ترجمة وتحرير: نون بوست
أحتفظ دائما بصورة لماريا فرجينيا دوارتي على مكتبي. وفي كل مرة أشاهد فيها التغطية الإعلامية لقافلة المهاجرين التي تقترب من الحدود الأمريكية، كانت تتبادر قصتها إلى ذهني. غادرت ماريا موطنها السلفادور متجهة نحو الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية في أوائل سبعينيات القرن الماضي. وقد أضحت ماريا فردا من عائلتي. وعندما أنجبت ابنتي الأولى، غمست ماريا إصبعها في فنجان من القهوة ووضعتها في فم ابنتي (يبدو أن متساكني السلفادور يعتبرون هذه العادة جيدة بالنسبة للأطفال الرضع).
خلال سنة 1986، كانت ماريا واحدة من بين ثلاثة ملايين من “الأجانب غير الشرعيين” الذين تمتعوا بالعفو الذي أصدره الرئيس الأمريكي السابق، رونالد ريغان، وبالتالي، لم تكن بحاجة للعيش في الخفاء بعد ذلك. وحين قررت هي وأختها زيارة موطنها لأول مرة منذ أن نجحتا في الفرار، قمت بمرافقتهما في تلك الرحلة. لقد التقيت بأقاربهما الذين كانوا يعيشون في المناطق التي أنهكتها الحرب الأهلية الوحشية، والتي أودت بحياة 75 ألف شخصا في الفترة الممتدة بين 1980 و1992.
خلال هذه الرحلة، استقليت حافلات متهالكة، التي كانت تسير على طرق جبلية ضيقة غير ممهدة، لزيارة أقارب ماريا الذين لم يكن يتوفر لديهم أدنى أساسيات العيش الكريم، فلم يكن لديهم مياه صالحة للشرب أو صرف صحي أو كهرباء. وكنت أتجول في السوق عندما اختفى جميع الصبية الصغار فجأة متجهين نحو المتاجر والمنازل قبل دقائق قليلة من قدوم القوات الحكومية “لتجنيد” الجنود الأطفال.
يوجد الكثير من الاختلافات بين الأوضاع التي يعيشها الفلسطينيون في غزة والمهاجرون من دول أمريكا الوسطى، لكن هذا لا يعني غياب العديد من أوجه التشابه المذهلة بينهما.
لقد مرت أربعة عقود تقريبا، ولا يزال سكان أمريكا الوسطى يخاطرون بحياتهم هرباً من الظروف المعيشية الصعبة التي لعبت السياسة الخارجية الأمريكية دورا كبيرا فيها، ليجدوا أنفسهم غير مرحب بهم في “أرض المهاجرين”. لكن هذه المرة، يبدو أن هناك شيئا مختلفًا. لقد نظم الأفراد والعائلات مسيرات تضامنية معا. ولم يعد الأمر “مجرد” مخاطرة لآلاف من الأشخاص بحياتهم للبقاء على قيد الحياة كما هو الحال في مسيرات النزوح الجماعي التي قام بها المدنيون الفارون من الحرب في سوريا. إنها حركة احتجاجية من نوع آخر، وتعبير عن رفض للامتثال، فضلا عن كون هذه الحركة تلقت مساعدات إنسانية، حيث لاقت تضامنا سياسيا.
قد يرجع سبب تأثّري لكوني أمضيت 35 سنة من عمري متزوجة برجل فلسطيني، أمضيت 13 سنة منها تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي. لكن بغض النظر عن طريقة تغطية وسائل الإعلام لهذا الاحتجاج، أشعر أن هناك أوجه تشابه بين موجات المهاجرين القادمين من أمريكا الوسطى ومسيرات العودة الكبرى في غزة، إذ أن المحتجين هم أشخاص عاديون أقدموا على اتخاذ خطوات شجاعة. وكانوا مصدر إلهام للبقية لحثهم على الانضمام، والمطالبة بالحرية وبناء المجتمع في الوقت ذاته.
بطبيعة الحال، يوجد الكثير من الاختلافات بين الأوضاع التي يعيشها الفلسطينيون في غزة والمهاجرون من دول أمريكا الوسطى، لكن هذا لا يعني غياب العديد من أوجه التشابه المذهلة بينهما.
في الواقع، يعمد سكان دول أمريكا الوسطى إلى الفرار من أوطانهم بحثاً عن ملاذ في الولايات المتحدة. ومن خلال هذه الرحلة، يرغبون في تجاوز الحدود التي تقف عائقا أمام العيش في أمان واحترام حقوقهم. في المقابل، يفر الفلسطينيون الذين يعيشون في غزة نحو موطنهم في تحد لحاجز “الحدود” المفروض عليهم بشكل غير قانوني، والذي يمنع مليوني شخص من العودة إلى وطنهم (1.3 مليون منهم تم توثيقهم على أنهم لاجئون).
يمكن للسلطات استخدام حقوقها كدول ذات سيادة لحظر دخول حدودها، وأن تطالب المهاجرين المتدفقين عبر حدودها والمشاركين في الاحتجاجات بضرورة تقديم الوثائق اللازمة للقيام بإجراءات الهجرة
في الأثناء، يسعى المهاجرون من دول أمريكا الوسطى للحصول على اللجوء على اعتباره جزءا من قانون اللاجئين، في حين أن اللاجئين المعترف بهم قانونيا في غزة محرومون من حقهم في العودة. في كلتا الحالتين، تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بتحريف قوانين الهجرة، مدعيتين بذلك بأن قوانين الحماية لا يمكن تطبيقها في هذه الحالات. وعلى سبيل المثال، لا تعتبر الحكومة الأمريكية المهاجرين القادمين من دول أمريكا الوسطى طالبي لجوء “يواجهون تهديدا مباشرا على حياتهم أو حرياتهم، بل تعتبرهم مهاجرين قدموا للبحث عن عمل أو للتعليم أو لم شمل الأسرة، أو غيرها من الأمور الشخصية”، وفقا لما أوضحته الأمم المتحدة في تعريفها لطالب اللجوء.
من هذا المنطلق، يمكن للسلطات استخدام حقوقها كدول ذات سيادة لحظر دخول حدودها، وأن تطالب المهاجرين المتدفقين عبر حدودها والمشاركين في الاحتجاجات بضرورة تقديم الوثائق اللازمة للقيام بإجراءات الهجرة. وفي حال لم يقوموا بذلك، فإنهم يواجهون خطر الترحيل لبلدانهم. في الحقيقة، لطالما وصف ترامب هؤلاء المهاجرين مراراً وتكراراً بأنها “غزاة”، يهددون أمن البلاد، نافيا بذلك صفتهم كمهاجرين يحتاجون إلى مساعدات انسانية.
هذه الوضعية مشابهة تماما لما تقوم به السلطات الإسرائيلية عند تعاملها مع المتظاهرين في غزة، إذ أن قوات الاحتلال تعتبرهم خطرا يهدد أمن إسرائيل، فضلا عن كونهم مجرمين، ولا يتمتعون بأي حقوق أو حماية، وبالتأكيد ليس لديهم الحق في العودة إلى وطنهم. كما سلبتهم حقهم في الاحتجاج لتأمين حقوقهم الإنسانية والحصول على الحماية الدولية من بطش الاحتلال. ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن:
“مسؤولية الدولة تبدأ بمعالجة الأسباب الجذرية التي تؤدي إلى التهجير القسري. ويعتبر تعزيز سيادة القانون وتوفير الأمن والعدالة وتكافؤ الفرص للمواطنين عاملا حاسما لمجابهة مظاهر العنف والإساءة والتمييز التي من شأنها أن تؤدي إلى النزوح”.
تواطأت الحكومات والمنظمات متعددة الأطراف في انتهاك حقوق الإنسان. ولعل أوضح مثال على ذلك هو “آلية إعادة إعمار غزة”
مع ذلك، في كلتا الحالتين، لم تف الولايات المتحدة وحلفائها بالتزاماتهم للحد من عمليات النزوح. وعوضا عن ذلك، قاموا باستثمار أموالهم لتمويل الصراعات، ووضعوا عقبات أمام المطالبين بحقوقهم، وبالتالي، كانوا سببا رئيسيا في تهجيرهم. وقد قامت إسرائيل ببناء جدار فاصل بصفة غير قانونية. من جهته، يحاول ترامب بناء جدار مشابه على طول الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة والمكسيك، مستشهدا بفعالية نموذج الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية.
في سياق متصل، تتمثل إحدى الآليات المستخدمة في كلتا الحالتين في الاستعانة بمصادر خارجية لتعزيز السياسات الخارجية، التي يتم تمويلها غالبا من أطراف أجنبية. وتقوم الحكومة الإسرائيلية بتعزيز السياسة الخارجية للسلطة الفلسطينية بتمويل من مانحين دوليين، في حين تعزز الولايات المتحدة سياسة الحكومة المكسيكية من خلال المساعدات التي تقدمها لها.
في كلتا الحالتين، تواطأت الحكومات والمنظمات متعددة الأطراف في انتهاك حقوق الإنسان. ولعل أوضح مثال على ذلك هو “آلية إعادة إعمار غزة”، التي تم إنشاؤها صورياً لتسهيل عملية إعادة إعمار غزة على إثر الهجوم الإسرائيلي سنة 2014، وذلك من خلال تحميل الأمم المتحدة مسؤولية فحص المواد التي يتم استخدامها، ناهيك عن وضع قائمة المستفيدين من هذه الآلية باستخدام معايير معتمدة من “إسرائيل”.
لقد وجدتُ من خلال البحث الذي قمت به أن هذه الآلية تجيز استمرار الحصار المفروض على غزة، كما من المحتمل أنها تبيح استمرار الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل، في حين لم تتمكن منظمة الأمم المتحدة من أن تتبع المسار الصحيح وتصبح طرفًا قانونيًا في آلية إعمار غزة، وجعلت دورها فيها يقتصر على مجرد وسيط بين الطرفين.
يوحي الفشل في إعطاء الأولوية لحماية النازحين من أمريكا الوسطى، والفلسطينيين، والسوريين، والروهينجا، والأفغان، وجنوب السودان، والصوماليين والكثير غيرهم، بوجود معركة مستمرة قائمة بين حقوق الإنسان وحقوق الدول
بالإضافة إلى ذلك، فشلت هذه المنظمة الدولية والعديد من الأطراف الأخرى في الوفاء بالتزامها القانوني لضمان أن هذه الآلية لا تعمل على انتهاك حقوق الإنسان. ويبدو أن بنود هذا الاتفاق غير متكافئة، إذ أنه قام بإسناد الحقوق والمسؤوليات التي تخدم مصالح السلطات الإسرائيلية، في حين تتحمل الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية عبء الالتزامات المترتبة عنه. وأخيراً، من المرجح أن تقوض هذه الآلية المبادئ الإنسانية المتمثلة في الحياد والنزاهة والإنسانية والاستقلال (على سبيل المثال، من خلال السماح لإسرائيل باستخدام حق النقض ضد المستفيدين من المساعدات الدولية).
من جهة أخرى، يبدو جليا أن المنظمات الدولية لحماية حقوق المهاجرين القادمين من دول أمريكا الوسطى قد فشلت فشلا ذريعا. وقد ذكر مقال حديث ورد في مصدر إخباري رسمي تابع للأمم المتحدة أن “الأمين العام أنطونيو غوتيريس يحث جميع الأطراف على الالتزام بالقانون الدولي، بما في ذلك مبدأ ‘الاحترام الكامل لحقوق الدول في إدارة حدودها'”.
يوحي الفشل في إعطاء الأولوية لحماية النازحين من أمريكا الوسطى، والفلسطينيين، والسوريين، والروهينجا، والأفغان، وجنوب السودان، والصوماليين والكثير غيرهم، بوجود معركة مستمرة قائمة بين حقوق الإنسان وحقوق الدول، وهي معركة وجودية ستكون نهايتها إما تحقيق أو تدمير الطموحات التي تسعى لإنشاء قانون وحكم دولييْن.
تجدر الإشارة إلى أنه عندما يصبح الإعلان عن وجود “وضع إنساني” مبرراً لحشد القوات العسكرية ووضع نقاط تفتيش وجمع المعلومات الشخصية التي تهدد الأمن (كما هو الحال في كلتا الحالتين)، يدرك الناس أن هذه المبررات أصبحت واهية مع مرور الوقت.
من جهته، عندما هدد دونالد ترامب المهاجرين القادمين من بلدان أمريكا الوسطى الذين يلقون الحجارة بأنهم سوف يتعرضون لإطلاق النار، أعادت هذه السياسة إلى الأذهان النهج الذي يتبناه نتنياهو ضد رماة الحجارة الفلسطينيين. وفي هذه الحالة، سيدرك الناس ما هم بصدد مواجهته، وهو أن هذه الفئة من تجّار السلطة تنوي تجريم المجتمعات التي تسعى لحماية الأشخاص من القوة غير المحدودة للدول العسكرية.
في المقابل، لا يظهر أشخاص مثل ماريا دوارتي وأصدقائي الذين يعيشون في غزة نية للاستسلام، أو الرضوخ للإستراتيجية الجبانة “فرّق تسد”. وعلى خطى الأجيال السابقة من الناشطين الذين نقف اليوم على إنجازاتهم، سنرد بالاعتراف بأوجه التشابه في كفاحنا وتطلعاتنا للعيش في مكان آمن، والعيش بكرامة، والبقاء على اتصال بالوطن.
المصدر: أوبن ديموكراسي