يُقال في الحياة إن: “من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا”، ويُقال في الحرب إن: “الضربة الأولى نصف انتصار”، فحين نشرت “إسرائيل” الصور الأولى لاستشهاد رئيس حركة حماس يحيى السنوار ظنًا منها أنها حققت ضربةً أولى في صميم الروح الفلسطينية، كانت الصور ذاتها تجسيدًا لسردية الفلسطيني الموقن بأنه سيضحك كثيرًا بانتصارٍ كامل كما يستحق، فما تناقلته العدسات الإسرائيلية عن المحطة الأخيرة للسنوار احتفاءً بقضائهم على العقل المدبر لعملية طوفان الأقصى، انقلب خلال سويعات ليعبر بشكلٍ صارخ عن فشلٍ تراكمي للسردية الإسرائيلية منذ بداياتها، مرورًا بالسابع من أكتوبر، وحتى رحيل السنوار.
تسريب الصور والفيديوهات الأخيرة للسنوار أكد حالة الجهل الإسرائيلي بالعقل العربي والفلسطيني ونظرته لطبيعة الاستهداف والفعل، فقد رفعت اللحظات الأخيرة الموثقة من أرصدة الرجل إلى مستويات قياسية، جعلت نهايته النموذج الأكثر سموًا وبطولةً في الوعي العربي والفلسطيني.
لكن رغم هذا الانعكاس البطولي المشرف، وما كسبه من رمزية توضحت فيها ملامح القيادة والرؤية الصادقة، إلا أنه يتجاهل الهدف الإسرائيلي من وراء نشر تلك الصور، فالفعل الأولي بحد ذاته كان يهدف إلى تحقيق زلزال في الوعي الفلسطيني الشعبي والمقاوم، ضمن تكتيكات ذات أبعاد حربية تمارسها الآلة الإسرائيلية محاولةً أن تحقق عنصر السيطرة والإخضاع على عدوها الفلسطيني.
نستعرض في هذا المقال الأنماط المتداخلة للاستخدام العسكري للصور بين الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار الأوروبي والاحتلال الأمريكي، ثم نستعرض العناصر التفكيكية للصورة الأخيرة للسنوار، ونلقي الضوء على الفشل الإسرائيلي في قتل السنوار وفق المفهوم السردي بأبعاده العسكرية والسياسية والإعلامية، وإسناده للسردية الفلسطينية.
الصورة بمفهوم الأنظمة الاستعمارية
لا يعُد تصوير قوات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين بعد استهدافهم بالقتل أو عند المطاردة والاعتقال، حدثًا طارئًا أو استراتيجيةً متجددة، فمنذ الانتفاضة الأولى عمد الاحتلال على التقاط صورًا للمستهدفين بما يخدم سرديته، وبما يعزز صورته في المشهد كقوة مسيطرة ورادعة لأي تهديدات أو أخطار محيطة.
من ناحية أخرى، يحاول الاحتلال أيضًا نزع معاني البطولة والجسارة عن الفدائيين أو المقاومين، من خلال تشويه جمالية تضحيتهم، مركزًا على لحظة استهدافه لهم، برصاصةٍ متفجرةٍ بالرأس أو البطن، أو بدماءٍ مضرجةٍ أو جسدٍ نصف متفجر، أو ما بقي من وجهٍ وأطراف، لتترك هذه اللحظة خوفًا ويأسًا في قلوب الفلسطينيين وتصبغ على حدادهم حُزنًا لا نهاية له.
لا ينفصم هذا التكتيك بحالٍ من الأحوال عن بروباغندا القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، فالشعوب العربية ما زالت تذكر الصور التي نُشرت لعملية أسر الرئيس العراقي صدام حسين والتي أظهرته مختبئًا في حفرة مظلمة، بحالة ذهنية متعثرة، رث الثياب، أشعث الشعر واللحية، هائم النظرات، بينما كشفت وسائل إعلام أجنبية أن حسين لم يُعتقل من حفرة، بل من بيتٍ له قبو تحت الأرض، لكن الإعلام الأمريكي تلاعب في الصور لكسر هيبة الرجل ولمحو آخر ملامح التحدي العربي لأمريكا الدولة العظمى.
كما لا تُنسى أبدًا صور إعدامه وتوقيتها صبيحة عيد الأضحى المبارك، ولا صور ابنيه عُدي وقصي التي عرضتها القوات الامريكية بعد عملية تشريحهما، وتظهر فيها آثار تشريحهما على صدرهما العاري. اعتمدت القوات الأمريكية النهج ذاته عندما نشرت صورتين لخصمها أسامة بن لادن، إحداهما تُظهره بعيون غائرة وملابس ممزقة وتبدو على وجهه علامات الضرب، والأخرى باللون الأخضر القاتم تحضيرًا لرميه في البحر.
هذه الأمثلة ليست حصرًا على القوات الأمريكية دونًا عن غيرها، بل إنها تعبير عن ذهنية وحشية متواصلة من عصور الاستعمار الأوروبي الأولى؛ إيطالية مع عمر المختار الذي دُفن في الصحراء حيث لا يعلم أحد، أو فرنسية مع الثورة الجزائرية والتجارب النووية على الأسرى والاحتفاظ بجماجمهم، أو ألمانية في الإبادة والتطهير العرقي للأعراق “المتمردة على استعمارهم”.
تاريخيًا اعتبر المؤرخون أن تصوير العدو هو تقليدٌ أوروبي، بدأ تحديدًا عام 1066، حين قرر ويليام دوق نورماندي غزو إنجلترا متحديًا بذلك الملك هارولد الثاني في معركة هاستينجر، فوُثقت باطنته الحرب وأهوالها في 58 مشهدًا من مشاهد المعركة، تُظهر خضوع الانجليز وتقهقر قادتهم أمام بطولة النورمانديين وقتالهم الضاري.
حينها لم تكن آلات التصوير قد اختُرعت بعد، فاعتمد النورمانديين النسيج التصويري لنقل مشاهد معاركهم، حيث تم حياكة مشاهد المعركة على نسيجٍ بلغ طوله 70 مترًا، واعتبرت المشاهد بمثابة تأكيدٍ تاريخي للأجيال اللاحقة على هزيمة العدو وإذلاله وإلحاق العار به.
بغض النظر عن المستوى الفني للحياكة، فما زال النسيج يحتفظ بأثره التاريخي، حيث تسبب بالكثير من المشاحنات الأوروبية، ومحاولات الاستلاب وادعاء الملكية بين الجرمنيين “الألمان” و”الفرانكو” الفرنسيين، فيما ما زال الإنجليز يحاولون اقتراضها لغرض العرض الفني، حتى بوساطة رئاسية فرنسية قادها الرئيس الحالي ماكرون عام 2018 في محاولةٍ لمنح بريطانيا الفرصة مع منتصف عام 2024 دون جدوى.
اللافت هُنا أن التهافت الأوروبي على أول توثيقٍ لإذلال العدو، والسعي المحموم لادعاء أبوته لا ينفصل عن الممارسات الاستعمارية المتواصلة للاحتلال الاسرائيلي في فلسطين، وذلك ضمن سلسلة من المحاولات لكسر كاريزما المقاتل حتى في آخر لحظاته، عبر إظهار كل مشاهد إذلال الأسرى والشهداء ونزع ستار الكرامة الإنسانية عنهم أحياءً أو أموات، والتنكيل بعائلاتهم وأطفالهم بهدفٍ واحد عنوانه: التأكيد على القوة الضاربة بما لا يترك في نفوس الآخرين سوى الخوف والرعب واليأس.
صورة السنوار الأخيرة
بعد أقل من ساعةٍ فقط على إعلان وسائل الإعلام أن الأجهزة الإسرائيلية تفحص احتمال قضائها على السنوار كانت صور خاتمته تكتسح شبكات التواصل الاجتماعية، منتقلةٍ من الصفحات الإسرائيلية، تقارن بين صورته حيًا وميتًا، ويطالعها الجميع مرددًا الأسئلة ذاتها: هل هذا هو السنوار؟ هل هذه أسنانه؟ هل هذه ساعته؟ هل هذا سلاحه؟
ومهما اعترى في الفؤاد حينها إلا أن الفلسطينيين أدركوا منذ النظرة الأولى أن الصور تخص سيد الطوفان في موئله الأخير، لتتكشف معها طبيعة اللحظات الأخيرة من حياة يحيى السنوار، الرجل الذي قارع الاحتلال ورفع يديه حتى اليوم الأخير داعيًا: “اللهم اكسر بنا شوكتهم”.
عناصر الصورة الأخيرة للسنوار كانت فردانية جدًا بالنسبة لقائد فلسطيني في موقعه، فقد رحل مشتبكًا في الميدان، ممتشقًا مسدسه وقنابله اليدوية، متدثرًا بجعبةٍ عسكرية وكوفية أخفى بها وجهه، وبملابس شديدة البساطة كشفت عن جسدٍ بالغ النحول، تلقى رصاصةً في قدمه وأخرى في رأسه، سبقتهما شظايا قذيفة دبابة أصابت يده اليمنى، فبترت جزءًا منها.
هذه العناصر التي تمايزت لدى السنوار، كانت عامةً جماعيةً أيضًا لعموم مقاتلي المقاومة، خاصةً أولئك الذين عبروا الحدود وكسروا السياج صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فجميعهم احتضنوا جبتهم وسلاحهم حتى الرمق الأخير، فكُتب لهم شرف الشهادة والبطولة.
بهذه المقاربة افتتح السنوار دون أن يدري ما قال عنه لاحقًا القيادي خليل الحية في حماس “السطر الأول في معركة التحرير”، مؤسسًا لمقياسٍ جديد في سجل قادة المقاومة، يحتم على من بعده منافسته فيه، فهو القائد الذي صال وجال في الصفوف الأمامية، وقاتل حتى النفس الأخير إن لم يكن بسلاحه فبالعصا.
في الصورة زوايا أخرى، فجنود الاحتلال الذين سربوا الصورة ابتهاجًا بنهاية عدوهم، ومجتمعهم الذي أطلق مزاميره احتفاءً باليد الطولى لجيشهم، قدموا من حيث لا يدركون خدمة العمر وأمنية الأحلام للسنوار ولحركته ولجمهوره العربي والفلسطيني، لتصبح الصورة دالةً فارقةً على بوصلة المقاومة وسقفًا آخر من طوفان الأقصى، عبرت عنه حركة حماس في بيان نعيها بالقول: “لن تتوقف مسيرة جهادنا حتى تحرير فلسطين وطرد آخر صهيونيٍ منها واستعادة كامل حقوقنا المشروعة”.
بل ولتعيد الصورة تحقيق الإجماع الفلسطيني والشعبي العربي على المقاومة الفلسطينية، بما يشبه صور الطوفان الأولى، بعد عامٍ من التنكيل والتعذيب والتهجير والحرق والتجويع، ظهر فيه بعض المرجفين منهم بإطلاق سهام الاتهام والملام على صدر المقاومة في فعلها المقاوم.
والحقيقة أن الصورة الأولى اشتملت على أبعادٍ أخرى أضفت على استشهاد السنوار مشهد المنتصر الأخير، فزاوية التصوير أظهرت السنوار في وضعية “استراحة محارب” وليس “مصرع عدو”، حيث يتموضع السنوار على الأريكة، ملثمًا ومثقلًا بالجراح منتظرًا أن يلقي ضربته الأخيرة في وجه “إسرائيل” ولو بعصا، وهي اللحظة التي عززت موقع الرجل كأسطورة سيتردد صداها كثيرًا وطويلًا.
الشاهد على ذلك، هو الروايات المعدلة والصور المضللة التي أضافها الاحتلال لاحقًا، فبعد تأكيد “قتله” أعاد الاحتلال تداول صورٍ أخرى للسنوار بدون جعبته العسكرية، فيما تداول صورة أخرى من زاوية “عين النسر” تظهر السنوار محاصرًا بين جنود الاحتلال، ومكومًا في المنتصف بين الحجارة والركام مختنقًا في هوته الأخيرة.
ورغم إحجام الفلسطينيين عن استبدال صورته الأولى بالصور الأخيرة، إلا أن مواقع عربية تربطها علاقات ناعمة مع الاحتلال لم تتورع عن نشر الصور وتكرارها، بل ذهبت صحفٍ عربية لوضعها على صفحتها الأولى مرفقةً بعنوانٍ فاضحٍ للمواقف، شامتٍ بالمقاومة الفلسطينية في عز انتصارها.
ومهما يكن من شأن الاحتلال وبعض أعرابه، فالرجل أقبل على المنى والمنون ومضى وقد قدم لفلسطين طوفانًا تعهد – والمقاومة من بعده – ألا ينحسر إلا عند التحرير، واختتم حياته وفقًا لما عاش عليها، مطارِدًا لعدوه ملاحقًا له، صارمًا في بوصلته، مضحيًا بآخر ما يملك – روحه – من أجلها، معرضًا عن الدنيا وزخرفها.
مضى الرجل القاسي في حركة حماس، كما يصفه الكثيرون، وتُصبغ عليه صفات الشدة والصرامة، لا سيما مع تأسيسه لجهاز مجدٍ الأمني وخبرته في ملاحقة العملاء والجواسيس ومحاسبتهم، فكانت نهايته قاسيةً على عدوه مثل حياته، صافيةً لا تشوبها خيانة أو غدر.
لماذا فشلت “إسرائيل” في قتل السنوار؟
لا يغيب عن بال أحد عمق الاهتمام الإسرائيلي بالدعاية والترويج لسرديتها ومكانة جيشها وتفوقه، بل إنها الدولة التي لا تقيس نفسها إلا من خلال تفوقها العسكري في الهيمنة العنيفة على الآخرين أيًا كانوا، لذا بدا من المفاجئ أن تكون الصورة التي انتشرت عبر الصفحات الإسرائيلية للسنوار فقيرة في خدمة هذه الدعاية وتلك السردية.
اقتصرت الصورة الأخيرة على خدمة مفهومٍ واحد، وهو القدرة الإسرائيلية على القتل، بالرصاص أو بالقذائف، عبر الطائرات المسيرة أو الطائرات الحربية، مع ذلك، لم يتمكن الاحتلال في تلك اللحظة من قتل السنوار، بل أحياه، بتقديمه كعنصرٍ حي من إحدى عناصر السردية الفلسطينية المقاومة: رجل كهل خطا نحو الستين، دون مرافقة ولا حراسة، ولا يحيط نفسه بالأسرى الإسرائيليين كدروع بشرية، وليس هاربًا في سيناء ولا يتنكر بملابس النساء، ولا بحوزته مالًا ولا طعامًا، وإنما مقاومًا مقارعًا حتى بيدٍ واحدة وعصا.
هكذا أعادت الصورة والواقعة تأكيد المؤكد في أن المحتل بأجهزته واستخباراته بقي عاجزًا حتى النهاية عن الوصول للمقاتل الكهل عبر عملائه أو تفوقه التكنولوجي، كما عجز حتى اليوم عن إثبات مهارته في علم النفس العسكري، فطوال عامٍ من الحرب روج الاحتلال لسردية خاصة حول السنوار، منطلقًا من فهمه الخاص للعدو ومن مفهوم ثقافته لمعنى الموت كنهاية.
إذ حدد الاحتلال هوية السنوار من خلال أنماطٍ متعددة معتمدًا المناهج الغربية في تجريم العدو؛ النمط الأول اعتباره عدو للإنسانية ممثلًا للموت والدمار والشر، والنمط الثاني هو تصويره في صورة حيوان وإصباغ أوصافٍ عليه كالثعلب والعقرب والأخطبوط.
أما النمط الثالث فإضفاء صفاتٍ أنثوية عليه، كالخوف والتردد والفزع، أو ارتداء ملابس النساء للتخفي، وهو مذهب رعاة البقر الأمريكيين في تشويه صورة العدو بوصفه مطلوبًا للعدالة، أو جزءًا من عصابة يتم القضاء على أفرادها واحدًا تلو الآخر ثم شطب صورهم.
في سلسلة الأنماط التي صبغت سردية السنوار كان هناك نمط العدو الحاجز أو المانع، الذي تتعزز الحاجة للقضاء عليه بوصفه مصدرًا للحرمان من ممارسة الحقوق والاحتياجات المادية والنفسية للأخرين، وأما النمط الأخير فهو المنبوذ وهو ينظر للعدو بصفته مفتقدًا للإجماع وللقدرة على التنظيم أو الحركة أو التواصل.
عامٌ كامل من الأنماط المتداخلة، وأعوامٍ عديدة قضاها الإسرائيليون يدرسون عقل الرجل الذي اعتقلوه لأكثر من 20 عامًا، وخاضوا معه سجالات التفاوض والتحقيق، والكثير من الهاسبارا والتنبؤ بطبيعة مساره الحالي أو خطوته التالية، دون أن تستطيع “إسرائيل” في لحظته الأخيرة أن تثبت عليه أيًا من أنماطه، أو تنزع عنه شيئًا من هيبة المقاتل.
لأجل بصمة صوته أغلقوا الاتصالات مرارًا عن سماء القطاع، وبمبررات ملاحقته اقتحموا المشافي وقصفوا معبر رفح أكثر من 4 مرات، ألقوا منشورات تحريضية عليه ودعوا سُكان القطاع لتسليمه، ثم استعانوا بقصاصي الأثر للعثور عليه بين رمال غزة دون جدوى، لكنه في النهاية خرج أمامهم من حيث لا يحتسبون ممتطيًا عنان الاشتباك حتى ارتقى.
في كل صورة من صور استشهاده قدم السنوار تأكيدًا جديدًا على قوة سردية الفلسطيني وخلاصه الذي يحول الشهادة إلى نصر آخر، من الأمتار القليلة التي فصلته عن المعسكر الإسرائيلي القريب، من الرصاص الذي زين جبهته وقدمه، من المكان الحرج الخطر الذي تواجد فيه، من عصاه الأخيرة، ومن القلة القليلة مما وجد في جعبته من مأثورات وأذكار، وحتى إعلان المقاومة استشهادَ أنبل الرجال وأشجعها.
قال الشهيد باسل الأعرج يومًا: “المقاومة جدوى مستمرة”، أما السنوار فقد خطها بدمائه “حتى الشهادة جدوى مستمرة أيضًا”.