ربما لم يشهد السودانيون أيامًا عصيبة منذ الاستقلال أيامًا عصيبة كالتي يشهدونها هذه الأيام حتى في تسعينيات القرن الماضي عندما كانت البلاد محاصرة من كل الاتجاهات، توتر في علاقات البلاد مع مصر شمالًا ومع إثيوبيا وإريتريا شرقًا، كما توترت علاقات الحكومة السودانية مع أوغندا جنوبًا، ومن ناحية الغرب لم تكن الأمور بأفضل حال مع الجارة تشاد، هذا كله شيء والحرب التي كانت مشتعلة بين الحكومة من جانب والحركة الشعبية ومليشيات أخرى من الجانب الثاني شيء آخر ولكن رغم كل ذلك لم تتأثر حياة المواطنين كثيرًا فقد كانت أساسيات العيش الكريم متوفرة، ولم يعانِ الناس من صفوف في الخبز ولا الوقود ولم تكن هناك مشاكل في السيولة النقدية.
الأوضاع الاقتصادية التي تزداد تفاقمًا يومًا بعد يوم حيّرت، الحكومة وأعيتها تمامًا إذ عجزت عن إيجاد أي مخرج منها وأخذت تتخبط بقراراتها من تعويم سعر صرف العملات الحرة إلى تحجيم السيولة النقدية ومنع المواطنين من سحب ودائعهم من المصارف إلى جانب قرارات أخرى عشوائية باحتكار تصدير الذهب على البنك المركزي فقط ثم استثناء 4 شركات ومنحها حق التصدير وأخيرًا جاء القرار الجديد بالسماح لكل القطاع الخاص بتصدير الذهب دعوات لتعديل الدستور لتمكين البشير من البقاء في السلطة مدى الحياة!
تزامنت القرارات الاقتصادية الأخيرة بفتح باب تصدير الذهب للقطاع الخاص مع تقدم 294 نائبًا في البرلمان السوداني يمثلون الحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه بطلبٍ لتعديل المادة 58 من الدستور، الخاصة بعدد المرات التي تسمح للرئيس بالترشح في الانتخابات، كما يشمل التعديل منح رئيس الجمهورية حق عزل الوالي المنتخب جماهيريا. والتعديلات المقترحة الهدف منها واضح وهو فتح المجال أمام الرئيس عمر البشير بالبقاء في السلطة مدى الحياة إذ لا يسمح له الدستور الحالي بالترشح مجددًا بعد العام 2020.
لم يفِ عمر البشير بتعهداته وعاد لترشيح نفسه إلى الانتخابات التي جرت قبل 3 أعوام ونصف والتي وصفها الاتحاد الأوروبي بأنها لم ترق للمعايير الدولية وقاطعتها أحزاب المعارضة الرئيسية
سبق وأن تعهد البشير أكثر من مرة بعدم البقاء رئيسًا للسودان، أبرز تلك التعهدات كانت في العام 2012 إذ أدلى بتصريح ٍواضحٍ لصحيفة الراية القطرية قال فيه ردًا على سؤال عن إمكانية ترشحه في انتخابات 2015: “أبدا .. لن أترشح مجددًا والمؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني سيُعقد العام المقبل وهو يُعقد كل أربعة أعوام ومؤتمر عام 2013 سيكون مؤتمر إعادة البناء حيث سينتخب المؤتمر العام رئيس حزب المؤتمر الوطني المقبل والذي سيكون بالتالي مرشحًا للرئاسة عام 2015.” تصريح البشير بعدم الترشح لنتخابات 2015 وضعته الصحيفة العنوان الأبرز لها ذلك اليوم باعتباره سبقًا صحفيًا ولطول الفترة التي مكثها البشير في حكم السودان.
تعهدات سابقة بعدم الترشح
بالطبع لم يفِ عمر البشير بتعهداته وعاد لترشيح نفسه إلى الانتخابات التي جرت قبل 3 أعوام ونصف والتي وصفها الاتحاد الأوروبي بأنها لم ترق للمعايير الدولية وقاطعتها أحزاب المعارضة الرئيسية وشكّك في نزاهتها أهل البلد أنفسهم قبل الآخرين حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات توضح قيام عدد من الأشخاص بالتوصيت على عدد من البطاقات إلى جانب مشاركة أطفال دون السن القانونية بعد مضي عامين على فترته الرئاسية الأخيرة عاد البشير إلى قطع الوعود بعدم الترشح للانتخابات فحتى نهاية العام الماضي كان يجدد تعهداته السابقة بالتخلي عن الحكم في البلاد مع نهاية دورته الرئاسية الثانية عام 2020، وتسليم السودان لخليفته خاليًا من الحروب وفق ما ذكره في تصريحات أمام حشد شبابي ولكن بموازاة هذه التصريحات كان البشير يُشرف شخصيًا على الحملات الداعمة لترشيحه والتي كانت تنتظم الولايات خلال العامين الماضي والحالي وفق ما ذكره المفكر الإسلامي الطيب زين العابدين، وما يؤكد هذه النية المسبقة أن الرئيس البشير لم يعترض على حملات الدعم ولم يرفض وثائق الترشح التي كان يسلمها له ولاة الولايات، فإذا كان عازمًا على الرحيل مؤكد أنه كان سيوقف هذه الحملات باعتبار أمر ترشحه محسومًا وأنه لا مجال للتراجع عن التعهد.
الاقتصاد يواصل التدهور والمواطنون يفقدون الثقة في المصارف
الوعود الكثيرة التي قطعها عمر البشير أمام الناخبين في اقتراع 2015 وفي خطاب التنصيب بعد فوزه بنسبة 94% ذهبت كلها أدراج الرياح بل إن الأوضاع أخذت تسوء يومًا بعد يوم وأخذ سعر صرف العملات الأجنبية يرتفع أمام العملة الوطنية يمضي بمتوالية مخيفة لم يفلح معها خفض قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي مرتين خلال عام واحد أولهما في فبراير/ شباط إلى 31.5 وفي أكتوبر/ تشرين الأول إلى 47.5 وفقًا لما يعرف بآلية صناع السوق، علمًا أن الأسعار المشار إليها أعلاه هي الأسعار الرسمية والتي لا يمكن للمواطن العادي الحصول عليها إذ إن المتاح في السوق السوداء يرتفع بفارق كبير عن السعر الرسمي.
استعصى على السودانيين الحصول على الخبز والوقود في مؤشر على عمق الأزمة الاقتصادية
الأنكى والأمر من هذا أن الدولة منعت المواطنين السودانيين من سحب أموالهم المودعة في المصارف منذ فبراير/ شباط الماضي بهدف تحجيم السوق السوداء للنقد الأجنبي، ولكن هذه القرارات العشوائية أتت بنتائج سلبية أهمها فقدان الثقة تمامًا في القطاع المصرفي وقُرب انهيار البنوك بسبب إحجام العملاء عن توريد أموالهم، إلى جانب ظهور أمر لم يكن في الحسبان وهو تفشي البيع الآجل باستخدام الشيكات في المعاملات المالية بسعرٍ أعلى من الكاش وهذا ما اعتبره رجال الدين تعاملات ربوية خطيرة وشنوا هجومًا عنيفًا على سياسات الحكومة الاقتصادية التي حملوها المسؤولية فيما يحدث.
كما استعصى على السودانيين الحصول على الخبز والوقود في مؤشر على عمق الأزمة الاقتصادية، واللافت أن حكومة البشير كانت تفخر طيلة الأعوام الماضية بأنها حققت وفرة في السلعتين الحيويتين وخلّصت السودانيين من ظاهرة الطوابير التي عادت بصورة أكبر من أيام الأحزاب. وقطاع الدواء لم يسلم هو الآخر إذ كان نتاج الإجراءات الأخيرة عدم توفير الدولة النقد الأجنبي لشركات الأدوية، بسعر البنك، والتي كان يمثلها 10%، من حصيلة الصادرات غير البترولية، الذي نتج عنه أمران، خروج شركات طبية من السوق، وعجزها عن الاستيراد، إضافة إلى تضاعف أسعار الدواء. وثانيهما توقف الشركات عن البيع، لعدم ثبات سعر صرف الدولار، وعدم تسعير الدولة لشركات الأدوية، عبر المجلس الاتحادي للصيدلة والسموم وهيئة الإمدادات الطبية، وهي الجهات المسئولة ونتج عن ذلك عدم توافر الدواء في الصيدليات، وشحه في الأسواق.
كتلة برلمانية وأحزاب ضد ترشح عمر البشير
كتلة التغيير في البرلمان السوداني التي يقودها النائب المستقل أبوالقاسم برطم تعهدت بمقاومة مقترح تعديل الدستور، وقطع برطم بأنه لا سبيل لتعديله إلا بواسطة استفتاء عام حتى لا يرهن الدستور لقلة وصفها بأنها لا تمثل “8%” من مجموع الشعب السوداني، وشدد على أن الأولوية يجب أن تكون لحل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي شلّت جميع مرافق الحياة وتتطلب من الشرفاء والوطنيين ألا يكون لهم شاغل حقيقي غيرها وكيفية الخروج منها.
بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة كالمؤتمر الشعبي عبّرت صراحة عن رفضها لترشح البشير
نُذكّر بأن كتلة التغيير التي يقودها برطم تمثل صوت الأقليّة في البرلمان السوداني الذي يهيمن عليه الحزب الحاكم، ولكن الكتلة تتمتع بشعبية واسعة وسط السودانيين لمواقفها المشرفة إذ إنها ناهضت بشدة المشاركة في حرب اليمن وانتقدت كثير من القوانين والتشريعات الحكومية، حتى لو أجيزت التعديلات الدستورية بالأغلبية الميكانيكية التي يتمتع بها الحزب الحاكم يمكن للكتلة أن تتخذ قرارًا بالانسحاب الجماعي من البرلمان أو تجميد العضوية على الأقل مما سيقوض تحركات الحكومة الرامية إلى تحسين سمعتها خارجيًا وتتطلع إلى منحها “صك براءة” من قائمة دعم الإرهاب الأمريكية.
كما أن بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة كالمؤتمر الشعبي عبّرت صراحة عن رفضها لترشح البشير، حيث أكد كمال عمر القيادي بالحزب المشارك في الحكومة، بالانسحاب إذا ما أقر البرلمان التعديلات الدستورية التي تسمح للبشير بالترشح مدى الحياة. وخطوة انسحاب الشعبي التي لوّح بها من قبل أمينه العام علي الحاج ستهدد حكومة الوفاق الوطني على علاتها وقد تفتح المجال لانسحاب أحزاب أخرى.
حلفاء حرب اليمن لم يقدموا شيئًا لحليفهم البشير
اعتزام البشير الترشح لانتخابات 2020 يثير تساؤلات عديدة في أذهان المتابعين وعامة الشعب السوداني، فخلال ال30 عامًا الماضية فشل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتفاقم في عهده الفساد حتى صار السودان ضمن قائمة أكثر دول العالم فسادًا، وانهارت المؤسسات الكبرى مثل مشروع الجزيرة والخطوط الجوية السودانية، ومع استمرار تدهور قيمة الجنيه السوداني ووصوله إلى حاجز 66 أمام الدولار حتى يوم الخميس 6 ديسمبر/ كانون الأول فإنه لا بارقة أمل تلوح في الأفق لحل سياسي واقتصادي لأزمات السودان المختلفة التي عادت بالبلاد إلى عهود سابقة حيث لم يكن أحد يتصور أن تعود صفوف الخبز والوقود وينعدم الدواء وتفرغ خزائن البنوك والصرافات الآلية من النقد المحلي ناهيك عن النقد الأجنبي.
السعودية والإمارات حلفاء البشير تخلوا عن دعمه رغم محاولات التودد لهم والزيارات التكررة وإرساله لآلاف الجنود للمشاركة في حرب اليمن من دون موافقة البرلمان وإجراء دراسة وافية للخطوة، وعلى الرغم من ذلك لم يقدم التحالف السعودي الإماراتي للنظام السوداني أي دعم معلن سوى وديعة إماراتية لا تسمن ولا تغني من جوع “نصف مليار دولار” في حين كانت الرياض وأبوظبي توزعان المليارات يمينًا ويسارًا على الحلفاء الذين نأوا بأنفسهم عن المشاركة في محرقة اليمن مثل عبدالفتاح السيسي.
وقطر كذلك آثرت الصمت ومتابعة ما يجري في السودان بحذر بعد أن أحجمت حكومة البشير عن دعم موقف الدوحة في الأزمة الخليجية والحصار الذي تعرّضت له منذ عام ونصف، وكان الطيب مصطفى “خال” الرئيس البشير صريحًا عندما تحدث عنما أكد ذلك وأشار إلى أنه كان ينبغي على الحكومة السودانية الوقوف إلى جانب قطر تقديرًا للدعم الذي ظلّت تقدمه للسودان طيلة ال3 عقود الماضية. ويلفت الكاتب المعروف عبداللطيف البوني إلى أن تركيا مترددة في توجهاتها نحو السودان مشيرًا إلى مرور عام على زيارة الرئيس أردوغان إلى الخرطوم والاتفاقيات التي وقعت بين البلدين، ويتساءل البوني: “لماذا هذا التردد؟ ومتى تكون نهايته ؟”، ويعود للإجابة قائلًا: ” قد تكون “تركيا” غير واثقة من استقرار الأحوال في السودان والاستثمارات الزراعية كما هو معلوم تحتاج لزمن حتى تؤتي أكلها.”
حل أزمات السودان يبدأ من إيجاد مخرجٍ لقضيته أمام المحكمة الدولية واقناعه بعدم الترشح مجددًا في انتخابات 2020 إذ إن الأوضاع الآخذة في التدهور تشير إلى اقتراب البلاد من سيناريو الفوضى الشاملة
والتعويل كذلك على صادرات الذهب غير مجدٍ إذ كانت الحكومة السودانية تسمح للقطاع الخاص حتى العام الماضي بتصديره، ثم رأت احتكاره على البنك المركزي من يناير/ كانون الثاني الماضي بهدف دعم احتياطات النقد الأجنبي لأن بنك السودان المركزي كان يشتري الذهب من المعدنين التقليديين بسعر منخفض كان الكثير منهم يقوم بتهريبه إلى الخارج، إذ تشير التقديرات إلى أنه يتم تهريب نحو 70 % من الإنتاج إلى الخارج، سعيًا من المنتجين للحصول على سعر مجزٍ بدلًا من القيمة المنخفضة التي كان يدفعها لهم البنك الحكومي. ولذا فإن قرار السماح للقطاع الخاص بتصدير الذهب مباشرة لا يتوقع أن يؤثر كثيرًا على تدفق النقد الأجنبي وسد حاجة البلاد من العملات الحرة، فقد كان مسموحًا للشركات بالتصدير حتى مطلع العام الحالي ولم يظهر أثر إيجابي لصادراتهم.
الجنائية الدولية.. كلمة السر
لكل ما سردناه لا يبدو في المنظور القريب شيء يوحي بأن الرئيس عمر البشير يعول عليه للاستمرار في الحكم والترشح لفترات غير محدودة، ومن الواضح تمامًا أن مذكرتي الاعتقال اللتين أصدرتهما محكمة الجنايات الدولية بحقه عامي 2009 و2010 بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، في إقليم دارفور هي السبب الأول في تشبثه بالسلطة ومن غير المحتمل أن يتخلى عنها مهما ساءت الأوضاع الاقتصادية وازداد الرفض الشعبي لبقائه.
ولذلك فإن حل أزمات السودان يبدأ من إيجاد مخرجٍ لقضيته أمام المحكمة الدولية واقناعه بعدم الترشح مجددًا في انتخابات 2020 إذ إن الأوضاع الآخذة في التدهور تشير إلى اقتراب البلاد من سيناريو الفوضى الشاملة والانهيار الكامل في ظل المعطيات الحالية وفشل حكومة معتز موسى التي تم تشكيلها قبل 3 أشهر. ويمكن أن يفتح تنازل البشير الباب أمام خطط الإصلاح الشامل وإنقاذ البلاد ليعود السودان دولةً منتجة مؤثرة في محيطها، فمن الواضح أن الرهان على أي حل آخر يبدو غير ذا جدوى مع الاتهامات الموجهة لكوادر الحزب الحاكم بتزوير الانتخابات.