في يوليو/تموز 2016، وصل دوري غولد الذي كان مديرًا لوزارة الخارجية الإسرائيلية على رأس وفد إسرائيلي بالطائرة الخاصة إلى مسقط رأس الرئيس التشادي إدريس ديبي، وهي قرية تبعد 1300 كيلومتر عن العاصمة أنجمينا، هبطت الطائرة في الصحراء، ونقل جنود تشاديون الوفد الإسرائيلي إلى القرية في سيارات جيب إلى منزل ديبي، الواقع على بعد 70 كيلومترًا من الحدود مع السودان.
استضاف ديبي الوفد الاسرائيلي برئاسة غولد المقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأجرى الطرفان مباحثات مشتركة في محاولة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن المحاولة باءت بالفشل، بسبب ما اعتبرته تشاد حينها توقيتًا غير موفق وغير مناسب، حتى بعد مشاركة نتنياهو في القمة الإفريقية لدول مجموعة غرب إفريقيا، ولقاءات القمة التي عقدها في كينيا.
رفض غولد وقتها الإفصاح عن تفاصيل المحادثات التي أجراها مع الرئيس التشادي، لكنه أكد أن زيارته تأتي في إطار الزخم السياسي الذي بدأه نتنياهو في إفريقيا، ومنذ ذلك الوقت، كان من الواضح أن البلدين يسيران حثيثًا نحو استئناف العلاقات بينهما بعد أن قطعت تشاد علاقاتها مع “إسرائيل” عام 1972.
بعد عامين من هذه الزيارة تكللت الجهود الدبلوماسية لغولد بزيارة أخرى، لكن هذه المرة على مستوى أعلى وفي قلب القدس المحتلة، ففي يوم الأحد 25 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دخل ديبي إلى خشبة المسرح الإسرائيلي بشكل علني متفاخرًا بأن العلاقات بين بلاده وتل أبيب لم تنقطع فعليًا، وإنما استمرت من تحت الطاولة أو في غفلة من الجمهور.
بالفيديو: اللقاء التاريخي بين رئيس الوزراء نتنياهو ورئيس تشاد فخامة الرئيس إدريس ديبي بأورشليم. pic.twitter.com/xIIvOVcCmR
— بنيامين نتنياهو (@Israelipm_ar) November 25, 2018
تهافت إفريقي على التطبيع
لم يكن ديبي ليدخل في دائرة اهتمامات المواطن العربي خصوصًا في المشرق العربي لولا خطوته التي بدت مفاجئة للكثيرين، لكنها لم تكن مفاجئة من حيث التوقيت، فالشهور الأخيرة شهدت استئناف الاتصالات الدبلوماسية المكثفة مع مستشارين إسرائيليين، التي أسفرت عن زيارة هي الأولى من نوعها، وصفها نتنياهو بـ”التاريخية”.
وكجزء من الجهود التي بذلت من وراء الكواليس في الأشهر الأخيرة بين “إسرائيل” وتشاد، عُقد اجتماع سري في نيويورك أواخر سبتمبر/أيلول بين مستشار الأمن القومي مئير بن شبات ووزير خارجية تشاد شريف محمد زين، وقد مهد هذا الاجتماع الطريق أمام وصول وفد إسرائيلي رفيع المستوى إلى تشاد بعد بضعة أيام.
كانت تشاد مستهدفة كدولة لسلخها عن دائرة الدول الإفريقية الممانعة لدولة الاحتلال، واستمالتها إلى المحور الإسرائيلي المتشكل في إفريقيا
وفي ظل وجود بيئة إفريقية كانت تتحفظ على التطبيع مع “إسرائيل” بسبب الرفض الشعبي الإفريقي لجرائم الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني، تطرح الزيارة التي أدَّاها الرئيس التشادي قبل أيام لـ”إسرائيل” الكثير من الأسئلة وعلامات الاستغراب، خاصة بعد أن كشف ديبي في حديث خاص للصحافة الإسرائيلية أن تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” سيتم خلال الأسابيع القريبة، ووجَّه دعوة رسمية لنتنياهو بزيارة أنجمينا، وهو ما صرح به نتنياهو بأنه ينتوي زيارة تشاد قريبًا.
وكأن ذلك لم يكن كافيًا لنتنياهو، فقد استغل المؤتمر الصحفي المشترك مع ديبي، ليعلن زيارته القريبة إلى دول عربية وإسلامية أخرى، وعزمه التقرب منها أكثر من أي وقت مضى، سارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد أقل من ساعة للقول إن الوجهة القادمة لرئيس وزرائها ستكون دولة السودان، في حين أعلن مصدر دبلوماسي إسرائيلي رفيع أن تل أبيب تجري مفاوضات متقدمة لتطبيع العلاقات مع البحرين.
وبعد الكشف عن جهود تبذل لتسوية العلاقات مع السودان، أكدت وسائل إعلام إسرائيلية أن مبعوثًا عن وزارة الخارجية الإسرائيلية اجتمع قبل مدة سرًا مع مسؤولين سودانيين في إسطنبول، ومن بين أهداف الزيارة المرتقبة تقليص مسافة الرحلات الجوية بين “إسرائيل” والقارة الأمريكية الجنوبية، وهو الأمر الذي يستلزم استخدام المجال الجوي لكل من السودان وتشاد.
الرئيس التشادي إدريس ديبي خلال زيارته نصب ياد فاشيم بالقدس
لم يشأ ديبي أن يكون وحده في لعبة التطبيع المعلن، فقد أبدى استعداد بلاده للمساهمة في تحديث العلاقات بين “إسرائيل” والسودان والتوسط بينهما، فالدور الذي يُتوقع أن يقوم به يتجاوز العلاقات الثنائية مع تل أبيب إلى لعب دور “حصان طروادة” الذي يفتح القنوات التطبيعية والسياسية والاقتصادية والأمنية أمام “إسرائيل” في إفريقيا، خصوصًا المحيط العربي الهش والمتداعي والمتصدع.
وعلى الرغم من أن دولة الاحتلال، تمكنت من خلال سياسة المثابرة – منذ عودة نتنياهو للحكم في العام 2009 – من اختراق القارة السمراء وصولاً إلى استعادة علاقاتها الدبلوماسية المعلنة مع عدد من الدول الإفريقية، فإن تصريحًا عابرًا لغولد – الذي يشغل حاليًّا منصب رئيس مركز القدس للشؤون العامة – يبيّن أن تشاد كانت مستهدفة كدولة، لسلخها عن دائرة الدول الإفريقية الممانعة لدولة الاحتلال، واستمالتها إلى المحور الإسرائيلي المتشكل في إفريقيا مسنودًا بزخم الدعم الأمريكي المطلق لحكومة الاحتلال.
وثمة أسباب أخرى دعت “إسرائيل” إلى تعزيز العلاقات مع تشاد أولاً، رغم كونها دولة إسلامية صغيرة، أهمها موقعها الجغرافي السياسي، بما يعطيها أهمية إستراتيجية، نظرًا لتأثيرها المحتمل على الدول المجاورة، وبالتالي، لم يكن جر تشاد إلى مسرح التطبيع عفويًا ولا من باب القبول بدولة تقبل بعلاقات رسمية مع “إسرائيل” فحسب.
ضوء أخضر خليجي
لم تكن زيارة الرئيس التشادي إلى تل أبيب ولقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس دولة الاحتلال رؤبين ريفلين لتتم الآن لولا موجة التطبيع والتسابق العربي والخليجي للفوز باستقبال نتنياهو، وآخرها زيارة نتنياهو إلى سلطنة عُمان، ما شجع البلدان الإفريقية على ذلك.
تطبيع علني للدول المسلمة مع “إسرائيل” كرّسته زيارة نتنياهو المُفاجِئة إلى مسقط، وفتحت بابًا إلى دول الخليج العربي، عادة ما كان يغلق أمام الإسرائيليين، وتبعها عدد من أعضاء حكومته في زيارات للمنطقة، إذ سافر وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرا، وهو مواطن عربي درزي، بدعوة من الإمارات، لحضور مؤتمر دولي للاتصالات بدبي، يوم الإثنين 29 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، في حين شارك وزير النقل والمواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتز، في مؤتمر دولي آخر انعقد شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي في عُمان، حسب تقرير لوكالة “بلومبرج” الأمريكية.
تشير زيارة الرئيس التشادي في هذا التوقيت إلى أن الصلة الوثيقة التي تربط الرئيس التشادي بحاكميْ الرياض وأبو ظبي تطرح احتمالاً كبيرًا بأن تكون هاتان الدولتان الخليجيتان وراء هذه الزيارة
في حين زارت وزيرة الثقافة والرياضة ميري ريغيف – وهي واحدة من أكثر أعضاء مجلس وزراء نتنياهو تشددًا فيما يتعلق بالعلاقات مع الفلسطينيين – يوم الإثنين 29 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، مسجد الشيخ زايد بأبو ظبي، وهو ثالث أكبر مسجد في العالم، بعد يوم من سماع النشيد الوطني الإسرائيلي وهو يُعزَف في بطولة “غراند سلام أبو ظبي” الكبرى للجودو التي فاز فيها فريق الجودو الوطني الإسرائيلي بميدالية ذهبية.
وفي سياق تسارع وتيرة التطبيع مع “إسرائيل” على الضفة الخليجية، تشير زيارة الرئيس التشادي في هذا التوقيت إلى أن الصلة الوثيقة التي تربط الرئيس التشادي بحاكميْ الرياض وأبو ظبي تطرح احتمالاً كبيرًا بأن تكون هاتان الدولتان الخليجيتان وراء هذه الزيارة، خاصة بعد أن كشفت تسريبات صحفية – نشرت في الأشهر والأسابيع الأخيرة – وجود مخططات لدى قيادة الحكم بالسعودية والإمارات لبناء تحالف إستراتيجي مع “إسرائيل”.
وبحسب الكاتب والباحث الموريتاني المتخصص في الشؤون الإفريقية سيدي ولد عبد المالك، يمكن الجزم بأن الرئيس التشادي ما كان ليجرؤ على القيام بزيارة رسمية لـ”إسرائيل” بهذا التوقيت لولا الضوء الأخضر السعودي والإماراتي، فقد يكون ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يسعى بذلك لدفع قسط من أثمان مساندة نتنياهو له، في حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بالقنصلية السعودية في إسطنبول.
فلا يُعقل أن يزور حليف قوي للسعودية والإمارات – مثل إدريس ديبي – “إسرائيل” دون أن تكون هناك موافقة مبدئية منهما على ذلك، فالرياض التي أبدت انزعاجها قبل سنة من موقف سلطات توغو التي كانت تعتزم تنظيم قمة إسرائيلية/إفريقية، ووجهت استفسارًا وقتها للقائم بالأعمال التوغولي بالرياض بشأن ذلك، لا يمكن أن يزور حليفها ديبي “إسرائيل” دون رضاها، أو على الأقل إشعارها بهذه الخطوة.
لعل ما يدعم هذه الاحتمالات أن مظاهر العلاقات الوثيقة للرئيس التشادي مع الرياض وأبو ظبي تتجلى في مساندته القوية لنظاميْ البلدين في الأزمة الخليجية وخلافهما مع قطر، حيث اضطرت تشاد لقطع علاقاتها مع قطر بضغط سعودي، قبل أن تتراجع لاحقًا عن هذه الخطوة بعد 8 أشهر.
بل ذهب ديبي بعيدًا في الانجرار وراء حلف الرياض/أبو ظبي حين رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين أنجمينا وأبو ظبي إلى مستوى سفارة، بعد أن كانت مصالح تشاد تتم رعايتها من قنصلية، وعيِّن على رأس هذه السفارة قبل أشهر نجله الثلاثيني زكرياء ديبي الذي يؤهله لخلافته في السلطة وفق تقارير صحفية، ليكون بذلك ثاني رئيس يختار نجله سفيرًا في أبو ظبي بعد الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح.
مكاسب إسرائيلية
يتناغم الخطاب السعودي الموجه لإفريقيا في الآونة الأخيرة مع الخطاب الإسرائيلي، حيث يتصدر موضوع الأمن وضرورة تنسيق الجهود من أجل محاربة الإرهاب في القارة الإفريقية، أجندة البلدان في أي لقاء مسؤول إفريقي، وهو ما جرى خلال اللقاء الأخير بين ديبي ونتنياهو، فقد أورد موقع “ديبكا” الإسرائيلي أن الرئيس التشادي يسعى – عبر زيارته لتل أبيب – لإقناع “إسرائيل” بالمشاركة في الحرب ضد تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة “داعش” في أنحاء القارة الإفريقية، ولضمها إلى جهود الولايات المتحدة وفرنسا المكرسة لذلك في هذه المنطقة.
وبالنظر إلى أهمية الاستثمار في الملف الأمني بمنطقة الساحل، يمكن القول إن “إسرائيل” نجحت في استدراج السعودية للتناغم معها في ذات اللغة التي استخدمتها لتشويه المقاومة وربطها بالإرهاب، حيث اتخذت “إسرائيل” من ظهور “الجماعات الجهادية” في إفريقيا – طوال الأعوام الأخيرة – شماعة لوصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واعتبارها هي والجماعات الإفريقية المسلحة وجهين لعملة واحدة، مستفيدةً من ضعف فهم النخب السياسية الإفريقية لأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي، بسبب تأثير الإعلام الغربي الخادم للمشروع الإسرائيلي.
وكما تستفيد “إسرائيل” من الاستثمار في الملف الأمني، فإنها تستفيد أيضًا من الناحية السياسية والاقتصادية، فبالإضافة إلى أهمية زيارة رئيس الدولة الإسلامية تشاد إلى “إسرائيل” في توطيد العلاقات مع الدول المسلمة المجاورة، ودول وسط إفريقيا الأخرى مثل مالي والنيجر والسودان، فإن أهدافها الخفية تكمن في السماح برحلات جوية بين “إسرائيل” وأمريكا اللاتينية حول تلك الدول، في المرحلة الأولى عبر شركات طيران أجنبية.
هناك ضرورة وحاجة ملحة لأن يسمح السودان لشركات الطيران الأجنبية بالمرور عبر المجال الجوي السوداني في طريقها إلى “إسرائيل” من أمريكا الجنوبية
ولتحقيق هذا الهدف، هناك ضرورة وحاجة ملحة لأن يسمح السودان لشركات الطيران الأجنبية بالمرور عبر المجال الجوي السوداني في طريقها إلى “إسرائيل” من أمريكا الجنوبية، وهو ما دفع “إسرائيل” إلى البحث عن سبل لتوطيد علاقتها مع السودان.
بالإضافة إلى ما سبق، تبدو المصالح الإسرائيلية واضحة في تشاد، بدءًا من الطمع الإسرائيلي بالوصول إلى مناجم اليورانيوم لاستغلالها بالصناعة النووية، بما يضمن المدخول الاقتصادي والمالي الملازم في الوقت ذاته لتأثير سياسي كبير بفعل “ضمان استقرار أمن وحكم” الرئيس التشادي، إدريس ديبي الذي لم تتورع صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن وصفه في تقرير على موقعها بالرئيس الطاغية الذي يمنع التظاهرات ويعتقل المعارضين.
كذلك، فإن تأمين دور “إسرائيل” في حماية الاستقرار لنظام ديبي، مصحوب بمكسب دعائي لـ”إسرائيل” في تكريس نفس معادلة “محاربة التطرف الإسلامي والخطر الإسلامي” (المعمول بها تجاه دول الخليج في مواجهة إيران)، باستغلال واقع تشاد وهجمات تنظيم “بوكو حرام” من الحدود مع نيجيريا، والتحديات التي تفرضها جماعات معارضة، بينها إسلامية من الحدود مع السودان.