لم تعد فكرة السياحة كما كانت عليه قبل عقدين من الآن ربما. فإلى جانب اعتبارهما نشاطًا يهدف للمتعة وتغيير المزاج وقضاء الوقت بعيدًا عن الأجواء التقليدية والرتيبة، تنوّعت أشكالها وتداخلت في كثيرٍ من جوانب الحياة. فأصبح هناك السفر لأجل الطعام والسفر لأجل التجميل أو التطبّب، والسفر لأجل البحث عن الذات، وهناك أيضًا السفر لأجل التطوّع.
إذ تعدّ السياحة التطوّعية، أو كما باتت توصف في المعاجم الدولية ” voluntourism“، اتجاهًا جديدًا في مجال السفر، يهدف –بالأساس- إلى المساعدة وفعل الخير. وفي معظم هذه الحالات، يعمل المتطوعون في البلدان النامية مع برامج التنمية الدولية التي تنظّمها العديد من منظمات التطوع المحلية التي تسعى إلى القيام بأنشطة خيرية مثل تعزيز الصحة والتعليم والحفاظ على البيئة.
تتّصل فكرة السياحة التطوّعية بالفكرة الجديدة التي ترتبط بالسفر بوصفه وسيلةً لتحقيق الذات والبحث عن المعنى في الحياة، نظرًا لما يقدّمه من تجارب جديدة وقصص يُضيفها الشخص على سنواته وأيّامه ومهاراتٍ وصفاتٍ جديدة قد تكتسبها شخصيّته. ما يعني أنّ التطوّع، كما ذكرنا في المقال السابق، يمكن أنْ يكون بالفعل وسيلةً ممكنة يجد من خلالها الشخص شعورًا، مهما كان حجمه، بالجدوى والهدف من الحياة والوجود.
فكرة نامية وبعض الجوانب الإيجابية!
أصبحت السياحة التطوّعية فكرةً ضخمة في السنوات الأخيرة، حيث يميل ما يقدّر بـ 1.6 مليون شخص لدمج إجازاتهم بمشاريع تطوّعية وإنفاق نحو ملياري دولار سنويًا على الفكرة. وعلى الجانب الإيجابي، يمكن أن تساعد السياحة التطوّعية في إعادة بناء المجتمعات المحتاجة بطرقٍ مختلفة.
وفي الواقع، أظهرت العديد من الأدلّة أنّ مجرد محادثة بين السياح والسكان المحليين يمكن أن تقطع شوطًا طويلًا في الانتعاش على المدى الطويل للمناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية. فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة استقصائية لعدد من الأفراد اليابانيين المنخرطين في السياحة التطوّعية في السنوات التي أعقبت زلازل عام 2011 مباشرة، أنّ التحدّث مع المتأثرين بالزلزال وإظهار التعاطف معهم ومع مشاقّهم والاهتمام الحقيقيّ بمعاناتهم، كان له أثرًا إيجابيًّا هائلًا على نفسيّاتهم أعقاب الكارثة.
يميل ما يقدّر بـ 1.6 مليون شخص لدمج إجازاتهم بمشاريع تطوّعية وإنفاق نحو ملياري دولار سنويًا على الفكرة
لكن، في واحدٍ من الأبحاث التي هدفت لدراسة السياحة التطوّعية، تبيّن أنّ الدوافع الرئيسية للسياح المتطوعين تشمل الرغبة في المساعدة وتجربة سفر فريدة، عوضًا عن الرغبة في تحقيق التنمية الشخصية. وقد أشارت الدراسة نفسها أنّ التطوّع بعد ارتباطه بالسياحة في السنوات الأخيرة، تحوّل من شكله طويل الأجل إلى شكلٍ آخر أقصر أجلًا، وبالتالي أصبحت فوائده أكثر محدوديةً وأقلّ تأثيرًا.
شكوك حقيقية ومخاوف واضحة
فعلى الرغم من كون فكرة السياحة التطوّعية قد ساهمت بالفعل في تقديم المساعدة في أنحاء كثيرة من العالم، إلا أنّ العديد من الشكوك الحقيقية تدور حول قيمة هذا القطاع الذي يخضع غالبًا لسُلطة مؤسساتية تتبع غالبًا أهدافًا مسيّسة. عدا عن أنّ بعض تلك المنظّمات التي تُعنى بهذا القطاع هي منظّمات ربحية بالأساس تفرض رسومًا عالية على عملائها.
تحوّل التطوّع بعد ارتباطه بالسياحة في السنوات الأخيرة من شكله طويل الأجل إلى شكلٍ آخر أقصر أجلًا، وبالتالي أصبحت فوائده أكثر محدوديةً وأقلّ تأثيرًا
كما يرى البعض أنّ تكلفة السفر إلى “الأماكن التي تحتاج المساعدة والمعونة”، يمكن لها أنْ تذهب لدعم أسرةٍ أو فردٍ من تلك الشعوب، فما يُنفقه المتطوّع في رحلته التي تستمرّ لأسبوعين على سبيل المثال، مثل تكاليف تذاكر الطيران والتأمين والطعام والتدريب والخدمات اللوجستية، قد تكفي لإعانة أسرة محتاجة لمدة تزيد عن الشهر أو أكثر.
عوضًا عن فكرة أنّ الكثير من المتطوّعين السيّاح يفتقدون للخبرة اللازمة بما يتعلّق بتطوّعهم، فهم بالنهاية ينخرطون بالعمل التطوّعي بهدف السفر وتجربة الجديد. فقدرة المتطوّعين على إحداث تغييرات ملموسة كالتخفيف من حدّة الفقر أو توفير الدعم للأطفال الذين تعرّضوا للصدمات هي قدرة محدودة، فهم ببساطة لا يمتلكون المهارات الكافية والمنظّمة للقيام بالعمل التطوّعي الذي سافروا من أجله، لا سيّما في حالات التطوّع الفرديّ. ناهيك عن افتقارهم إلى فهم السياق المحلي للمكان الذي يتطوّعون فيه.
يرى البعض أنّ تكلفة السفر إلى “الأماكن التي تحتاج المساعدة والمعونة”، يمكن لها أنْ تذهب لدعم أسرةٍ أو فردٍ من تلك الشعوب
إضافةً لذلك، يثير الكثيرون مخاوفهم من أنّ العديد من مشاريع التطوّع، خاصة تلك التي تدعمها المؤسسات الأجنبية، هي شكلٌ خفيّ متستّر من أشكال الاستعمار الجديد، والتي تتخّذ المشاكل الإنسانية والاجتماعية والبيئية كغطاءٍ لها يساعدها في تحقيق أهدافها، حيث أن الكثير من المنظّمات التطوعية ترتبط بالحكومات الوطنية التي تهدف لتعزيز خططها في السيطرة والتوسّع في بعض الأماكن.
وبالتالي، مع اندماج التطوّع بواحدٍ من أسرع أشكال السفر نموًّا في العالم، يجدر بنا دومًا أنْ نسأل أنفسنا عن الدوافع الحقيقية للعمل الذي نتطوّع به. فلا شكّ أنّ الكثيرين يرغبون بالفعل في المساعدة وإحداثٍ فرقٍ ما مهما كان حجمه، لكنّنا قد نبقى في الوقت ذاته عالقين بالرغبة بفكرة السفر الترفيهية والممتعة والعودة محمّلين بالقصص حول تلك الأماكن التي زرناها والأشخاص الذين قابلناهم. ما يعني أنّ التطوّع في مسقط رأسك قد يكون أكثر قيمةً من المشروع التطوّعي الذي تختاره في الخارج، أليسَ كذلك؟