يستهدف الاستعمار الإسرائيلي الجسد الفلسطيني كجزء من منظومته الاستعمارية لتحقيق القمع والإخضاع والسيطرة ولم يكن ذلك ممكنًا بمعزل عن كل من الحياة والموت وارتباط الجسد بهما، ورغم محاولات الطمس والقتل الممنهج لأغراض استعمارية، تصدى الفلسطينيون لهذه السياسات عبر المقاومة كوسيلة لإثبات وجودهم وهويتهم، ويُنظر لارتباط الجسد الفلسطيني بفعل الموت من خلال مفهوم “الشهادة” بوصفه شكلاً من أشكال تحقيق الحياة، إذ يبقى الشهيد حيًا في الذاكرة، مجسدًا رمزية حية للمقاومة.
تبنى الاستعمار الإسرائيلي سياسة ممنهجة تقوم على استباحة الجسد الفلسطيني وخلق نظام ما يعرف بـ”الحياة العارية”، حيث يصبح الجسد فيها مستهدفًا في أي زمان ومكان، وفي المقابل وجد الفلسطيني في المقاومة والتمرد على حالة الإنهاك والعذاب والتقييد، الطريقة المثلى لاستعادة قراره على الحياة والموت وتحريرهما من قبضة الاحتكار الصهيوني.
من أبرز أشكال مقاومة السيطرة الاستعمارية على الحياة، ظاهرة “النطف المهربة”، التي ظهرت كرد فعل على حرمان الأسرى الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، حيث يواجهون أحكامًا بالسجن المؤبد والعزل التام عن حياتهم الأسرية والاجتماعية، ومن خلال تهريب النطف، كسر الأسرى الفلسطينيين هيمنة الاحتلال على حياتهم الإنجابية، وأثبتوا تمردهم على سياسات الاحتلال التي تسعى إلى قتل الجسد الفلسطيني داخل دائرة الحياة.
أما السعي لنيل “الشهادة”، فيمثل تحديًا آخر لسيطرة الاستعمار على حياة الفلسطينيين، حيث تحوّل الموت المفروض إلى أداة مقاومة؛ إذ ينقل الجسد الفلسطيني من الفناء إلى الخلود، وهو ما يمثل مقاومة الاستعمار في إطار الموت واكتساب جثمان الشهيد لرمزية كسر القانون الاستعماري الذي يقضي بالتحكم بالجسد وإخضاعه.
وللحد من هذا التحدي، أنشأت إسرائيل “مقابر الأرقام”، وهي مقابر سرية تُحتجز فيها جثامين الشهداء الفلسطينيين وترفض تسليمها لذويهم، حيث تُسلب هويتهم ويُستبدل اسمهم برقم، في محاولة إضافية لمحو رمزية الشهادة من الذاكرة الفلسطينية.
يتناول هذا التقرير أشكال المقاومة التي ابتكرها الفلسطينيون لمواجهة عنف الاستعمار الإسرائيلي الموجّه نحو الجسد الفلسطيني، من بينها “النطف المهربة” كوسيلة لضمان استمرارية الحياة رغم قيود الاحتلال، و”الشهادة” التي تحول الجسد الفلسطيني إلى رمز للخلود وكسر الهيمنة الاستعمارية.
“نطف مهربة” ردًا على الحياة المستلبة
تعرف سياسة الاعتقال الممنهجة تجاه الفلسطينيين بأنها شكل من أشكال سيادة الاستعمار الاسرائيلي، التي تستهدف تبديد الجسد الفلسطيني في زنازين الاعتقال بأشكال عدة تأخذ شكل قمع وتعذيب الجسد، في حين يعد احتجازه لأعوام طويلة أقسى درجات التعذيب التي تستهدف جعله مستباحًا والقضاء على أي مهمة له في المقاومة أو قيامه بأي دور اجتماعي يضفي عليه سمة البقاء والوجود.
إلا أن الفلسطينيين في المعتقلات نجحوا في كسر الهندسة الاجتماعية والسياسية للجسد الفلسطيني، بعد أن عزلت “إسرائيل” المعتقلين عن فكرة تكوين الأسرة التي تكتسب معاني وجودية بالنسبة للفلسطينيين من منظور مقاومة الاحتلال، حتى كانت النطف المهربة ثورة على قيود الأسر والقمع وكسر للهيمنة الاستعمارية على الإنجاب.
وسجلت أول عملية إنجاب ناجحة عن طريق النطف المهربة من المعتقلات الإسرائيلية عام 2012 في الضفة الغربية، فيما كانت أول عملية ناجحة في قطاع غزة المحاصر عام 2014. يأتي ذلك في سياق إدراك أغلبية مغيبة في المعتقلات ضرورة مقاومة الاستعمار من خلال تهريب الحياة عن طريق النطف، في سياق المحافظة على بقاء واستمرار الجسد الفلسطيني حاضرًا ضمن عملية مقاومة لكل محاولات قتله وإبادته، ما يريده الاحتلال ويسعى إليه.
ونتيجة لإدراك سلطات الاحتلال الإسرائيلي نجاح سياسة المعتقلين في الثورة على قيود الاعتقال من خلال تهريب النطف، يتم إنكار أطفال المعتقلين الذين ولدوا عن طريق النطف المهربة، فيما تصل الإجراءات القمعية حد التنكيل بالأسرى وحرمانهم من الزيارات العائلية وزيادة عدد الحراس في أثناء الزيارات والتفتيش الدقيق لذويهم، فيما يحرم الأطفال من إعطائهم بطاقة هوية فلسطينية، وتُرفض شهادات ميلادهم وأرقام هوياتهم الصادرة من وزارة الداخلية الفلسطينية، كما يجري إذلال ذويهم بالتشكيك بنسبهم والمطالبة بتحليل DNA.
وتتم محاربة كل ما له علاقة بالإنجاب ضمن عملية هيمنة تستهدف فيها “إسرائيل” نزع الحق في الحياة والسعي لفناء الفلسطينيين، إذ استهدفت “إسرائيل” خلال الحرب الحالية على قطاع غزة “مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب” وهو أكبر مركز إخصاب في القطاع، ما أودى بحياة 5 آلاف جنين، وبذلك قضت “إسرائيل” على حلم الإنجاب لمئات العائلات الفلسطينية، ما يتسق مع سياستها الاستعمارية بالحد من وجود الفلسطينيين إلى جانب حروب الإبادة التي تخوضها ضدهم.
تتخذ الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية أبعادها الوجودية من إخضاع الفلسطينيين بصورة تصل حد التحكم في حقهم بالإنجاب، وترى “إسرائيل” في مجيء الأطفال الفلسطينيين للعالم تهديدًا يجب القضاء عليه والحد منه، لذلك تكرس قوتها بالتعرض لهم وقتلهم في حال نجاح الفلسطيني في تكوين أسرة، وهو ما شهدته الضفة الغربية كثيرًا بالتعرض للأطفال واعتقالهم وقتلهم، كما حدث للطفل محمد أبو خضير الذي أحرقه المستوطنون حيًا، فيما تعد الحرب على الأطفال جزءًا من مبررات “إسرائيل” في حربها الحالية على قطاع غزة، باستهداف مراكز الإخصاب والأطفال كأكبر فئة في المجتمع، إذ تجاوز عدد الضحايا من الأطفال 13 ألفًا.
معاقبة الجسد بمقابر الأرقام
يعد اختيار الفلسطينيين للشهادة بعدًا من أبعاد الثورة على تنميط الموت استعماريًا، إذ تجعل “إسرائيل” الموت شكلًا من أشكال هيمنتها على الجسد وخيارًا بيد السلطات الإسرائيلية، وهذا ينطبق على الحياة التي تقرر السلطات منحها للفلسطينيين أو حجبها، إلا أنها تبدو مرادفًا لممارسة سياسة الموت البطيء في إطار الحياة.
تعمد سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى استهداف الجسد الفلسطيني كجزء من سياسة استعمارية شاملة تطال الجماعة الفلسطينية بأسرها. وقد أدى هذا الاستهداف إلى نشوء المقاومة بكل أشكالها، حيث أدرك الفلسطينيون ضرورة استعادة فاعلية الجسد كأداة مواجهة. على سبيل المثال، يكسب اختيار الشهادة الجسد الفلسطيني رمزية تمرد على العقاب والحرمان، ليمنح الشهيد معنى للحياة من خلال جثمانه، الذي يصبح رمزًا حيًا للصمود يترسخ في وعي الأحياء ويعزز مفهوم المقاومة كوسيلة للبقاء.
مع إدراك الاحتلال لأهمية الشهيد في بناء الوعي وتفعيل المقاومة، لجأت السلطات الإسرائيلية إلى احتجاز جثامين الشهداء في محاولة لطمس قدسية الشهادة ومحوها من الذاكرة الفلسطينية، ومع ذلك، يعكس هذا الإجراء عجز أدوات الاحتلال عن كسر إرادة الفلسطينيين، خاصة أمام قدرة الفلسطيني على اختيار موته كشكل من أشكال المقاومة، بدلًا من الخضوع لموت عبثي يُفرض عليه داخل إطار الحياة.
انتقامًا من مقاومة الجسد الفلسطيني حتى في حالة الموت، أنشأت “إسرائيل” ما يُعرف بـ”مقابر الأرقام”، بهدف منع الجثمان الفلسطيني من أن يُمنح طقوس التشييع التي تحشد الدعم الشعبي للمقاومة حول الشهيد. في هذه المقابر السرية، يتم إهانة الشهيد عبر تصنيفه برقم بدلًا من اسمه، دون الكشف عن أماكنها بدقة أو عدد الجثامين المحتجزة فيها.
إلى جانب ذلك، ترفض سلطات الاحتلال تسليم جثامين العديد من الفلسطينيين الذين استشهدوا داخل المعتقلات الإسرائيلية، في محاولة واضحة لطمس رمزية هؤلاء الشهداء في بناء الوعي الفلسطيني، مثال على ذلك، الأسير وليد دقة، الذي قتلته “إسرائيل” بشكل بطيء بالإهمال الطبي وتفاقم حالته التي كانت تستدعي خروجه، إلا أنها حجزت عليه في الحياة وبعد الموت.
ويذكر أن الشهيد وليد دقة أنجب ابنته “ميلاد” عن طريق النطف المهربة في عام 2019، وكان هو وزوجته سناء أول من يقومان بالإنجاب في أراضي 1948 المحتلة عن طريق تحرير نطفة، وردًا على ذلك لم يسلم من سياسة الاحتلال العقابية، خلال حياته وما بعد وفاته.
بنك جلود وتجارة أعضاء
يتجلى عنف الاستعمار الإسرائيلي الموجه ضد الجسد الفلسطيني في استغلال جثامين الشهداء كوسيلة للتنكيل حتى بعد الموت. حيث يقوم الكيان المحتل بالاستثمار البيولوجي من خلال التجارة بالأعضاء البشرية وسلخ جلود جثامين الفلسطينيين، مدعومًا بامتلاكه أكبر بنك للجلود في العالم، الذي يُستخدم لتخزين الجلود بهدف علاج الحروق والأمراض الجلدية، مما يعكس استمرارية العنف الاستعماري حتى في سياق الموت.
ويمثل هذا البنك محطة للتجارة بأعضاء الفلسطينيين إضافة إلى سلخ جلودهم بصورة تنتهك القوانين الدولية والإنسانية، فعلى النقيض من بنوك الجلود حول العالم التي تعتمد على تخزين الأعضاء الحيوية بالتطوع والمبادرة، فإن “إسرائيل” تحصل على الأعضاء والجلود عن طريق السرقة ودون استشارة ذوي الشهداء.
وتمثل مقابر الأرقام رافدًا لمثل هذه الأفعال التي تنتهك قدسية الموت وجثمان الشهيد، إذ يجري في معهد “أبو كبير” الإسرائيلي استئصال القرنيات وصمامات القلب والجلود من جثث الفلسطينيين، وسبق أن سُجل في حقه انتهاكات بحق الفلسطينيين.
كما فضح الصحفي السويدي دونالد بوسترم عام 2009، “إسرائيل” بالمتاجرة بأعضاء الفلسطينيين الشهداء حين نشر مقالًا بعنوان “أبناؤنا نهبت أعضاؤهم” في الصحيفة السويدية “أفتون بلادت”، التي كشف فيها متاجرة الكيان المحتل بالأعضاء البشرية للفلسطينيين بعد قتلهم وسرقة أعضائهم وبيعها في ولاية نيوجرسي الأمريكية.
وتجد “إسرائيل” في ممارسة التنكيل بالجثامين وانتهاك حرمتها سياسة انتقامية مكملة لسيادتها على الفلسطينيين في الحياة المعيشية، فيما يوفر المجتمع الدولي غطاء لها للاستمرار في سياستها الاستعمارية المبنية على القمع والقتل وسلب الحقوق في حالة الحياة والموت، إذ تعد سياسة احتجاز الجثامين مخالفة للقوانين، فيما يشكل الاستعمار الإسرائيلي نموذج لحالة الاستثناء التي تخترق القوانين والأنظمة دون رادع.
تتخذ “إسرائيل” من أجساد الفلسطينيين في حالة الحياة والموت مادة لممارسة العنف الاستعماري وتشريعه في ظل غياب القوانيين والأنظمة الردعية، ما يجعلها دولة فوق القانون، إلا أن إفرازات مقاومة العنف الاستعماري نتج عنها اتباع سياسة تهريب النطف من المعتقلات الإسرائيلية، ردًا على استنزاف بقاء الجسد الفلسطيني لغايات تقويض وجوده والقضاء عليه.
فيما انتهج الفلسطينيون خارج المعتقلات الاستشهاد، ردًا على كبح فاعلية الجسد في الوعي الجمعي الفلسطيني بجعله خاضعًا، إذ وجد الفلسطينيون في الشهادة وسيلة لاستعادة قيمة الجسد الفلسطيني برمزيته الفاعلة في البقاء رغم الفناء. وتعد مقابر الأرقام نموذجًا للهيمنة الاستعمارية على الموت، التي وجدت فيها “إسرائيل” مخرجًا لممارسة المزيد من الأفعال غير المشروعة التي تنتهك كرامة الشهداء بصورة تمس مشاعر ذويهم، بالاتجار بأعضائهم وسلخ جلودهم لغايات الانتفاع الاستعماري الإسرائيلي.