“لم يكن يدور بمخيلتي أن للعمل التطوعي قيمة ومكانة إلا بعد أن انخرطت في أحد أنشطته وخضت واحدة من التجارب التي غيرت معتقداتي عن الأعمال الخيرية والمجتمعية، لقد اكتشفت مؤخرًا أن العمل التطوعي أحد أبرز الركائز الأساسية لبناء المجتمعات”، بهذه الكلمات استهلت الدكتورة فاطمة الجبالي الأستاذ بجامعة الفيوم، حديثها مستعرضة تجربتها مع العمل التطوعي.
الجبالي في حديثها لـ”نون بوست” أشارت إلى أن المجتمع العربي وما به من تفاصيل كثيرة بحاجة ماسة لتفعيل ثقافة العمل التطوعي وإعادة النظر في الكثير من المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في أذهان الشريحة الأكبر، مختتمة كلامها بأن التطوع في عالمنا العربي بات ضحية أسباب ودوافع كثيرة.
يحتفل العالم في الـ5 من ديسمبر/كانون الأول من كل عام بيوم التطوع العالمي، وهو اليوم الذي تنظر إليه الجمعية العامة للأمم المتحدة كونه فرصة فريدة للمتطوعين والمنظمات للاحتفال بجهودهم وتقاسم قيمهم وتعزيز عملهم فيما بين مجتمعاتهم المحلية والمنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة والسلطات الحكومية والقطاع الخاص.
ولا شك أن الدور الذي يؤديه العمل التطوعي وما يتسم به من تنوع وديناميكية سعيًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة يستحق دعمًا قوميًا من الحكومات والجهات المعنية الأخرى، فالرسالة التي ينشرها غاية في السمو وتحتاج إلى تضافر الجهود كافة كما أكد على ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
بناء مجتمعات قادرة على الصمود
ركزت الأمم المتحدة منذ القرار A/RES/40/212 الصادر في 17 من ديسمبر/كانون الأول 1985، على استخدام اليوم الدولي للمتطوعين في تحقيق حزمة من الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة، وهي مجموعة من الأهداف المحددة زمنيًا لمكافحة الفقر والجوع والمرض والأمية والتدهور البيئي والتمييز ضد المرأة.
الاحتفال بهذا اليوم وتنظيم فعالياته ليس حكرًا على الجمعية الأممية فحسب، بل حصاد شراكة مع الحكومات والمنظمات التطوعية والأفراد الملتزمين، وغالبًا ما يشارك ممثلون عن وسائل الإعلام أو الأوساط الأكاديمية والمؤسسات والقطاع الخاص والجماعات الدينية والثقافية والرياضية والترفيهية، المنظمات أيضًا.
قرابة بليون شخص في العالم يكرسون وقتهم ومهاراتهم للعمل التطوعي بهدف جعل العالم مكانًا أفضل، أغلبهم يكون فترة الأزمات والكوارث
وقد حددت الأمم المتحدة موضوع هذا العام تحت عنوان “المتطوعون يساهمون في بناء مجتمعات قادرة على الصمود”، حيث التركيز على جهود التطوع التي تعزز الملكية المحلية وقدرة المجتمع على مواجهة الكوارث الطبيعية والضغوط الاقتصادية والصدمات السياسية.
وتتواصل فعاليات المنظمة وبرنامج المتطوعين بها في شتى أنحاء العالم، عبر تعبئة الآلاف من المتطوعين سنويًا، ففي كل عام، يعمل أكثر من 6500 من متطوعي الأمم المتحدة مع كيانات الأمم المتحدة في بعض البيئات الأكثر صعوبة في جميع أنحاء العالم، ويقوم 12000 من متطوعي الأمم المتحدة عبر الإنترنت بأكثر من 20 ألف مهمة من خلال خدمة متطوعي الأمم المتحدة على الإنترنت.
هناك العديد من التجارب التطوعية حول العالم التي لفتت أنظار الجميع، ففي ملاوي، عمل متطوعو الأمم المتحدة بصفتهم مترجمين شفويين، حيث قاموا بربط اللاجئين بالمؤسسات التي تقدم المساعدة، كذلك في سري لانكا، ساعد المتطوعون في وضع مشروع يرمي إلى تمكين النساء والشباب للمشاركة في جهود بناء السلام.
من فعاليات اليونيسيف لتعليم الأطفال في إفريقيا
أرقام وحقائق
يحتل العمل التطوعي مكانة مرموقة لدى الكثير من الأمم والشعوب، فهناك قرابة بليون شخص في العالم يكرسون وقتهم ومهاراتهم للعمل التطوعي بهدف جعل العالم مكانًا أفضل، أغلبهم يكون فترة الأزمات والكوارث، فهم ينشئون الروابط الاجتماعية ويعملون من أجل إسماع صوت الفئات المهمشة والضعيفة، ومحاولة بناء مجتمعات محلية قادرة على الصمود، وتهيئة الناس ليكونوا قادرين على مواجهة الكوارث الطبيعية والقلاقل السياسية والصدمات الاقتصادية، وغير ذلك من الضغوط.
وتبلغ عدد الجمعيات الخيرية غير الربحية في دولة كأمريكا على سبيل المثال قرابة مليون ونصف جمعية، وفي بريطانيا نحو 350 ألف جمعية يعمل بها ما يقرب من 22 مليون شخص سنويًا، بينما في فرنسا قاربت 600 ألف جمعية، تبلغ حصيلة التبرعات بها مئات المليارات من الدولارات.
70 % من أبناء الوطن العربي لا يترجمون ثقافة العمل التطوعي في تدعيم ركائز المؤسسات الحكومية، ومن ثم يتفاقم مأزق العمل التطوعي عربيًا وهو ما يؤثر بشكل أو بآخر على إثراء الموهبة العربية
ثقافة التطوع عربيًا
في دراسة إحصائية أصدرتها “مؤسسة غالوب” الأمريكية عام 2016 عن مدى اهتمام المواطنين في 140 بلدًا حول العالم بالأعمال الخيرية التطوعية، كشفت أن العرب في صدارة الجنسيات التي تظهر استعدادًا لمساعدة الآخرين، رغم الإمكانات المحدودة في الكثير من البلدان.
الدراسة التي ضمت 145 ألف شخص من بينهم عرب، توصلت إلى نسبة العطاء عالية وواضحة لدى الأفراد المقيمين في بلدان ميسورة، لكنها في الوقت ذاته أكدت أن هذا ليس معيارًا ثابتًا، إذ إن هناك أشخاصًا من بلدان غير ميسورة أظهروا نسبة العطاء مرتفعة جدًا أيضًا، لأسباب ثقافية واجتماعية.
قلة الأرقام والإحصاءات الخاصة بالعمل التطوعي في الدول العربية تكشف وبشكل كبير غياب تلك الثقافة عن الشباب العربي، إذ تشير بعض التقارير المبدأية إلى أن من 6-8% على الأكثر من شباب العالم العربي يقدمون عملاً تطوعيًا بينما البقية الباقية خارج دائرة هذا المجال.
التقرير الأول لمرصد العمل الخيري المصري كشف أن عدد الشباب المتطوعين بمصر في المرحلة العمرية من 10 إلى 29 عامًا، يصل إلى 657 ألفًا و400 شاب وشابة، بنسبة لم تتجاوز 2.2%، هذا في الوقت الذي تصل فيه أعداد الجمعيات الخيرية بها إلى 48300 جمعية منها 22102 غير مسجلة، تنفق 12 ألف جمعية منها 10 مليارات جنيه سنويًا.
معظم العمل التطوعي حاليًّا عبارة عن اجتهادات شخصية لا مؤسسية، وهو ما يجعل تأثيره محدودًا، كما أنه عرضة لأن يتوقف عند أي عقبة يواجهها المتطوعون الأفراد
تراجع له أسباب
الافتقار لإحصاءات موثقة بشأن العمل التطوعي في العالم العربي دفعت بعض الخبراء إلى التساؤل عن أسباب عزوف الشباب عن القيام بهذا الدور مقارنة بالدول الأخرى التي تصل معدلات المشاركة فيها إلى نسب مرتفعة.
الدكتور حمدي متولي أستاذ التنمية المجتمعية، أرجع هذا العزوف إلى عاملين أساسيين: الأول يتمثل في أن معظم الجمعيات والمؤسسات التطوعية تستقطب الشباب بهدف استغلالهم وتوفير النفقات، بينما تحقق هي والقائمون عليها أرباحًا طائلة، وذلك على حساب جهد الشباب المتطوع.
أما السبب الثاني الذي أورده متولي في حديثه لـ”نون بوست” فيتمثل في أن غالبية الشباب العربي ليس معنيًا بالعمل التطوعي المجاني، إذ ينصب اهتمامه وتركيزه على العمل الذي يحصل بسببه عليه أجر، خاصة في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعاني منها معظم المجتمعات العربية.
أما خالد الحجاج مؤسس برنامج “عالم التطوع العربي” فأوضح أن العمل التطوعي رغم انتشاره لم يقابل حتى الآن باعتراف رسمي كافٍ لاحتوائه ودعمه وترشيده وتأطيره ضمن نظم وقوانين تحميه والعاملين به، كاشفًا أنه بحاجة ماسة وسريعة للاعتراف به رسميًا كمكون أساسي وشريك في العمل التنموي.
علاوة على ذلك فإن معظم العمل التطوعي حاليًّا عبارة عن اجتهادات شخصية لا مؤسسية، وهو ما يجعل تأثيره محدودًا، كما أنه عرضة لأن يتوقف عند أي عقبة يواجهها المتطوعون الأفراد، ومن ثم فهو في حاجة إلى منظومة تشريعية وقانونية تكون بمثابة مظلة تأمينية لهذا القطاع الحيوي.
المؤسسات التطوعية تفتح أبوابها أمام الشباب العربي
مبادرات رائدة
رغم الواقع المؤلم لثقافة العمل التطوعي عربيًا، فإن هناك مبادرات أطلقتها بعض المجتمعات العربية كانت مثار تقدير وإعجاب الكثيرين، ممن اعتبروها نواة جيدة لبناء ثقافة تطوعية راقية، قادرة على النهوض بالعمل المجتمعي العربي الذي هو في أمس الحاجة لتعزيز هذا الدور المهم.
ومن رحم ركام الحرب تولد الأعمال الإغاثية وتعزز المبادرات الاجتماعية، وهو ما تعكسه الحالة العراقية والسورية واليمنية على وجه التحديد، ففي الوقت الذي يعيش فيه العراقيون أزمات وحروبا منذ عقود، ضربت وبشكل كبير نسيجه المجتمعي، وخلفت ورائها قائمة طويلة من المشردين، ازدهرت منظمات العمل المدني.
ففي السنوات الأخيرة تم تدشين عشرات الفرق التطوعية الشبابية في المدن العراقية، أخذت على عاتقها تقدم يد العون والمساعدة للمحتاجين والمتضررين من الحرب، علمًا بأن معظم تلك الفرق لا علاقة لها بأي تنظيم أو كيان حزبي أو سياسي، فالنهوض بالمجتمع هو هدفهم الأول.
وتعد حملة “بصمة خير” نموذج حي على تلك الثقافة، هذه الحملة التي تأسست عام 2012 على يد خمسة طلاب في كلية الإعلام بالجامعة العراقية، وضعت العمل الإغاثي على رأس نشاطاتهم التي تزداد اتساعا وتنوعا، إذ استهدفت شرائح عدة من العراقيين واستطاعوا توفير المواد الغذائية والأدوية وتوفير بعض المساكن للمحتاجين، معتمدة في نشاطها على تبرعات الأعضاء والمواطنين القادرين.
وفي سوريا لايختلف الوضع كثيرًا، إذ تنتشر فرق العمل التطوعي بصورة مكثفة تزامنا مع التصعيد العسكري الذي خلف وراءه الملايين من المشردين والنازحين، وتهدف إلى توصيل المساعدات للمحتاجين وتقديم يد العون لهم، وتوفير ملاذات آمنة للجرحى والمصابين.
في اليمن، دفعت الأوضاع الإنسانية الكارثية هناك إلى تعزيز العمل التطوعي في محاولة للحد من معاناة المواطنين لاسيما الأطفال والنساء
وهناك عشرات المؤسسات التطوعية التي أخذت على عاتقها تلك المهمة، على رأسها “جمعية البر” و”مركز ودق للعلاج الفيزيائي” ومنظمة”ركين” هذا بخلاف عدد من الفرق التطوعية الشبابية التي تستهدف الشباب في المقام الأول، بعضها فاز مؤخرًا بتمويل الأمم المتحدة كأفضل مشروع شبابي منها “فريق سند التنموي” الذي يعمل على دعم الشباب السوري وإكسابه المهارات اللازمة، لدخول سوق العمل
كذلك “مبادرة نارنج” التي تدعم الوعي البيئي والاجتماعي عند الأطفال واليافعين، وتسعى لبناء قدرات المجموعات والأفراد، و بناء الثقة ودعم التعايش السلمي واستدامته في المجتمع، وغيرها من المبادرات الإغاثية الأخرى
وفي اليمن، دفعت الأوضاع الإنسانية الكارثية هناك إلى تعزيز العمل التطوعي في محاولة للحد من معاناة المواطنين لاسيما الأطفال والنساء، وعلى سبيل المثال فقد دشن مجموعة من الشباب في العاصمة صنعاء مبادرة “رواد الإنسانية“، التي تسعى لتخفيف ألام وجراح النازحين والمرضى والمعسرين والفقراء.
المبادرة التي نجحت في الوصول إلى عشرات الآسر تسعى جاهدة للتواصل مع المنظمات المدنية المحلية والدولية، لتفعيل دورها المجتمعي، وذلك من خلال الدعم المادي واللوجيستي، ورغم ما تواجهه من صعوبات وتحديات إلا أنها استطاعت أن تخطو خطوات جيدة نحو تحقيق أهدافها.
ففي أبريل الماضي انطلقت فعاليات مهرجان الشباب العربي للتطوع الأول بالأردن، ليكون مكانًا تلتقي فيه الثقافات العربية وتبادل التجارب التطوعية بين الشباب العربي على أرض المملكة، المهرجان هدف إلى صقل مواهب الشباب والأطفال في محاولة لتهيئتهم للريادة مستقبلاً.
كذلك ملتقى مبادرات الشباب التطوعية والإنسانية، هو إحدى مبادرات هيئة الملتقى الإعلامي العربي التي تأسست في الكويت عام 2003، وهدف إلى دعم الشباب والقضاء على جوانبه السلبية، وتبني مشروعاتهم وترجمة أفكارهم وإنجازاتهم إلى واقع ملموس، كذلك خلق بيئة تنافسية بين الشباب تساعدهم على إخراج أفضل ما لديهم.
رغم الخطوات الجيدة التي يخطوها المجتمع العربي في تفعيل العمل التطوعي، فإن تلك الثقافة بحاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها وتعزيز وجودها
هذا بجانب مركز قطر التطوعي الذي يعد المقر الدائم والمتكامل لاحتضان الأنشطة والأعمال التطوعية القطرية، وفقًا لرؤية وإستراتيجية الحكومة التي تساهم في تأسيس وتعزيز ثقافة العمل التطوعي في المجتمع، والتعريف بمجالاته وأهدافه ومنطلقاته وفوائده وتوثيق إسهاماته في التنمية من خلال إقامة الشراكات لتشجيع العمل التطوعي بين الشباب والمبادرات التطوعية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص ووسائط الإعلام لتحقيق فاعلية بناءة تصقل القدرات والكوادر الوطنية والمؤسسية للعمل التطوعي.
وفي المجمل، ورغم الخطوات الجيدة التي يخطوها المجتمع العربي في تفعيل العمل التطوعي، فإن تلك الثقافة بحاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها وتعزيز وجودها لا سيما أن الكثير من المجتمعات العربية بحاجة إلى هذا الدور الذي يساهم بشكل كبير في تعويض تقصير الحكومات والأنظمة إن لم يكن داعمًا لها في بعض المجالات التي لا تستطيع المؤسسات الرسمية تحقيق النجاحات المطلوبة فيها.