كثيرًا ما يُشار إليهما على أنهما طرفان يتجهان لتأسيس علاقات إستراتيجية تمكّنهما من تحقيق توازن قوى متين ضد الغرب، إنهما موسكو وأنقرة اللتان بدأتا علاقات جيدة نسبيًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور روسيا الاتحاد للسطح، وواصل الطرفان تعاونهما المُشترك وصولًا لتحقيق أول تعاون إستراتيجي قام على إنشاء خط “السيل الأزرق” الذي تم توقيع اتفاقيته عام 1997، بهدف تزويد روسيا لتركيا بالغاز الطبيعي.
ومع مرور الزمن وصولًا إلى يومنا هذا، بات يربط الطرفين بحلول عام 2016 اتفاقية جديدة للغاز الطبيعي تُعرف باسم اتفاقية “خط السيل التركي” الذي ينقل الغاز الروسي إلى بعض دول الاتحاد الأوروبي عبر الأراضي التركية، وقد سبق هذه الاتفاقية اتفاق الطرفين عام 2010 على تولي موسكو مشروع إنشاء المفاعل النووي “أك كويو” لإنتاج الطاقة الكهربائية، ومن ثم توقيع الطرفين عام 2017 اتفاقية تزويد موسكو لأنقرة بمنظومة الدفاع الجووي آس 400، وبتعاقب هذه التطورات، أضحى يدور في خلد المتابعين تساؤل مفاده: هل العلاقات التركية ـ الروسية تحمل صبغة إستراتيجية أم توافقية تكتيكية مؤقتة؟
يبدو أن الصبغة التوافقية التكتيكية لتعاون الطرفين، هي الصبغة الحقيقية لتعاون الطرفين المبني على سياسة “اصطياد فرص التعاون مُشترك ومتوازن الربح”، وما يُساند هذه الرؤية هي طبيعة عوامل تقارب الطرفين في تسوية المسألة السورية، ووجود عدة عراقيل تحول دون تحول علاقاتهما إلى الصبغة الإستراتيجية
البداية كانت حينما تم توقيع “اتفاق حلب” المُبرم بين أنقرة وموسكو منتصف ديسمبر/كانون الأول 2016، وأعقبه لقاء بين وزراء خارجية ودفاع أنقرة وموسكو وطهران في موسكو، ليخرجوا بـ”إعلان موسكو” الذي مهد الطريق لمحادثات أستانة التي – إن قبلنا أو رفضنا – أفضت إلى تسوية القضية السورية على نحوٍ كبير، أي أن تعاون الطرفين في التنسيق رفيع المستوى والواسع في سوريا، وما تبعه من اتفاقيات عسكرية وأمنية، جعل كثيرين يُشيرون إلى فتح الطرفين صفحة تعاون إستراتيجي على الصعيدين السياسي ـ الأمني والاقتصادي، حيث وصل تطور العلاقات بين الطرفين على النحو التالي:
ـ على الصعيد السياسي ـ الأمني: في الحقيقة وصل التنسيق السياسي الأمني بين الطرفين إلى ذروته في ظل محادثات أستانة، غير أن هناك بعض المؤشرات تؤكّد بدء التعاون رفيع المستوى بين الطرفين عام 2010، حيث تم تأسيس مجلس التعاون رفيع المستوي الذي أعقبه تعاون مؤسسي متين أفضى إلى توقيع اتفاقية بناء المفاعل النووي “أك كويو” لإنتاج الطاقة الكهربائية في 12 من مايو/أيار 2010، واتفاقية منظومة الدفاع الجوي آس 400 التي تم توقيعها في 29 من ديسمبر/كانون الأول 2017.
وأخيرًا ارتباط الطرفين بخط “السيل التركي” الذي يمر من تركيا، ومن خلاله تسمح روسيا لتركيا بتوزيع الغاز الطبيعي إلى الدول الأمنية، ويأتي هذا الخط في إطار المشروع الإستراتيجي لروسيا القائم على استخدام الغاز الطبيعي كأداة ضغط ضد الدول الأوروبية، وبالتالي فإن وجود مقعد لتركيا فيه، يُعزز من متانة الروابط بين أنقرة وموسكو.
ـ على الصعيد الاقتصادي: يبلغ حجم التبادل الاقتصادي بين الطرفين 38 مليار دولار، ويُقدر حجم التبادل الاستثماري بقيمة 10 مليارات دولار، وتُعد روسيا المُزود الأول لتركيا بالطاقة، لا سيما الغاز الطبيعي، حيث يُغطي الغاز الروسي ما نسبته 55.3% من مجموع حاجة تركيا للغاز الطبيعي، التي تُقدر، أي حاجة تركيا للغاز، بـ40 مليار متر مكعب، فيما بلغ عدد السياح الروس القادمين إلى تركيا خلال عام 2014 قرابة 4.5 مليون سائحًا، وبذلك تُظهر المؤشرات حجم الاعتماد الاقتصادي المُتبادل الوثيق بين الطرفين.
وعلى الأرجح، يلعب الارتباط الاقتصادي الوثيق الذي يوفر فائدة مشتركة للطرفين وفقًا لقاعدة رابح ـ رابح، دورًا أساسيًا في توجه الطرفين في كثير من الأحيان إلى اتباع سياسة “فصل السياسات”، أي فصل المسار الاقتصادي عن مسار الخلاف السياسي، ومراقبة إمكانات التعاون التوافقي المُشترك لتخفيف حدة الخلاف السياسي والأمني قدر الإمكان، في سبيل الحفاظ على مسار الارتباط الاقتصادي الاعتمادي المُشترك الوثيق.
ويبدو أن الصبغة التوافقية التكتيكية لتعاون الطرفين، هي الصبغة الحقيقية لتعاون الطرفين المبني على سياسة “اصطياد فرص التعاون مُشترك ومتوازن الربح”، وما يُساند هذه الرؤية هي طبيعة عوامل تقارب الطرفين في تسوية المسألة السورية، ووجود عدة عراقيل تحول دون تحول علاقاتهما إلى الصبغة الإستراتيجية.
عوامل التقارب في تسوية المسألة السورية
ـ الرغبة الروسية في تحقيق اتفاقات إقليمية خالية من التعقيدات عبر التعاون مع الفواعل الإقليمية الأكثر فاعلية في المنطقة، وبعد إحراز اتفاقات إيجابية بين هذه الأطراف، يتم نقلها إلى مظلة الأمم المُتحدة لإكسابها روح الشرعية الدولية، وبذلك تكون قد تجاوزت الكثير من التعقيدات فعلًا، حيث سترى الدول الغربية، لا سيما الولايات المُتحدة، ذاتها أمام مُعادلة مُتوافق عليها بوجهٍ عام، وهذا ما قد يدفعها للتوافق على صعيد دولي وفقًا لهذه المُعادلة.
ـ إدراكهما، أي أنقرة وموسكو، مدى التكاليف الباهظة التي تعود عليهما جراء استمرار الأزمة السورية دون حسم نهائي لصالح طرفٍ واحد، وفي ظل وجود مراوغة أمريكية في مسألة الاتجاه نحو الحل حتى تُسيطر قوات سوريا الديمقراطية (الذراع الأمريكية في سوريا) على مساحاتٍ أوسع، وحتى تستنزف جميع القوى، ليسهل الضغط عليها على طاولة المفاوضات، ويبدو أن أنقرة وموسكو حاولتا سبق الخطى ووقاية نفسهما من هذا المخطط، واتجهتا نحو التشاور التوافقي الذي يُشكّل ميزان قوى يضمن لهما مصالحهما المُشتركة على نحوٍ نسبي.
نجاح الطرفين في التوافق وتحقيق بعض أهدافهما، يُشكل منعطفًا محوريًا في مسار علاقاتهما المُستقبلية، فقد تبقى هذه السابقة من التعاون مرجعًا تجريبيًا تستند إليه هذه الدول في حال فُرض عليهما التعاون التوافقي من أجل تحقيق مصلحة مُشتركة
ـ التوافق المُطلق بين أنقرة وموسكو بشأن ضرورة الإبقاء على وحدة الأراضي السورية، بخلاف ملامح التوجه الأمريكي نحو السعي لدعم إنشاء دولة أو حكم ذاتي أو كيان حكم إداري كردي.
ونتيجة لهذه العوامل، يتضح أن الطرفين إنما اتجها نحو الحل التوافقي من أجل حماية ذاتهما من الانزلاق نحو المزيد من التكاليف والخسائر، وقبلتا بالحل التوافقي للحصول على مصالحهما في سوريا ولو نسبيًا، وبالفعل استطاع الطرفان تحقيق جزء معقول من أهدافهما، لكن بحسبان نوعية وطبيعة التوافق الحاصل بينهما، يُستقى بأن هذا التوافق هو نتاج تحالف تكيتيكي براغماتي مؤقت فرضه الأمر الواقع.
ولكن نجاح الطرفين في التوافق وتحقيق بعض أهدافهما، يُشكل منعطفًا محوريًا في مسار علاقاتهما المُستقبلية، فقد تبقى هذه السابقة من التعاون مرجعًا تجريبيًا تستند إليه هذه الدول في حال فُرض عليهما التعاون التوافقي من أجل تحقيق مصلحة مُشتركة، ولفهم مدى إمكان استمرار هذا التعاون بين الطرفين، لا بد من سبر أغوار مستوى العلاقات المُتبادلة بينهما على الأصعد كافة، ولا بد من وضع التغيرات الدولية المُحتملة في منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد، بعين الاعتبار.
عراقيل التوجه نحو التعاون الإستراتيجي
اختلاف المشاريع الإستراتيجية: فبينما تحاول روسيا تنفيذ مشروع الأوراسيانية الذي ترمي من خلاله للوصول إلى المياه الدافئة الزاخرة بمصادر الطاقة، والمُطلة على الطرق التجارية الدولية، في مناطق البلقان ووسط آسيا والشرق الأوسط، تحاول تركيا إعادة رواسخ العلاقات بين جماعات الدولة العثمانية في البلقان والشرق الأوسط وووسط آسيا، وذلك يعني وجود تضارب بين مشاريع الطرفين، أيضًا ترمي طهران للتمدد بدوافع مذهبية دوغمائية داخل المنطقة، وهذا ما يعرض أمن واستقرار تركيا ومشاريعها في المنطقة للخطر.
ملفات الخلاف الفاعلة بين أنقرة وموسكو في عدة ميادين: ربما هناك اتفاق بين الطرفين على صعيد اقتصادي، لكن هناك خلاف نسبي بينهما في الملف السوري، من حيث الملف الكردي وملف إعداد الدستور، وخلاف في ملف جزيرة القرم
ـ العامل النفسي لدى ساسة أنقرة: إذ يرسخ في فكرهم توجه إستراتيجي نحو الغرب، بعد سنوات من الخلاف والتنازع بين تركيا والاتحاد السوفيتي ـ سلف روسيا -، فضلًا عن الخلاف التاريخي بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية، وفي سياق ذلك، يأتي الارتباط السياسي الأمني التاريخي بين أنقرة والقطب الغربي، كعنصر أساسي في غرس العامل النفسي لدى ساسة أنقرة في هذا الإطار، كما أن هناك فرقًا بين وجه السلطتين التركية “العلمانية” والإيرانية “الدوغمائية الدينية”، ما يجعل طهران بالنسبة لأنقرة فاعل غير مُحفز للتعاون المُشترك.
ـ ملفات الخلاف الفاعلة بين أنقرة وموسكو في عدة ميادين: ربما هناك اتفاق بين الطرفين على صعيد اقتصادي، لكن هناك خلاف نسبي بينهما في الملف السوري، من حيث الملف الكردي وملف إعداد الدستور، وخلاف في ملف جزيرة القرم، حيث تدعم أنقرة الرؤية الغربية في عدم شرعية احتلال روسيا للجزيرة، وخلاف في الملف الليبي، حيث تدعم موسكو حفتر والدور المصري في ليبيا بينما تدعم أنقرة حكومة طرابلس، وملف حوض شرق البحر المتوسط، حيث تتخوف أنقرة من مساندة موسكو للتحرك اليوناني ضد تحركها، وغيرها العديد من نقاط الخلاف الأخرى.
ـ انتماء أنقرة لحلف “الناتو”، هذا الانتماء الذي قد يمنعها، عبر مواده، من الإقدام على المزيد من المشاريع الإستراتيجية.
ـ الضغط الأوروبي: وفقًا لمكتب دعم الاستثمار التابع لمؤسسة رئاسة الجمهورية التركية، فإن دول الاتحاد الأوروبي تُساهم بما نسبته 72% من مجموع الاستثمارات المباشرة في تركيا، ولعل هذه الاستثمارات التي تعني تنمية مباشرة عبر مصانع وشركات تجارية ضخمة تدر على تركيا بالدخل الغزير، تُعدّ أكثر حيوية من مشاريع نقل المواد الريعية الروسية التي تحتاج لعملة صعبة للحصول عليها، ولا يقتصر الضغط الأوروبي على صعيد اقتصادي، وإن كان لذلك وقع كبير على توجه أنقرة، إلا أنه يقوم على ركائز أمنية وسياسية تربط أنقرة بالاتحاد الأوروبي عبر اتفاقيات وتوجهات تاريخية راسخة.
ـ التوجه الإستراتيجي الأمريكي: تُحاول تركيا مواجهة الاحتكار الروسي لامتدادات الطاقة نحو دول الاتحاد الأوروبي، عبر دعم مشاريع نقل الغاز الأذري والجورجي نحوها، لذا قد تحاول واشنطن الضغط على أنقرة، للتقليل من مدى تقاربها لموسكو، وبحسبان الحاجة الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية التركية لواشنطن، وباعتبار الموقع الدبلوماسي لواشنطن كدولة عُظمى تتحكم في مسار العلاقات الدولية، وبوضع توجه أنقرة نحو اللعب على تناقضات توازن القوى بعيدًا عن وضع جميع بيضها في سلة واحدة، بعين الاعتبار، يتضح حجم تأثير التوجه الإستراتيجي الأمريكي على أنقرة.
تبني موسكو سياسة التوازن في التعامل مع دول الشرق الأوسط، بمعنى أنها لا تسعى للتقارب أو الاعتماد على أنقرة فقط في المنطقة، بل يبدو أنها تدعم ألا تتجاوز قوة دولة إقليمية الدول الأخرى
أيضًا، ظهر قبل فترة كيف أن أنقرة يصعب عليها الخروج عن التوجهات الإستراتيجية الأمريكية، حيث أزاحت واشنطن أنقرة في أتون أزمة لمجرد عدم تجاوب أنقرة معها في موضوع فك سراح قس أمريكي. فكيف الأمر لو تجاوزت أنقرة توجهات واشنطن الإستراتيجية على نحوٍ عميق؟
ـ تحالفات استنزافية: في الحقيقة، تعاون أو تنسيق موسكو مع أنقرة في سوريا، لم يصب في صالح أنقرة بالشكل الذي تُريده، فقد أدى هذا التحالف إلى قصر النفوذ التركي على مساحة ضيقة جدًا، وهو ما يجعل صبغة التعاون السياسي والأمني بين موسكو وأنقرة صبغة تحالفية وليس مُشترك الفائدة بشكلٍ مُتزن.
ـ تبني موسكو سياسة التوازن في التعامل مع دول الشرق الأوسط، بمعنى أنها لا تسعى للتقارب أو الاعتماد على أنقرة فقط في المنطقة، بل يبدو أنها تدعم ألا تتجاوز قوة دولة إقليمية الدول الأخرى.
ـ الدوافع المتباينة نحو تحقيق بعض الأهداف المُشتركة.
ـ خلافات جيواقتصادية عميقة بشأن مقدرات البحر الأبيض المتوسط.
لكن وعلى الرغم من هذا التناقض، فقد تظهر جوانب التعاون القليلة بين الطرفين بالشكل التالي:
ـ ملف شرق الفرات، حيث يرمي الطرفان لقصر النفوذ الأمريكي هناك قدر الإمكان، في سبيل القضاء على فكرة إنشاء كيان كردي مُستقل.
ـ فرصة الحصول على فرصة أكبر للعب على تناقضات توازن القوى ضد الغرب من خلال تعزيز بعض جوانب التعاون الأمني والعسكري، وبالتالي إحراز مُرادهما المُشترك على نحوٍ نسبي.
ـ تعزيز التعاون الاقتصادي الطاقوي الذي عاد عليهما بالفائدة المُشتركة.
في الختام، استشعر الطرفان فوائد فرصة التعاون وفقًا للفائدة المُشتركة، تحديدًا بعد إبرام اتفاقية خط “السيل الأزرق”، وانطلاقًا من ذلك، أخذا يُطبقان سياسة “فصل السياسات” التي أبصرت الطرفين لفراسة الاستمرار في تحقيق تعاون مُشترك في الجوانب التي يُمكن أن تُحقق لهما الفائدة، بعدم السماح للخلافات الأمنية والسياسية الإستراتيجية بإلقاء ظلالها كاملةً على مسار التنسيق المُشترك بين الطرفين.