سلامٌ حار وابتسامةٌ عريضة وتبادل حديث بحفاواة، بذلك يمكن توصيف صور لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على هامش “قمة العشرين” في الأرجنتين.
لم يتوقف الغزل الروسي ـ السعودي على محاولة رسم هذه الصورة التي ترمز إلى رغبة موسكو في دعم الجانب السعودي في أزمة خاشقجي، وسعيها للاستفادة من هذه الأزمة التي أحدثت هزةً قويةً في مركزية المملكة العربية السعودية على الصعيدين الإقليمي والدولي، بل تُرجم من خلال تصريح الرئيس الروسي بوتين، في بداية الأزمة، بالقول: “من الضروري انتظار نتائج التحقيق قبل تخريب العلاقات مع المملكة العربية السعودية“.
ولم يلبث حتى صرح المُتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، بأن بلاده سمعت موقف الرياض، وعليه العائلة المالكة لم تكن مُتورطة في حادث قتل الصحفي، ورافق هذه التصريحات الداعمة للروايات السعودية بشأن الحادثة، دعوة موسكو، على لسان بيسكوف، إلى عدم التدخل في الوضع وعدم الضغط على المملكة العربية السعودية وترك الأمر للتعاون بين أجهزة التحقيق التركية والدبلوماسيين السعوديين.
لعل التشابه العجيب في تصريحات موسكو إبان أزمة اغتيال الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية، ومن ثم خلال أزمة خاشقجي، يصوّر حقيقة محاولة موسكو تسجيل موقف داعم للرياض لإحراز هدفها في مواجهة العقوبات التي تصفها موسكو بـ”سياسات الابتزاز”
وعلى النقيض من مواقف عدد من الدول، شارك رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي كيريل ديميترييف، رفقة 30 مديرًا تنفيذًا لعددٍ من الشركات الروسية الكُبرى، في الجلسة الأولى لمؤتمر “مستقبل الاستثمار” المنعقد في الرياض، أيضًا، دعمت المؤتمر عبر عرض لوحات للرسام الروسي الشهير فاسيلي كاندينسكي.
وفي ظل هذه الشواهد التي لا تألو موسكو جهدًا لعكسها إعلاميًا ودبلوماسيًا، يتساءل كثيرون عن دوافع الموقف الروسي حيال المملكة العربية السعودية؟
أولًا: مواجهة سياسة الابتزاز الغربية التي اُستخدمت ضدها من قبل:
لعل التشابه العجيب في تصريحات موسكو إبان أزمة اغتيال الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية، ومن ثم خلال أزمة خاشقجي، يصور حقيقة محاولة موسكو تسجيل موقف داعم للرياض لإحراز هدفها في مواجهة العقوبات التي تصفها موسكو بـ”سياسات الابتزاز” التي استخدمتها الدول الغربية ضد موسكو من قبل، حينما صرحت الأخيرة أنها خلصت إلى أن روسيا المسؤولة عن اغتيال الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته في هجوم بغاز الأعصاب على الأراضي البريطانية مطلع شهر مارس/آذار 2018.
ويلامس محور التشابه في التصريحات الروسية في نقطة “لا بد من انتظار نتائج التحقيق وتقديم دليل ملموس قبل توجيه الاتهامات وفرض العقوبات على الدولة المتهمة باغتيال شخص ما أو ارتكاب خرقٍ ما ضد القانون الدولي”، فهذا ما نادت به موسكو إبان أزمتها مع لندن، وهذا ما تنادي به في وقتنا الحاليّ.
ترمي روسيا لتأسيس في ضوء إستراتيجيتها “الأوراسيانة” إلى الوصول للمنافذ التجارية الدولية المهمة، سواء عبر السيطرة المباشرة أم عبر النفوذ، وبالتالي فإن تقاربها من السعودية يوفر لها مدخلًا نحو الخليج العربي والبحر العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر
وربما الرسالة المراد إيصالها من موسكو إلى الغرب من خلال هذا الموقف هي: “سياسات العقوبات الابتزازية التي تفروضها ستجابه بالتكاتف الإقليمي والدولي المضاد الذي سيُحبط مسعاكم في ابتزاز الدول لتحقيق ما تصبون إليه”، وبذلك تسعى موسكو لمواجهة تحول سياسة العقوبات الغربية كأحكام “عرف وعادة” تطبق ضد من يخالف قواعد القانون الدولي أو ينتهج سياسات مخالفة للتوجه الغربي، ومن ثم ترسيخ قاعدة “التكاتف المُضاد” ضد الدول الغربية، لإقناعها بأن طريق التغاضي أو المفاوضات الدبلوماسية السرية والعلنية أنجع من طريق فرض العقوبات وانتهاج سياسات حادة.
وفي الحقيقة، يوفر هذا الهدف للمملكة فرصة للمناورة على تناقضات توازن القوى على الساحة الدولية، حيث يمكن أن تظهر ميلًا مُطردًا للجانب الروسي، في حال استمرت الضغوطات الغربية عليها.
ثانيًا: “أوبك” وأسعار النفط:
ربما السؤال الأساسي الذي قد يطرحه القارئ عند ذكر تناقضات توازن القوى هو: ما الذي يُمكن أن توفره روسيا للسعودية في حال فُرضت عقوبات عليها؟
وتكاد الإجابة الأفضل عن هذا التساؤل تكمن في إمكان تحرك الطرفين، الروسي والسعودي (الدولتين الأكثر تأثيرًا في تحديد أسعار النفط على صعيد عالمي)، نحو تنسيق الجهود من أجل إقناع دول منظمة “أوبك” والدول الأخرى المنتجة للنفط، من أجل تخفيض الإنتاج، أي تخفيض العرض، ليرتفع مستوى الطلب، وبالتالي يستعيد النفط قيمته المتضائلة في الوقت الأخير.
ثالثاُ: أهداف جيوسياسية وجيواقتصادية:
أيضًا، في إطار اللعب على تناقضات توازن القوى، كما أشار مدير قناة العربية تركي الدخيل في مقاله في الشرق الأوسط، إلى أن المملكة العربية السعودية قد تلوح بروسيا والصين كخيارات عسكرية وأمنية بديلة للدول الغربية، بل لم يستبعد الدخيل بناء قاعدة عسكرية روسية في تبوك الواقعة شمالي غربي المملكة القريبة وفقًا لميزان النطاق العسكري الجوي من الأردن والعراق وسوريا و”إسرائيل”، وهذا ما يسمح لروسيا، في حال حدث فعلًا، والأرجح أنه مُستبعد، العودة إلى منطقة الخليج لأول مرة بعد خروجها من جنوب اليمن.
عوامل عدة تدفع موسكو لإظهار الدعم الإعلامي والدبلوماسي للرياض في الوقت الحاليّ
وترمي روسيا لتأسيس في ضوء إستراتيجيتها “الأوراسيانة” إلى الوصول للمنافذ التجارية الدولية المهمة، سواء عبر السيطرة المباشرة أم عبر النفوذ، وبالتالي فإن تقاربها من السعودية يوفر لها مدخلًا نحو الخليج العربي والبحر العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر، وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى المطامع الروسية في تأسيس نفوذ في الخليج، فتعود إلى عهد القيصرية الروسية التي كانت تسير وفق إستراتيجية “الأوراسيانية” التي تعني تشييد نفوذ ضخم ممتد من آسيا إلى أوروبا، يتربع على المياه الدافئة، بمعنى أن روسيا الاتحادية تسير في سياستها الخارجية على خطى تاريخية تنتظر أي فرصة سانحة للخوض في تطبيقها.
في الختام، عوامل عدة تدفع موسكو لإظهار الدعم الإعلامي والدبلوماسي للرياض في الوقت الحاليّ، لكن بوضع وضعية البلدين “كدول نفطية” متنافسة على صعيد إستراتيجي، ومحدودية الإرادة السعودية في المناورة خارج الصندوق الغربي، ووضعية روسيا على صعيد العلاقات الدولية كدولة “كبرى” وليست “عظمى” كالولايات المتحدة، فضلًا عن الخلاف التاريخي بين موسكو والرياض، حيث كانا دومًا في محاور أو أقطاب متنازعة، في عين الاعتبار، يتضح أن هذا التحرك، على الأرجح، مجرد مناورة روسية ـ سعودية ظرفية يُراد منها تحقيق مصالح مشتركة صنعها الواقع.