عادة ما ينغمس عامة الناس في التفكير بمشاغلهم اليومية وظروفهم الروتينية، ونادرًا ما يفكرون بالمستقبل ومفاجآته، إلا أن هذا المحور بحد ذاته يعد الشاغل الأساسي لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع والأموال الذين يحاولون استباق الوقت وتخطي الحاضر للتعرف على التغيرات المستقبلية التي ستشكل الاقتصاد العالمي وأنماط الحياة الاجتماعية، لأن ذلك سيمنحهم فرصة كبيرة في قيادة المجالات والقطاعات التي ستحتل سوق العمل والاستثمار فيها.
يدلنا كتاب “صناعات المستقبل” للكاتب أليك روس على أهم التقنيات والوظائف المطلوبة في المستقبل ويعيرنا لمحة عن دور بعض القطاعات في تصنيع المستقبل وتحدياته مثل الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات والتكنولوجيا المالية وتقنية “البلوك تشين” والبيانات الضخمة والتعديل الجيني والعملات الإلكترونية المشفرة والحرب الإلكترونية، وهي الجوانب التي كانت تعتبر في يوم من الأيام خيالًا علميًا أو مشهدًا تمثيليًا في فيلم أمريكي، إلا أنها تعد حاليًّا أساس الحياة وسوق العمل في العصر الواحد والعشرين وما بعده، ونظرًا لذلك يصور لنا الكتاب تأثير هذه التطورات على نمط حياتنا وأسلوب عملنا في المستقبل.
جدير بالذكر أن الكاتب روس كان يعد واحدًا من كبار مستشاري هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة خارجية، وله خبرة واسعة مع المستثمرين ولذلك يعد كتابه المكون من 305 صفحات مرجعًا ومزيجًا جيدًا من القصص والتحليل الاقتصادي المدعوم بحوادث تاريخية ودراسات علمية موثوقة، كما لا يكتفي الكاتب باستشراف المستقبل واستعراض تغيراته وإنما يبين بعض الحلول لتخطي الأزمات المستقبلية كتراجع دور الإنسان في بعض الصناعات وسيطرة الروبوتات عليها وانهيار الدول التي لم تستطع مواكبة العصر الرقمي.
الإنسان والرجل الآلي
في البداية، يخبرنا روس بأن الروبوتات ستفعل أشياء مستحيلة بالنسبة للبشر في المستقبل القريب، فرغم قدرتها على تحرير الإنسان من المهمات الروتينية ودفعه إلى إنجاز وظائف أكثر إنتاجية، سيكون هناك تداعيات ثقافية وأخلاقية على المجتمع مع فقدان اللمسة الإنسانية، ومع ذلك فهي ستكون جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، فمن خلال مراقبة التوجهات والدراسات الحاليّة، يمكن أن نستنتج أن الروبوتات سيكون لها دور كبير في قطاع العمالة والمجال الطبي.
وفي هذا الخصوص، يوضح لنا روس أن درجة انتشار الروبوتات ونجاحها تعتمد على مدى تقبلها ثقافيًا في بلد ما، فعلى سبيل المثال، تنظر الدول الغربية إلى الروبوتات على أنها آلات بلا روح وتخاف من وجودها بشكل عميق، على العكس من الدول الآسيوية مثل اليابان التي لها ميل ثقافي واضح نحو الروبوتات، فهي تقود العالم في مجال الروبوتات وتملك ثلثها تقريبًا وتليها الصين والولايات المتحدة وكوريا وألمانيا (من حيث مبيعات الروبوت) ما يعني أن تكنولوجيا الروبوتات ستحقق ذروة نجاحها المستقبلية في هذه الدول.
ستتولى الروبوتات مهام مثل التدريس والرسم والعمل كنادل ومساعد قانوني وحارس أمني، وهي الجوانب التي تستثمر الصين فيها بشكل كبير لأنها تواجه منافسة كبيرة من فيتنام
ويضيف إلى ذلك حاجة اليابان الماسة لهذه التكنولوجيا على اعتبار أنها موطن لأكبر عدد من المسنين في العالم، وبحاجة للاستعانة بالروبوتات لملء الفراغ الذي لديها، فمن خلالها يمكن أن توفر الرعاية لكبار السن وتساعد المرضى على التنقل والحركة، عدا عن استخدامها في التمريض والعمليات الجراحية والتخدير، ومن ناحية أخرى، ستتولى الروبوتات مهام أخرى مثل التدريس والرسم والعمل كنادل ومساعد قانوني وحارس أمني، وهي الجوانب التي تستثمر الصين فيها بشكل كبير لأنها تواجه منافسة كبيرة من فيتنام فيما يخص تكلفة العمالة أو الموارد البشرية.
يختتم روس هذا الفصل بما تنبأ به مجموعة من خبراء في علم الروبوتات من جامعة كاليفورنيا وهو أن “الروبوتات سوف تصبح بشرية بشكل متزايد، لكن الفجوة بينها وبين البشر ستبقى”، والبلدان التي ستكون في وضع اقتصادي جيد هي التي تقوم بتطوير وتصنيع الروبوتات وبالأخص كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا.
الحرب الإلكترونية
يقول روس إنه في السنوات القادمة، سيتم تقييم العاملين في سوق العمل بحسب خبرتهم في مجال الإنترنت ومن لا يتمتع بهذه المعرفة فلن يكون له فرصة للبقاء، فبحسب رأيه يخوض العالم حاليًّا حربًا إلكترونية مكلفة ولها 3 أنواع، الأولى تستهدف معلومات الشركة وملفاتها السرية والثانية تهاجم نزاهتها وصورتها العامة والأخيرة تحارب انتشارها.
ولذلك يعد الأمن السيبراني سمة أساسية في جميع المنتجات التي يجري تسويقها وتطويرها للغد، التي من المحتمل أن تدار بشكل مباشر من الحكومات، وهي صناعة تنمو بشكل متزايد، فبحسب الإحصاءات الماضية والترجيحات المستقبلية، فإن قيمتها تتراوح من 3.5 إلى 175 مليار دولار ما بين العام 2000 و2020.
تشير الإحصاءات إلى تضاعف قيمة صناعة الأمن الرقمي ولذلك يتوقع المؤلف أن تكون هناك شركات ضخمة تشق طريقها من صفوف الشركات الناشئة
في هذا الجانب، يسرد روس تاريخ الهجمات الإلكترونية وتكلفتها التي تسببت في خسارة المليارات من الدولارات في غضون دقائق في العديد من دول العالم، مثل الاختراقات المتعددة التي قامت بها الصين بشكل متكرر وسرقت ما يقدر قيمته بـ300 مليار دولار سنويًا من براءات الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالجانب إلى الخسارة المادية يرى مدير الاستخبارات الأمريكية جيمس كلارير، أن “الهجمات السيبرانية تشكل تهديدًا طويل الأمد للأمن القومي أكثر من المنظمات الإرهابية”، ولذلك يعتقد أن الاعتماد على التكنولوجيا سيؤدي إلى عواقب وخيمة، ونظرًا لهذا التخوف والأرقام التي تشير إلى تضاعف صناعة الأمن الرقمي – 3.5 مليار دولار في عام 2000، و64 مليار دولار في عام 2011، و78 مليار دولار عام 2015، و120 مليار دولار في عام 2017 – يتوقع المؤلف أن تكون هناك شركات ضخمة تشق طريقها من صفوف الشركات الناشئة.
علم الجينوم
يتوقع روس أن قيمة قطاع علم الجينوم ستبلغ تريليون دولار، وسيستطيع العلماء من خلالها إطالة عمر البشر، فمن بين عامي 1910 و2010 أدى تحسن الرعاية الطبية إلى زيادة العمر البشري بنسبة 50% ومع ظهور التكنولوجيات الجديدة يمكن إطالته إلى 75%، ومن المحتمل أن تتنافس أمريكا والصين على ريادة هذا المجال، إذ تنفق الصين 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير وأسس مجلس الدولة الصيني البحوث الجينية كركيزة اقتصادية لطموحاتها الصناعية في القرن الواحد والعشرين.
تهدف هذه التقنية إلى القضاء على الأمراض التي تقتل مئات الآلاف من الناس في العام الواحد، وتعريف الناس بمعلوماتهم الجينومية الموروثة لتصميم أفضل نمط حياة مناسب لهم، كما تحاول الاستفادة من الهواتف النقالة في ذلك، من خلال تقديم الرعاية الصحية عبر تطبيقات إلكترونية يمكنها تشخيص ومراقبة الأمراض والتنبؤ بوقوعها ومضاعفاتها أو علاجها، وذلك من خلال دراسة خريطة الجينوم منذ تكون الجنين خلال الأشهر الأولى من الحمل.
من المحتمل أن تتنافس أمريكا والصين على ريادة هذا المجال، إذ تنفق الصين 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير
على سبيل المثال، اكتشف العلماء 150 جينومًا يسببون مرض السرطان، ومن خلال تحليل خريطة جينات الشخص يمكن التنبؤ ما إذا كان معرضًا للسرطان في المستقبل أو أي أنواع منه، ويمكن قياس ذلك على بعض الأمراض الأخرى مثل أمراض القلب والرعاش، وفي أحيانٍ أخرى قد يعدل العلماء بعض هذه الجينات لحماية الإنسان من المرض أو الوفاة، أو رغبةً في الحصول على صفة ما.
في النهاية كانت هذه لمحة سريعة عن بعض التغيرات المستقبلية والتطورات التي ستنمو بشكل متزايد في السنوات القادمة التي من شأنها أيضًا أن تشكل مستقبلنا المهني والاجتماعي والصحي والتعليمي، ولذلك يعد هذا الكتاب أولى خطوات الاستعداد لهذه المرحلة التي تتطلب منا تكيفًا تامًا مع طبيعة العمل المتغيرة ومع المنافسة المتصاعدة في الصناعات التي ذكرناها باختصار في التقرير وأخرى كالبيانات الضخمة والعملات الرقمية، وعلى هذا الأساس يمكن أن نعي كيف سيبدو سوق العمل في الغد وما المطلوب منا ومن الأجيال القادمة.