في خطوة أثارت الكثير من الجدل وفتحت الباب على مصراعيه أمام التكهنات والتأويلات، أعلن وزير الدولة لشؤون الطاقة القطري والرئيس التنفيذي لقطر للبترول، سعد بن شريده الكعبي انسحاب بلاده من منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) اعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2019.
خروج قطر عن عباءة أوبك بعد 57 عامًا من العضوية ليس بالقرار السهل أو العشوائي، ما دفع الكثير من التساؤلات لأن تطل برأسها باحثة عن إجابة، لا سيما عن الدوافع والدلالات والتوقيت، وإن تعهدت الدوحة بمواصلة الالتزام بجميع التعهدات مثل أي دولة خارج المنظمة.
خطوة قد لا تمثل تهديدًا كبيرًا لـ”أوبك”، ولا للسوق العالمية نظرًا لقلة إنتاج قطر من النفط، الذي لا يزيد على 2% من إجمالي إنتاج المنظمة الذي لا يزيد على 35% من إجمالي إمدادات الخام في السوق العالمية، إلا أنه في المقابل تحرك رمزي يعكس هشاشة الكيان النفطي العالمي ويفند مزاعم التماسك المهلهل في ظل ما شابه من تسييس لصالح جهات بعينها خلال الآونة الأخيرة.
التفرغ للغاز
وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة في مؤتمر صحفي، أرجع هذا التحرك إلى أنه يأتي في إطار التخطيط لإستراتيجية طويلة المدى والبحث في سبل تحسين دورها العالمي، مفندًا مزاعم البعض بأن القرار سياسي، لافتًا إلى رؤية بلاده نحو تطوير قطاع الغاز بها وزيادة إنتاج الغاز المسال من 77 مليون طن سنويًا إلى 110 ملايين بحلول 2024.
الوزير لفت إلى أن “دولة قطر ستظل تعتز بمكانتها العالمية في طليعة الدول المنتجة للغاز الطبيعي، وكأكبر مُصدِّرٍ للطاقة النظيفة من الغاز الطبيعي المسال، وهو ما أتاح لها أن تحقق اقتصادًا قويًا ومنيعًا”، كاشفًا أن تحقيق أهداف القطريين الطموحة يتطلب الكثير من التركيز والالتزام في تطوير وتعزيز تلك المكانة.
“قرار الانسحاب خطوة رمزية بالنسبة لقطر، فإنتاجها من النفط ثابت دون أي آفاق لزيادته” الخبير الاقتصادي أمارتيا سين
مما لا شك فيه أن انسحاب قطر من أوبك سيحررها بشكل كبير من الالتزام بقراراتها المتعلقة بمعدلات الإنتاج التي تخضع في كثير من الأحيان لضعوط هنا وهناك، ويدفعها إلى مزيد من التوسع في إنتاج الغاز الذي يعد المنافس الأول للنفط في أسواق الطاقة العالمية التي شهدت تقلبات كبيرة بين أدنى المستويات وأعلاها خلال الأشهر القليلة الماضية جراء سياسات المنظمة المثيرة للجدل.
علاوة على ذلك فإن مشروع تطوير منظومة الغاز في قطر يحتاج إلى تكثيف الجهود ومضاعفة الاستثمارات وتوحيد المسارات فضلاً عن تعزيز التركيز على هذه الصناعة بعيدًا عن أي تضارب أو وجود منافس لهذه السلعة على غرار النفط وغيره من أشكال الطاقة المختلفة.
https://www.youtube.com/watch?v=tp7lEIel-2k
خطوة رمزية
يتضمن قرار الانسحاب في المقام الأول خطوة رمزية تعكس امتعاض الدوحة مما وصلت إليه المنظمة بعدما أضحت ترتهن بالمأزق الذي يعيشه بعض المنتجين الكبار مثل السعودية، وهو ما كشفه الكعبي بقوله: “لا نقول إننا سنخرج من نشاط النفط لكن المنظمة التي تسيطر عليه تديرها دولة واحدة”.
أمارتيا سين خبير الاقتصاد وكبير المحللين في مؤسسة “إنِرجي أسبكتس” الاستشارية ومقرها لندن، علق على قرار الانسحاب بأنه “لا يزيد على كونه خطوة رمزية بالنسبة لقطر، حيث إن إنتاجها من النفط ثابت دون أي آفاق لزيادته”، حسبما نقلت عنه وكالة “بلومبيرج“.
“هناك شعور في قطر بأن هيمنة السعودية على المنطقة وعلى كثير من المؤسسات فيها لها أثر معاكس على تحقيق قطر لأهدافها التنموية.. يتعلق الأمر بتحرر قطر كسوق ودولة مستقلة من التدخل الخارجي” أندرياس كريج
شكيب خليل وزير الطاقة الجزائري السابق ورئيس أوبك سابقًا تعليقًا على قرار قطر قال: “قد تكون إشارة على نقطة تحول تاريخية للمنظمة باتجاه روسيا والسعودية والولايات المتحدة”، مضيفًا أن خروج الدوحة سيكون له أثر نفسي بسبب الخلاف مع الرياض وقد يضرب مثلاً يتبعه أعضاء آخرون في أعقاب القرارات الأحادية للسعودية في الأشهر الأخيرة.
فيما ذهب أندرياس كريج محلل المخاطر السياسية لدى كلية كينجز لندن بأن هناك شعورًا في قطر بأن هيمنة السعودية على المنطقة وعلى كثير من المؤسسات فيها لها أثر معاكس على تحقيق قطر لأهدافها التنموية، يتعلق الأمر بتحرر قطر كسوق ودولة مستقلة من التدخل الخارجي، حسبما نقلت “رويترز”.
أما “نيويورك تايمز” فنقلت عن أيهم كامل رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في شركة Eurasiagroup، قوله إن المملكة العربية السعودية وروسيا تمليان شروطًا فيما يتعلق بالإنتاج وهو ما أثار غضب واستياء أعضاء أوبك الآخرين على رأسهم إيران، لافتًا أن تلك الهيمنة قد تكون أحد دوافع الدوحة للانسحاب من المنظمة التي باتت أسيرة أجندات دول بعينها.
وزير الدولة لشؤون الطاقة القطري سعد الكعبي
أوبك على المحك
ليام دينينج الصحفي المتخصص في الطاقة ورئيس التحرير السابق لـ”وول ستريت جورنال” استعرض في تقرير له عددًا من الدوافع التي قادت الدوحة إلى قرار الانسحاب، كاشفًا أن “أوبك” باتت مؤسسة غير مجهزة للتكيف مع التطورات المتلاحقة التي تحدث بأسواق النفط العالمية.
التقرير تطرق إلى أن اعتماد المنظمة على أسواق إنتاجية خارج قائمة أعضائها في إشارة إلى روسيا يكشف حجم الصعوبات التي يواجهها هذا الكيان، هذا بخلاف التأرجح في قرارات زيادة الإنتاج وانخفاضها التي تأتي في معظمها استجابة لرغبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كاشفًا عن احتمالية إعلان أوبك خفض إمداداتها من النفط بما لا يقل عن مليون برميل يوميًا لوقف الانحدار الأخير في الأسعار.
مبرر آخر ساقه دينينج دفع بقطر لأن تنأى بنفسها عن تلك المجموعة، يتعلق باحتمال قيام ترامب بدعم تشريعات مناهضة للمنظمة في الكونغرس، هذا بخلاف تداعيات نقاط الضعف التي تعاني منها وجعلتها غير ملائمة لتشكيل سوق نفط أكثر ديناميكية.
قد يعتقد البعض أن انسحاب قطر من أوبك لن يؤثر مطلقًا على المنظمة في ظل انخفاض إنتاجها من النفط وهو ما عزفت عليه الكثير من وسائل الإعلام، لا سيما السعودية والإماراتية، غير أن ردود الفعل الغربية تشير إلى عكس ذلك، فبحسب خبراء لـ”نيويورك تايمز” فإن قرار الدوحة ترك المنظمة بعد ستة عقود من العضوية يشكل ضربة موجعة للمجموعة وعلامة قوية على التوتر بداخلها، فضلاً عما تشير إليه من تراجع نفوذها التاريخي.
أفرزت سياسات الرياض حالة من الامتعاض داخل أوبك، قوضت نفوذها الدولي، وأرضختها لإملاءات خارجية تهدد دورها التاريخي، وهو ما دفع البعض إلى التحذير من انفراط عقدها خلال المرحلة المقبلة
معلوم أن أوبك خلال العامين الماضيين تمكنت من التوصل إلى قرار لخفض الإنتاج من النفط بهدف السيطرة على الفائض بعدما تراجعت الأسعار بصورة تهدد الدول المنتجة، حتى وصلت إلى 30 دولارًا للبريمل في 2016، حيث اتفقت فيما بينها بجانب بعض الدول النفطية الأخرى من خارجها كروسيا على خفض الإنتاج بمقدار 1.8 مليون برميل يوميًا.
في يوليو الماضي، انتقد ترامب سياسات أوبك وطالبها بزيادة معدلات إنتاجها في محاولة لخفض الأسعار بعدما ارتفعت بصورة كبيرة وصلت إلى حاجز الـ80 دولارًا، كما جدد مطالبته الرياض بزيادة إنتاجها مليوني برميل نفط يوميًا وهو الرقم الذي استبعد خبراء إمكانية استجابة المملكة له فنيًا.
في الـ30 من يونيو الماضي غرد ترامب بأنه اتصل بالعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز وطالبه بأن ترفع بلاده إنتاجها من النفط لتعويض النقص بسبب الأوضاع في إيران وفنزويلا، وأن سلمان استجاب لطلبه، مضيفًا “لدي علاقة جيدة جدًا مع الملك وولي عهد السعودية والمحيطين بهما، وسيتعين عليهم ضخ مزيد من النفط”.
لا يملك ترامب تأثير على #أوبك-ولا تأتمر بأمره-ترامب قرع أوبك للمرة الثالثة في إشهر-ويتهمها بالاحتكار ورفع الأسعار(يهمه خفض أسعار البنزين حتى لا يخسر حزبه انتخابات نوفمبر)ويمنن دول أوبك التي تؤمن أمريكا حمايتهم بثمن بخس!(ماذا عن صفقات الأسلحة؟!والقواعد المجانية؟)خفضوا السعر الآن"! https://t.co/SuqA21afdn
— عبدالله الشايجي Prof (@docshayji) July 4, 2018
Just spoke to King Salman of Saudi Arabia and explained to him that, because of the turmoil & disfunction in Iran and Venezuela, I am asking that Saudi Arabia increase oil production, maybe up to 2,000,000 barrels, to make up the difference…Prices to high! He has agreed!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) June 30, 2018
خبراء الطاقة توقعوا إمكانية أن تضخ السعودية نحو 800 ألف إلى مليون برميل يوميًا كحد أقصى، استجابة لرغبة ترامب الذي لجأ إلى أسلوب المقايضة، زيادة الإنتاج مقابل الحماية، مستبعدين الوصول إلى حاجز المليونين قبل عام على أقل تقدير، حسبما نقل “الجزيرة” عن موقع “بزنس إنسايدر”.
يذكر أن الانسحاب القطري من أوبك ليس الحالة الوحيدة، فخلال تاريخ المنظمة انسحبت 3 دول، عادت منهما اثنتان مجددًا، البداية كانت مع الأكوادور عام 1992، وظلت عضويتها معلقة لحين عودتها عام 2007 حيث عادت إليها من جديد، ثم الغابون عام 1995، لتعود إليها عام 2016 وأخيرًا إندونيسيا التي أعلنت تعليق عضويتها عام 2016 بعد أن تحولت إلى دولة مستوردة للنفط وليست مُصَدِّرة له.
وهكذا أفرزت سياسات الرياض حالة من الامتعاض داخل أوبك، قوضت نفوذها الدولي، وأرضختها لإملاءات خارجية تهدد دورها التاريخي، وهو ما دفع البعض إلى التحذير من انفراط عقدها خلال المرحلة المقبلة، ولعل التحرك القطري الذي جاء لينأى بنفسه عن المنظمة حلقة واحدة ضمن مسلسل الانسحابات المتوقعة مستقبلاً.