فتحت واقعة قتل وتقطيع أوصال الكاتب السعودي جمال خاشقجي، أبوابًا كثيرة للسؤال عن دور السفارات العربية بالخارج في التعامل مع المعارضين لسلطات بلادهم، فقبل شهرين دخل الكاتب السعودي لقنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، لإنهاء معاملةٍ تتعلق باستخراج وثيقة “عزوبية”، ليتسنى له الزواج على القانون التركي، فلا مجال للتعدد في الزواج المدني في تركيا، لكنه لم يخرج، وعلى مدار أكثر من شهرين ما زالت تتكشف حقيقة ما حدث له.
منتصف العام الحاليّ، كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد المصريين المغتربين بالخارج بلغ نحو 9.5 مليون مواطن، يتركز أغلبهم في الدول العربية، بواقع 6.2 مليون، وحسب بيانات الجهاز لعام 2018، فإن أعداد المصريين وصلت إلى 96.3 مليون نسمة.
هذه الأرقام الكبيرة من المقيمين بالخارج، تدفع دومًا للتساؤل عن دور البعثات الدبلوماسية المصرية في دعم هؤلاء المغتربين، خصوصًا في ظل ظروف المعاملة المتردية للعمالة المصرية في عدد من الدول العربية، فخلال شهري نوفمبر الماضي وديسمبر الحاليّ، وقعت في المملكة العربية السعودية، ثلاث حوادث قتل لمواطنين مصريين على يد سعوديين.
ففي مساء الخميس، الـ15 من نوفمبر الماضي، قالت وسائل إعلام سعودية، بينها صحيفة “عكاظ”، إن سعوديًّا، طعن صيدليًا مصريًا في أثناء عمله بإحدى الصيدليات الكبرى في مدينة جازان جنوب غربي المملكة، 7 طعنات، أدت إلى مقتله، دون أن تذكر هذه الوسائل أي أسباب، وفي الجمعة الـ24 من نوفمبر، أعلن نائب رئيس الاتحاد العام للمصريين في الخارج عادل حنفي، أن المواطن المصري البغدادي ناجي البغدادي الذي كان يعمل حارس أمن في مزرعة بالرياض قُتل في حادث سطو، وفي الـ6 من ديسمبر، تعرض الشاب المصري علي محمد عطية شعيب لحادث دهس بسيارة مواطن سعودي في العاصمة الرياض.
تمثل الرد المصري على هذه الوقائع، بالتصريح بمتابعة الحوادث بالتنسيق مع السلطات المحلية في الرياض، حيث أصدر وزير القوى العاملة المصري محمد سعفان، تعليمات لمكتب التمثيل العمالي التابع للوزارة في السفارة المصرية بالرياض، بمتابعة تعويضات ومستحقات العامل المقتول.
يبلغ عدد البعثات الدبلوماسية والقنصلية لمصر في الخارج 162 بعثة يعمل بها قرابة 531 دبلوماسيًا، فضلاً عن طاقم المعاونين الإداريين، يتوزعون بين دول العالم، ويصلون إلى عواصم ربما لا يسمع عنها المصريون شيئًا
هذه هي الوقائع الأحدث على العمالة المصرية في الخارج، حيث تمتد هذه الاعتداءات بطول خط الدول العربية، من الأردن إلى السعودية إلى الكويت، سواء كانت حوادث اعتداء بالضرب أو العنصرية ضد العمال في هذه البلدان، في ظل صمت أو تعامي البعثات الدبلوماسية أغلب الأحيان عن هذه الانتهاكات.
لكن ما حدث في قنصلية المملكة العربية السعودية في إسطنبول، ضد الكاتب السعودي جمال خاشقجي، فتح الباب أمام هذا السؤال: ماذا عن تعامل البعثات الدبلوماسية المصرية مع المعارضين للنظام المقيمين في الخارج؟
يبلغ عدد البعثات الدبلوماسية والقنصلية لمصر في الخارج 162 بعثة يعمل بها قرابة 531 دبلوماسيًا، فضلاً عن طاقم المعاونين الإداريين، يتوزعون بين دول العالم، ويصلون إلى عواصم ربما لا يسمع عنها المصريون شيئًا، لكن بين كل هذه البعثات والممثليات، للخارجية المصرية قنصليات وسفارات ذات صلةٍ بما نكتب عنه اليوم، فتركيا وقطر وماليزيا والسودان، هي الدول التي تتركز بها المعارضة المصرية لنظام عبد الفتاح السيسي تليها بريطانيا وبعض دول أوروبا بشكلٍ أقل.
في إسطنبول/تركيا، التقينا أحمد، وهو اسمٌ مستعار، شابٌ مصري يقيم في تركيا منذ عام 2014، قرر الزواج من فتاةٍ تركية بعد ثلاثة أعوام من وصوله إلى إسطنبول، إلا أنه واجه مشكلة لإصدار وثيقةٍ “القيد العائلي” التي تُثبت عزوبيته في أثناء إجراءات إتمام الزواج، حيث رفض العاملون في القنصلية بإسطنبول إصدارها، ما دفعه تأجيل زواجه عدة أشهر حتى استخرجها من القاهرة.
طبقًا للقانون المصري فإنه لا يحق للمطلوبين للتجنيد الإجباري تجديد جوازات سفرهم، أو السفر خارج البلاد، ويستثنى من ذلك من هُم مقيدون دراسيًّا سواء في جامعات مصرية أم غير مصرية
“ذهبت للقنصلية مرارًا، آخرها كان لقاء بالقنصل العام بسام راضي، أخبرني أنَّ لدي مشكلة أمنية في مصر، وعليَّ إنهائها قبل أن أطلب أي مساعدة من القنصلية” يقول أحمد الذي حُكم عليه عام 2015 غيابيًّا في إحدى القضايا بالقاهرة، ويواجه حُكمًا بالسجن لمدة 15 عامًا.
يتردد على القنصلية المصرية في إسطنبول بحي بيبيك الراقي، يوميًّا كثير من المصريين لإنهاء معاملات تتعلق بالزواج واستخراج شهادات الميلاد وتوثيق الأوراق وتجديد جوازات السفر، لكن الأخيرة هي ما يؤرق جُل المقيمين هنا، كثيرٌ ممن تحدثنا إليهم يواجهون أزمةً في تجديد جوازات سفرهم بعد انتهائها أو فقدانها، حيث تمتنع القنصلية عن تجديد جوازات سفرٍ لهم، حتى وإن لم يكُن لهؤلاء أي مشكلة أمنية في مصر.
عبر أحد التطبيقات الإلكترونية، تحدثنا إلى طالب اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية، مازن محمد، الذي قرر اللجوء إليها مطلع العام 2018، بعد رفض تجديد جواز سفره، في يناير عام 2017، فبعد استيفاء الأوراق التي تؤكد أنه طالب بإحدى جامعات إقليم شمال قبرص، التي يتم بهذا الإثبات تأجيل جيشه الإجباري في مصر، تقدم مازن بهذه الأوراق إلى قنصلية بلاده في إسطنبول لاعتمادها، ثم المركز الثقافي المصري، وبعد اعتماد هذه الأوراق، سجلها مازن عبر منصة البعثات التابعة لوزارة التعليم العالي وإرسالها لذات الجهة في مجمع التحرير بالقاهرة، ليصله الرد في سبتمبر من نفس العام بأن الأوراق لم يتم قبولها من إحدى الجهات الأمنية.
وطبقًا للقانون المصري فإنه لا يحق للمطلوبين للتجنيد الإجباري تجديد جوازات سفرهم أو السفر خارج البلاد، ويستثنى من ذلك من هُم مقيدون دراسيًّا سواء في جامعات مصرية أم غير مصرية.
في زيارته الأولى للقنصلية، تعرّض مازن لما يشبه التحقيق لأكثر من ثلاث ساعات عن طريق شخص لم يُفصح عن هويته، وبعد انتظار لساعات تم اعتماد الأوراق، وجرى إرساله للقاهرة إلا أنه لم يتم الموافقة على تجديد جواز سفره لأسباب لم تُفصح عنها سلطات البلاد.
رفضت السفارة المصرية في لندن تجديد جواز سفر الصحفي المصري عبد المنعم محمود طالبة منه التوجّه إلى القاهرة في حال رغب بتجديد جواز سفره
حاول مازن في مطلع عام 2017 إعادة طلب التجديد، ليتعرض مرة أخرى لأسئلة كثيرة، عن أسباب دراسته في قبرص وإقامته السابقة في دولة قطر، يؤكد مازن أن من طرح عليه الأسئلة تعامل معه كمواطن مصري ينتظر إتمام بعض الأوراق، إلا أن ما أثار ريبته أنه كان أول من دخل إلى مبنى القنصلية في إسطنبول، بعد فتح بابها بثوانٍ في صباح هذا اليوم، بعد فشل محاولته التي استمرت لتسعة أشهر، قرر مازن التوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية أواسط عام 2017، ليقدم طلبه للجوء في مطلع العام 2018، ومازال ينتظر الرد على طلبه من السلطات الأمريكية.
السياسي المصري أيمن نور، تمتنع سلطات بلاده عن تجديد جواز سفره منذ أبريل 2015، فقرر الرجل سلوك المسار القانوني للحصول على حقه في جوازٍ للسفر، لتصدر المحكمة الإدارية العليا، قرارها بإلزام وزير الخارجية والقنصل العام في لبنان وإسطنبول بتجديد جواز سفره، لتطعن الخارجية على قرار المحكمة، ويستمر الأمر متداولًا في المحاكم حتى اليوم، رغم صدور حكم واجب النفاذ.
ورفضت السفارة المصرية في لندن تجديد جواز سفر الصحفي المصري عبد المنعم محمود طالبة منه التوجّه إلى القاهرة في حال رغب بتجديد جواز سفره، وأعلن محمود أنه تقدّم باستمارة تجديد جواز السفر في القنصلية المصرية في لندن بتاريخ 3 من يناير/كانون الثاني 2017، وتم إبلاغه بأن جواز السفر يصدر خلال شهر من وقت التقديم، ليكتشف لاحقًا وجود رفض تجديد الجواز في لندن، حيث يقيم.
توقفت حياة أنس إبراهيم منذ العام 2015 حينما فقد جواز سفره في أحد أحياء مدينة إسطنبول، توجه أنس فور فقدان الجواز إلى أقرب جهةٍ شرطية للإبلاغ عن فقدان الجواز، والحصول على إفادة بذلك ليتسنى له مخاطبة سلطات بلاده للحصول على وثيقة أخرى، تقدم أنس إلى القنصلية في إسطنبول لتقديم طلبٍ بذلك، أخبروه أن عليه الانتظار حتى يتواصلوا معه، مر أربعة أشهر دون خبر، عاد أنس للتواصل معهم مرةً أخرى، لكنه لم يتلق أي إجابة مفيدة “سنتصل بك حينما يصلنا الرد من القاهرة”، أخبره الموظف المسؤول بذلك.
سافر أنس من مصر عام 2014، بعد مواجهته اتهاماتٍ تتعلق بقلب نظام الحُكم، ليضطر إلى الهروب للسودان ومنها إلى تركيا حيث يعيش الآن.
تحدثنا إلى تسع حالات مشابهة لحالة أنس، تعرضت طلبات تجديد جوازات سفرهم للرفض الأمني من السلطات في القاهرة، ومنذ هذه اللحظة لم يتسن لهم الحصول على وثائق سفر مصرية
بعد خمسة شهور أخرى من المكالمة الأولى، قرر أنس العودة لزيارة القنصلية لاستكشاف ما حدث، ليفاجأ أن الرد بالفعل جاء من القاهرة، برفض تجديد جواز سفره لأسبابٍ أمنية – لم يجر تفسيرها -، وحينما طلب من موظف القنصلية الحصول على نسخةٍ من الرد، أفاده بأن بهذه الأوراق تعتبر أوراقًا سيادية ولا يجوز تسليمها أو الحصول على نسخةٍ منها، يُخبرنا أنس أنه منذ فقدان الأمل في تجديد وثيقة سفره، توقفت الحياة من حوله فلا يستطيع إتمام زواجه بشكل رسمي لدى السلطات التركية ولا يستطيع الحركة خارج البلاد، منذ حصوله على الإقامة الإنسانية التي لا تُتيح له إلا الإقامة بشكل قانوني داخل تركيا.
تحدثنا إلى تسع حالات مشابهة لحالة أنس، تعرضت طلبات تجديد جوازات سفرهم للرفض الأمني من السلطات في القاهرة، ومنذ هذه اللحظة لم يتسن لهم الحصول على وثائق سفر مصرية.
أحد هؤلاء، رفض الإفصاح عن هويته، يدرس في تركيا بمنحةٍ من الحكومة منذ عامين، انتهى جواز سفره، لكنه حينما سعى لاستخراج آخر من القنصلية قوبل بطلب العديد من الأوراق التي لا يتم استخراجها إلا من القاهرة، كتأجيل الجيش والتسجيل بإدارة البعثات التابعة لوزارة التعليم العالي في القاهرة.
العبارة المشتركة بين كل من التقيناهم وتحدثنا إليهم، هي “حياتنا متوقفة على ورقة”.