على اللبنانيين أن يرسوا على بر، وأن يقرروا موقفاً واحداً تجاه جميع الأمور. فلا يمكن أن يكون صيف وشتاء تحت سقف واحد. من يريد أن يكون مبدئياً، عليه أن يكون بدئياً دائماً وأبداً. لايصح أن يكون مبدئياً تجاه قضية أو شخص بعينه، وأن يتحول إلى براغماتي مصلحي نفعي تجاه باقي القضايا والأشخاص.
لايمكنه أن يقلب صفحة الماضي تجاه قضايا بعينها أو أشخاص محددين، ويبدأ علاقة جديدة معهم بناء على مقولة “صافي يا لبن”، في مقابل استحضار الماضي واجتراره كل حين لتبرير معاداتهم، والخصومة معهم، بينما السبب الحقيقي لهذا الاجترار، هو رفض الآخر (المغضوب عليه) الانضواء تحت جناح (الغاضب) والتصفيق والتهليل لكل ما يقوله ويفعله.
الجريمة جريمة، أياً كانت ومهما كانت. والمجرم مجرم أياً كان الفاعل وأياً كان المجني عليه. فإن كان من طريق للصفح والمسامحة، فليشمل الجميع، دون انتقائية أو استثناء.
ما يثير الاستغراب هو أن البعض لايكتفي بتبرير معاداته للآخرين من خلال استرجاع ماضيهم، بل إنه يفرض حظراً على كل من تسوّل له نفسه الاقتراب منهم. بينما هو يبرر لنفسه نسج العلاقة والصداقة وأوراق التفاهم مع آخرين، ربما تاريخهم لايختلف كثيراً عن تاريخ مَن فرض عليهم الحظر.
فإذا كانت محكمة لبنانية في ظل وصاية سورية أصدرت حكماً بإدانة أحد الأشخاص بجريمة أو عدة جرائم بشعة ومدانة، فإن محكمة دولية أصدرت قراراً ظنياً اتهمت فيه مجموعة أشخاص ينتمون لجماعة أو حزب بعينه بجريمة أكثر بشاعة. تتمة القصة هو أن المتهم من المحكمة اللبنانية نفذ معظم العقوبة التي حُكم بها، فقضى أكثر من 11 عاماً في زنزانة انفرادية داخل سجن عسكري تحت الأرض. في حين أن الجهة التي ينتمي إليها المتهمون من جانب المحكمة الدولية ترفض تسليم المطلوبين بموجب مذكرات جلب دولية، وعِوض انزواء هذه الجهة والخجل بنفسها، بادرت لإلصاق تهم العمالة والتبعية للمحكمة الدولية، واستطاعت كما دائماً تكريس اتهاماتها وفرضها على الآخرين، ونبذ كل من يفكر خارج الصندوق الذي وضعت عقول الآخرين داخله.
فوق كل ذلك، يبقى من قضى أكثر من عقد من عمره يُحادث نفسه في زنزانته مجرماً وقاتلاً وتاريخه أسود، في حين أن الجهة التي ينتمي إليها المدانون دولياً توزع صكوك الغفران والإدانة على الآخرين.
عملية التدليس والخداع التي يقع ضحيتها معظم اللبنانيين لايرتكبها فريق بعينه. فقد ابتلانا رب العباد بطبقة سياسية مختلفة ومتشابكة ومتناطحة على كل شيء، لكنها تتفق في خداع جماهيرها ومناصريها، واستغلال “دَرْوَشتهم” واللعب بعواطفهم، وتجييشهم، من خلال ابتكار أعداء وهميين لهم. سياسيون، ساعة يشاؤون يتذكرون دماء قتلاهم وشهدائهم، ويعيدون ذرف دموع جفّت قبل سنوات. وهم أنفسهم حين تتغير مصالحهم أو أوامر أولياء زعامتهم ينسون الدماء والشهداء، ويتحلّون فجأة بحسّ وطني لم نكن نلحظ وجوده، فيعلنون أنهم سيتعالون على الجراح، وسيقدّمون مصلحة البلد على مصالحهم، ويقبلون الحوار والجلوس إلى جانب من حلفوا الأيْمان المغلّظة بأن الجرة انكسرت معهم. فإذا بالجرة تُعيد لملمة قِطَعها، وتلتحم من جديد، وتعود العلاقة بين المختلفين المتناقضين الأعداء كالسمن على العسل، متغافلين عن الثمن الباهظ الذي دفعه اللبنانيون بسبب تنازعهم واختلافهم.
العتب ليس على هذه الجهة أو تلك. فهذا الأداء الانتقائي بتجريم الآخرين وتبرئتهم ربما لايكون أخلاقياً، لكنه مفهوم سياسياً، في إطار الكباش بين المتنازعين، ورغبة كل فريق في تشويه صورة الفريق الآخر، لتحقيق مكاسب في مواجهته. العتب هو على اللبنانيين أنفسهم، الذين ينخدعون بالصور النمطية التي يرسمها لهم الآخرون فيلتزمون بمضامينها، ويظنون أن ما قاله هذا الزعيم أو ذاك مبدئي لارجعة فيه. فيصدقون كل ما يُقال لهم، ويسترجعون الأحداث التي
يُراد لهم أن يتذكرونها، ويتغافلون عن الأحداث التي يُراد لهم أن ينسونها. يقرأون من الصفحات المفتوحة أمامهم، ولايكبّدون أنفسهم قلب الصفحة، أو النظر إلى الصفحة السابقة أو اللاحقة، أو أقله استراق نظرة إلى الحواشي المكتوبة أسفل الصفحة.
السياسيون هم إحدى أهم مصائب لبنان، لكن المصيبة الأكبر هي أن اللبنانيين لايتّعظون من سَقَطَات السياسيين، فيصدقونهم، ويثقون بهم.. ويمنحونهم أصواتهم.