عرفت مناطق الشرق الإفريقي خلال القرون الوسطى قيام ممالك إسلامية عدة، سيطرت على المنطقة لفترة طويلة، وتمكنت من نشر الإسلام ونقل الحضارة الإسلامية، وأدت دورًا بارزًا في تاريخ المنطقة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، من ذلك مملكة أوفات أقوى السلطنات الإسلامية في بلاد “الزيلع” التي سنتعرف عليها في هذا التقرير.
امتدادها الجغرافي
تأسست هذه السلطنة في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي على يد قوم من العرب المهاجرين إلى الحبشة، وقد نسبهم البعض إلى بني خزيمة، بينما يرى آخرون أنهم ينتمون إلى عقيل بن أبي طالب، وتذهب رواية أخرى إلى نسبتهم لعثمان بن عفان رضي الله عنه، والقول الفصل إنهم عرب ينتمون إلى القبائل القرشية.
امتد سلطان المملكة على أراضي شاسعة في منطقة القرن الإفريقي التي عرفت باسم “بلاد الزيلع”، وهي البلاد التي تحيط بهضبة الحبشة من الشرق والجنوب الشرقي، وتتمثل الآن فيما يعرف بجيبوتي والجزء الجنوبي من إقليم إريتريا وسهول الدناكل وتمتد جنوبًا وتضم الجزء الشرقي من حوض نهر عواش، والهضبة الصومالية بما فيها من منطقة هرر والأوجادين، وتمتد شرقًا لتشمل جزءًا كبيرًا مما يعرف الآن بالصومال الشمالي (الإنجليزي سابقًا) بما فيه من موانئ زيلع وبربرة.
استطاعت أوفات في فترة وجيزة أن تفرض سلطانها على معظم الدويلات والممالك الإسلامية
تقول بعض المراجع، إن مساحة الأراضي التي كانت تحت سيطرة المسلمين بزعامة “أوفات”، تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، فقد كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، ومن الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة الحبشة عزلاً تامًا عن العالم الخارجي، لا سيما بعد استيلاء المسلمين على ميناء “عدل” قرب “مصوع”.
وتنسب هذه السلطنة إلى اسم عاصمتها وهي مدينة أوفات التي كانت تسمي أيضًا مدينة جبرة أو جبرت التي كانت تعد من أكبر مدن منطقة الطراز الإسلامي (سميت بالطراز لأنها على جانبي البحر كالطراز له)، وهي على مسافة عشرين مرحلة غرب مدينة زيلع في الصومال حاليًّا.
السيطرة على طرق القوافل
امتهنت مملكة أوفات، التجارة البرية والبحرية، فقد جعلها موقعها في جنوب الهضبة الحبشية، متحكمة بطرق القوافل التي تصل البحر الأحمر وخليج عدن بداخل الحبشة، أي بين ميناء زيلع على الساحل الصومالي الشمالي، والمناطق الداخلية، وقد نشطت الحركة التجارية برعاية هذه السلطنة حتى أصبح لها علاقات قوية بكل من مصر وبلاد اليمن وغيرها من الأقطار “البحر أحمرية” بصفة خاصة.
ومن منتجات المملكة: قصب السكر والحبوب وثمار الفواكه والخضراوات، كما تتوافر على سلع مهمة للتجارة كالجلود والعاج والصمغ والذهب والبهار، ونظرًا لاحتواء هذه السلطنة على جزء كبير من وادي نهر عواش وعلى جزء كبير من الهضبة الصومالية، فقد توافر لديها قدر مهم من الأرض الخصبة والمياه اللازمة للزراعة بما يكفي حاجة السكان، وجاد فيها كثير من المزروعات وأشجار الفواكه التي لم يكن بعضها معروفًا في مصر والشام والعراق.
امتدت أوفات على طول سواحل القرن الإفريقي
إلى جانب ذلك، عرفت أوفات، بتربية الأغنام والأبقار والخيل فتدفقت الأموال عليها، وقد هيأ لها ذلك الوضع الاقتصادي زعامة دول الزيلع الإسلامية، كما هيأ لها موقعها الإستراتيجي الممتاز بأن تكون حلقة الوصل بين ممالك الطراز الإسلامي الأخرى ودول العالم الإسلامي المختلفة وخاصة في مصر والحجاز واليمن.
الجهاد ضد ملوك الحبشة
مكانتها الجغرافية وازدهارها الاقتصادي، حمّل المملكة أعباء الكفاح والجهاد ضد الحبشة النصرانية، حيث كانت أول الممالك الإسلامية خروجًا على ملك الحبشة، وذلك في عهد الملك حق الدين بعد أن ضمت إليها عددًا من الممالك الأخرى.
وتقول بعض المراجع التاريخية، على قلتها، إن الحرب كانت سجالاً بين أوفات ومملكة الأحباش، وقد استطاعت أوفات في فترة وجيزة أن تفرض سلطانها على معظم الدويلات والممالك الإسلامية، وتعلن زعامتها على الممالك الإسلامية المجاورة لها في بلاد “الزيلع”، وهو ما كان يتعارض مع مشاريع ملوك الحبشة الجدد، وتمكنت في عهد الإمام أحمد إبراهيم قراي أن تدمر وتقضي على مملكة الأمحرا الحبشية، وظلت على ذلك فترة من الزمان.
يعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات التي احتلها الأحباش نهائيًا
لم يدم هذا الأمر طويلاً، فمع تولي الأسرة “السليمانية” عرش الحبشة عام 669 هجريًا الموافق لسنة 1270 ميلاديًا، بدأت مملكة أوفات وتوابعها من الإمارات الإسلامية في التراجع، حيث شن الملك ياجبياصيون حملة صليبية عنيفة ضد إمارة “عَدَل” التابعة لأوفات، بعد أن استشعر خطر الاتحاد الإسلامي الذي كانت تدعو إليه سلطنة “أوفات”.
بعد سنوات من ذلك استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة الساحل، وفي سنة 698 هجريًا الموافق لسنة 1299 ميلاديًا، قام شيخ مجاهد يدعى محمد أبو عبد الله بحشد قبائل “الجَلا” و”الصومال” وأعدهم للجهاد وقام بغزو الحبشة، ولم تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير الهدنة.
اختار ملوك الحبشة السلام لعقود، إلى أن قوي سلطانهم، فقاموا بغزو “أوفات” في سنة 728 هجريًا من جميع الجهات وأسروا ملكها “حق الدين”، ووضعوا يدهم على مملكته وعلى مملكة فطجار الإسلامية وجعلهما ولاية واحدة وعين عليها صبر الدين وهو شقيق حق الدين بشرط الاعتراف بسيادة الحبشة.
امتدت الحرب بين الحبشة وأوفات لعقود طويلة
حاول صبر الدين إرجاع مُلك أبائه إلا أنه فشل في ذلك، وانتهت خلال فترة حكمه استقلال الممالك الإسلامية في أوفات وهدية وفطجار ودوارو، وعين عليها ملك الحبشة جلال الدين أخا صبر الدين حاكمًا، فقبل على أن يكون تابعًا للحبشة، وهكذا اتسعت مملكة الحبشة وضعف أمر المسلمين.
يعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات التي احتلها الأحباش نهائيًا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها في الجهاد، وتفرق أولاد سعد الدين العشر مع أكبرهم صبر الدين الثاني، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا في جوار ملك اليمن الناصر أحمد بن الأشرف.