لقرون عديدة، آمنت الأديان والفلسفات المختلفة بأهمية الإيثار ومساعدة الآخرين ومدّ يدّ العون لهم. فقد اعتقد الفيلسوف اليوناني أرسطو ذات مرة أن جوهر الحياة يكمن في خدمة الآخرين والقيام بعمل يخدم مصلحة المجتمع والناس. ومن جهته، آمن ليو تولستوي، الأديب الروسيّ المعروف، بأنّ المعنى الوحيد للحياة هو خدمة الإنسانية.
قد يكون الجميع واعيًا لفائدة العمل التطوّعي على مستوى المجتمع والأفراد الآخرين، لكنّنا في كثير من الأحيان نغفل أنّ للتطوّع فوائد كثيرة تعود على الفرد نفسه، سواء من الناحية النفسية والعقلية، أو من الناحية الجسدية والبدنية. هذا ما أثبتته الكثير من الدراسات التي تركّز في السنوات الأخيرة على تعزيز العمل الاجتماعي الإيجابي بمختلف أشكاله وأنواعه، بما في ذلك التطوّع.
التطوّع كعلاج جماعي: يحمي من الوحدة والاكتئاب
يسمح لك التطوّع من خلال احتكاكك بالعديد من الأشخاص أثناء قيامك بعملك بتكوين صداقات جديدة وتوسيع شبكة علاقاتك وتعزيز مهاراتك الاجتماعية. فواحدة من أفضل الطرق التي تدعم تكوين صداقاتٍ جديدة وتقوية العلاقات القائمة هي الالتزام بنشاطٍ مشترك برفقة الآخرين، الأمر الذي يساعد بدوره على تعزيز مهارات التواصل الاجتماعيّ لا سيّما للأشخاص الذين يجدون خجلًا أو صعوبةً بالتواصل مع غيرهم.
وعن طريق خلق عددٍ من الاهتمامات المشتركة التي تقوّي شعور الشخص بالارتباط الاجتماعي، يصبح التطوّع فرصةً مميّزة لحماية المشاركين فيه من الاكتئاب والوحدة. كما أنّ العديد من الدراسات أثبتت أنّ التطوع يمكن أنْ يساعد الأشخاص في التعافي من مشاكلهم الشخصية وحالاتهم النفسية الخطيرة والمتقلبة، عوضًا عن أنه قد يكون البداية التي تأخذ بيده إلى العمل مدفوع الأجر، فهو يقدّم فرصةً واضحة لاختبار بيئة العمل وتجربتها.
عن طريق خلق عددٍ من الاهتمامات المشتركة التي تقوّي شعور الشخص بالارتباط الاجتماعي، يصبح التطوّع فرصةً مميّزة لحماية المشاركين فيه من الاكتئاب والوحدة
ومن هذه الزاوية، يمكننا النظر إلى التطوّع كشكلٍ من أشكال العلاج الجماعي، أو كما يُعرف أيضًا بالعلاج النفسي الجماعي “Group psychotherapy“، والذي يشمل في مفهومه الأوسع على أي عملية مساعدة تجري في مجموعة. ويسعى هذا النوع من العلاج إلى تعزيز العديد من المفاهيم والمبادئ الإيجابية مثل الإيثار ومساعدة البعض وتعزيز القدرة على العطاء.
كما يعمل العلاج الجماعيّ بشكلٍ أساسيّ على محاولة غرس الأمل وتقويته في نفوس المجموعة، من خلال إلهام وتشجيع الأعضاء لبعضهم البعض للتغلب على المشاكل التي يواجهونها. فيما ينظر العلاج إلى التماسك باعتباره مبدأً أساسيًّا لا تحدث عملية الشفاء بدونه، فلا يمكن أن تحدث التنمية الشخصية إلا في سياق العلاقات الشخصية، والمجموعة المتماسكة هي المجموعة التي يشعر فيها جميع الأعضاء بالانتماء والقبول والتأكيد.
من خلال عمله على تعزيز مفاهيم ومبادئ الإيثار والأمل والتماسك والمسؤولية عن القرارات، يصبح التطوّع شكلًا مصغّرًا أو مبسّطًا من أشكال العلاج الجَماعي
وبذلك، من خلال عمله على تعزيز مفاهيم ومبادئ الإيثار والأمل والتماسك والمسؤولية عن القرارات، يصبح التطوّع شكلًا مصغّرًا أو مبسّطًا من أشكال العلاج الجَماعي، لا سيّما إنْ كان ضمن مجموعةٍ منظّمة تعرف أهدافها الواضحة وتعمل على تعزيز التماسك بين أعضائها وأفرادها.
تعزيز الثقة بالنفس والشعور بجدوى الحياة
يعمل التطوع إضافةً لذلك على تعزيز ثقة الشخص بنفسه؛ فإحساسك بأنك تبلي بلاءً حسنًا مع الآخرين والمجتمع يمنحك شعورًا حقيقيًّا بالإنجاز، الأمر الذي يعمل على تطوير الإحساس بالفخر والهوية الاجتماعية، وهذه وسيلة ممتازة تتبنّى من خلالها رؤيةً إيجابية لحياتك وللآخرين ولأهدافك المستقبلية.
أمّا على مستوى المعنى والهدف، فقد يكون التطوّع أيضًا وسيلةً ممكنة يجد من خلالها الشخص شعورًا، مهما كان حجمه، بالجدوى والهدف من الحياة والوجود. ويكون هذا الشعور أقوى في مراحل العمر المتقدّمة، بعد الوصول لمرحلة التقاعد على سبيل المثال، حيث يفقد المرء وظيفته ويجد نفسه بلا عملٍ أو مهنة. هنا يمكن للعمل التطوّعي أنْ يُعيد رسم الهدف والاتّجاه في الحياة.
قد يكون التطوّع وسيلةً ممكنة يجد من خلالها الشخص شعورًا بالجدوى والهدف من الحياة والوجود خاصة عند كبار السن أو مَن وصلوا سنّ التقاعد
عوضًا عن أنّ العديد من الأشخاص ينخرطون في الأعمال التطوّعية لإيجاد بعض التوازن في حياتهم التي تطغى عليها الرتابة والملل، خاصة مع وظائفهم التقليدية، فيتطوّعون كشكلٍ من أشكال الهوايات خارج نطاق العمل أو المدرسة أو الالتزامات العائلية. فقد تتطوّع بالتعليم في حين أنّ عملك بالتجارة، أو قد تتطوّع في زراعة الحدائق العامة في حين أنك لا تزال طالبًا، وهكذا.
التطوّع والصحة الجسدية
لا يقتصر تأثير التطوّع على الصحة النفسية والعقلية للفرد وحسب، بل يمتدّ أثره ليشمل الصحة الجسدية والبدنية أيضًا. إذ تشير الأدلة في بعض الدراسات أنّ التطوع يعمل على تحسين الصحة من خلال تثبيط التأثيرات الضارة للإجهاد والقلق عن طريق تحسين تفاعل الغدد الصمّاء مع الحالات الصعبة.
وقد أشارت دراسة طويلة من جامعة كارنيجي ميلون نُشرت في مجلة علم النفس إلى أنّ التطوّع يرتبط بقابلية أقل لتطوير أمراض ارتفاع ضغط الدم عند الأشخاص المشاركين بها ممّن هم فوق سنّ 50 عامًا، مقارنةً بغيرهم من غير المتطوّعين. وجديرٌ بالذكر أنّ ارتفاع ضغط الدم هو مؤشر هام على الصحة الجسدية لأنه يساهم في الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية والموت المبكر.
صحيح أنّ تلك الدراسة قد لا تثبت بشكلٍ مباشر أنّ قراءات ضغط الدم المنخفضة عند المشاركين هي نتيجة التطوّع أو القيام بأفعال خيرية وما إلى ذلك، فقد تكون النتيجة بسبب سلوكيات أخرى مثل اتباع نظام غذائي صحّي أو ممارسة التمارين الرياضية أو القدرة على مواجهة تحديات الحياة بأقل قدر من الإجهاد والقلق.
أداء العمل التطوّعي يعمل على زيادة النشاط البدنيّ عند الشخص، الأمر الذي يقلّل من تعرّض الجسم للإجهاد البدنيّ والنفسيّ في نفس الآن
لكن في الوقت ذاته نستطيع القول أنّ التطوّع يرتبط بنمط معيشة أكثر صحّية وإيجابيةً ما يساهم في الحماية من خطر الإصابة بأمراض ضغط الدم وما يرتبط بها. فأداء العمل التطوّعي يعمل على زيادة النشاط البدنيّ عند الشخص، الأمر الذي يقلّل من تعرّض الجسم للإجهاد البدنيّ والنفسيّ في نفس الآن.
عوضًا عن ذلك، أشارت دراسة أخرى إلى أنّ العمل التطوعي يرتبط أيضًا بمعدلات وفاة أقل، إذ توصّلت الدراسة أنّ أولئك الذين انخرطوا بأيٍ من الأعمال التطوعية سجّلوا معدّلات وفاة أقل بما يقارب 4 سنوات على أقل تقدير من الذين لم يشاركوا بدورهم بأيّ من تلك الأعمال على الإطلاق.
ومرةً أخرى، لا ترتبط معدّلات الوفاة المنخفضة بالعمل التطوّعي ارتباطًا مباشرًا بكلّ تأكيد. لكنّ هذه الدراسة تضيف بدورها إسهامًا واضحًا حيال الطريقة التي تعمل فيها التفاعلات الاجتماعية المرتبطة بالإيثار وحبّ المساعدة على الصحة النفسية والجسدية للأفراد والمجتمعات.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ فوائد التطوّع تتعدّى تعبئة الوقت بالنشاطات غير التقليدية أو وضعها في صفحة السيرة الذاتية لزيادة فرصة الحصول على عملٍ ما، وإنّما تتعدى ذلك لتنعكس على الصحة النفسية والجسدية للأشخاص من خلال تعزيز التواصل الاجتماعيّ مع الآخرين، والشعور بالرضا عن الذات جرّاء مساعدتهم، وإضفاء معنى أو هدف للحياة بعيدًا عن الروتين اليوميّ والواجبات الإلزامية فيها.