي تستخدمها في غزة على لبنان، بما في ذلك التعرض للمنشآت المدنية وقصف طواقم الإسعاف واستهداف التجمعات السكنية بقنابل ثقيلة بحجّة تصفية أعضاء من “حزب الله” اللبناني، إذ تجاوز عدد الضحايا من المدنيين 2011 شهيدًا و9500 جريح.
ومؤخرًا شملت حرب “إسرائيل” على لبنان التعرض لقوات “اليونيفل”، وهي قوات تابعة للأمم المتحدة ووجودها في لبنان يعدّ قائمًا على قوانين حفظ السلام الدولية، ما يعني أن التعرض لها يشكّل تجاوزًا صارخًا للسلم الدولي ويرافقه تعدي صريح على أكبر مؤسسة دولية في العالم، إذ أسفر التعرض الإسرائيلي لقوات “اليونيفل” عن إصابة 5 منهم في غضون 48 ساعة، ما استدعى استنفار دولي يطالب بتعليق اتفاقية التجارة الحرة مع “إسرائيل”.
وتقوم “إسرائيل” بشنّ حرب على كل من يعترض على ممارساتها الإبادية خلال الحرب، إذ قامت بالهجوم على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش واتهامه بـ”معاداة السامية” عقب إدراجه “إسرائيل” في “قائمة العار”، التي سجّلت ارتكاب “إسرائيل” لانتهاكات بحق الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة.
وتعدّ حجة “معاداة السامية” الخطاب الذي تبنّته “إسرائيل ” للتحريض ضد كل من يعارض أفعالها ويؤيد حقوق الفلسطينيين، إذ تبدو تهمة “معاداة السامية” متكاملة مع استخدام “إسرائيل” حق “الدفاع عن النفس” للاستمرار في الإبادة دون عقاب.
انتهاك العدالة الدولية
سبق أن قام مجلس الأمن الدولي بالتصويت لقرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة عدة مرات، إلا أن ذلك كان يصطدم باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض “الفيتو”، وهو ما دعم حرب الإبادة المستمرة حتى اليوم في قطاع غزة ولبنان بصورة ترجّح لدعم “إسرائيل” في ممارساتها التي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالاستمرار في تصدير الأسلحة حتى اللحظة رغم تصاعد عدد الضحايا.
فيما تعرضت المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك المدعي العام كريم أحمد خان، لتهديد مباشر من قبل مسؤولين إسرائيليين، وذلك عقب عزمها على إصدار مذكرات اعتقال بحقهم على خلفية ارتكاب إبادة في قطاع غزة، واستخدمت “إسرائيل” وصف “معاداة السامية” مجددًا للتقليل من قيمة المحكمة وانتهاك قراراتها وتهديدها بصورة صريحة، إذ ترقى هذه التهديدات الإسرائيلية إلى “مستوى جريمة ضد إقامة العدل بموجب المادة 70 من نظام روما الأساسي”.
وتواطأت الولايات المتحدة الأمريكية مجددًا إلى جانب حليفتها في تهديد المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها، فيما يتعلق بالتهديد بفرض عقوبات عليهم والسعي لوقف تمويل المحكمة في حال إصدار أوامر الاعتقال.
ولم تسلم وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” كمؤسسة تابعة للأمم المتحدة من التحريض الإسرائيلي ضدها منذ بداية الحرب على القطاع، بزعم “إسرائيل” وجود عاملين فيها قاموا بهجوم السابع من أكتوبر.
وترتب عن ذلك قتل ما لايقل عن 193 عاملًا في قطاع غزة، وتدمير المباني والمنشآت التابعة لها وإبادة النازحين فيها، هذا فضلًا عن اعتقال عدد من العاملين فيها والتنكيل بهم، في حين ترمي “إسرائيل” من تحريضها على الأونروا إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين بما يتكامل مع مخططاتها في تهجيرهم وإبادتهم.
تمتلك “إسرائيل” الموافقة على وقف إطلاق النار مقابل استعادة الرهائن التي وقعت في الأسر لدى حماس على خلفية السابع من أكتوبر، إلا أن هدفها من الحرب يبدو جليًا بتصعيد التوتر وتوسيع رقعة الحرب واستهداف المدنيين بصورة رئيسية لغايات دفعهم إلى التهجير، والاستحواذ على ما تبقى من جغرافيا فلسطين، وهو ما يتماشى مع سياسة “إسرائيل” في الضفة الغربية بتوسيع الاستيطان، في حين تعدّ حرب الإبادة المستمرة تهديدًا مباشرًا لفاعلية القانون وصلاحيته في الردع وتحقيق العدالة، وهو ما يبدو على المحك في ظل استمرار “إسرائيل” في عدوانها على غزة ولبنان.