تأبى تلك اللحظات الأخيرة، والتي لا تتجاوز بضعة ثوان، في حياة الشهيد يحيى السنوار، إلا أن تُسطر بماء من ذهب في سجلات التاريخ الخالدة، تلك اللحظات التي نسفت مزاعم المحتل وأعوانه حول حياة الرجل ومعتقداته ومبادئه، وقلبت الطاولة من بعيد على الجميع، من القيادي المتترّس بالأسرى، القابع داخل الأنفاق، المضحي بأبناء شعبه لرفاهية مؤقتة، كما يدندن المحتل، إلى البطل المغوار، الذي ارتقى وهو يحارب عدوه حتى بعصاه بعدما تسلل الموت إلى بقية أعضاء جسده، مرتديًا بزته العسكرية وملتحفًا بكوفية بلاده، حاملا أذكاره ومسبحته ورصاصة كان يُمني النفس أن تستقر في قلب المحتل فتفتح الطريق نحو التحرير.
لم يكن يتوقع أشد المناصرين للسنوار، وأقربهم له حبًا ومكانة، ناهيك عن المحتل وأعوانه، أن يكون المشهد الختامي لقصة الرجل الذي دوّخ أعتى أجهزة استخبارات العالم، ومرّغ أنف “الجيش الذي لا يقهر” في التراب، بهذه الأيقونية، بتلك السردية الأسطورية، بهذه التفاصيل الأقرب للخيال منها للواقع في زمن الخذلان والانبطاح، وهذا -كما يقول الدعاة- علامة حسن ختام، أراد الله أن يمنحها لرجل عاش لأجل قضية وطنية عادلة ومات عليها وفي سبيلها، مقبل غير مدبر.
قد تكون ثوان معدودات في حسابات الزمن التقليدية، لكن أمامها تقف كل قواميس اللغة عاجزة عن الوصف، فالمشهد في رمزيته يبلغ من الوضوح ما يغنيه عن التوضيح، ومن الهيبة ما يغنيه عن التهييب، ويسطر لحالة استثنائية في هذا الظرف العبثي، حالة تُحيل الميت حيًا، والمهزوم منتصرًا، وتقلب الطاولة على العدو فتحول نصره هزيمة وأفراحه أتراحًا.
منذ بداية حماس وما قبلها على طريق المقاومة، لم تعرف الساحة مشهدًا بتلك السردية المفعمة بزخات الهيبة والتقديس، رغم العلامات المضيئة على درب النضال الخالد، وهو السر وراء حالة الانبهار غير المتوقعة التي تخيم على الجميع منذ بث مقاطع وصور استشهاد السنوار، الذي تحول إلى أسطورة بمعنى الكلمة، لا ينكرها إلا مرجف أو خائن، أسطورة تتغاير شكلًا ومضمونًا مع ما سبقها وتشي بإيذان مرحلة جديدة من القيادة غير الكلاسيكية، تضع أولى لبناتها نحو رمزية مختلفة ستكون محطة فاصلة، فما بعدها لن يكون بأي حال من الأحوال كما كان قبلها.
السنوار: حنكة السياسي وبزّة الميدان
في الجيوش النظامية وحتى في التنظيمات المسلحة، دومًا ما يكون القائد ملتحفًا بزي السياسي أكثر منه مقاتل، حتى وإن ارتدى بزته العسكرية- وفي المعارك تكون الإدارة غالبًا خارج ساحة الوغى، فهو العقل الذي يفكر ويخطط ويرسم، لكن مهمة التنفيذ تقع على عاتق قادة آخرين، وفق الهرم القيادي التسلسلي الذي يحدد الاختصاصات ولا يخلط بينها، فهو رأس الهرم الذي يجب الحفاظ على حياته وإلا فسقوطه يعني ضربة معنوية قاسية قد تجعل الهزيمة أقرب من النصر.
ومنذ احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وبداية ظهور عمليات المقاومة في إطار هيكلي تنظيمي، لم يُعرف أن استشهد قائدٌ لأي من حركات المقاومة أثناء اشتباك مع العدو، رغم ما قدموه من تضحيات، إلا أن مشهدية المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال حتى الرمق الأخير كانت غائبة قبل السطر الأخير من حياة السنوار.
واستطاع السنوار، بما لديه من إيمان وعقيدة ورؤية ورسالة، شكلتها التجارب القاسية التي مر بها في حياته، وصنعت منه قائدًا استثنائيًا، أن يجمع بين الحسنيين، القيادة السياسية والعسكرية، فكان القيادي المتكامل، بارع في السياسة حين يجلس على الكرسي، ومقاتل شرس حين يُمسك سلاحه في ساحة المواجهة مع المحتل، فاستطاع أن يحصن السياسة بالقتال وأن يروض القتال بالسياسة.
ولم يقف الجيل الحالي ولا الذي سبقه على تجربة حية كتلك، أن يكتب القائد السياسي سطره الأخير في حياته وهو يقاتل عدوه حتى بعصاه، ليعاين على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من الجميع هذا المشهد الأسطوري، الذي أبهر الكثير من النشطاء والمدونيين غير العرب، إذ وصفه المدون الياباني “ثوتون أكيموت” بـ “المحارب الساموراي”، الذي يدافع عن الناس حتى الموت (“الساموراي” هو لقب يطلق على العسكريين النبلاء الذين عاشوا في العصور الوسطى في اليابان، وتعني “ساموراي” في اللغة اليابانية “الخدمة”، في إشارة إلى عمل المحاربين على خدمة الناس).
دراسة العدو
معروف أن القيادة كغيرها من فنون السياسة علم له أصوله وأبجدياته، ويتطلب ممن يتولى أي منصب قيادي أن يكون ملمًا على الأقل بالحد الأدنى من معرفة جيرانه، ناهيك عن أعدائه وخصومه، ورسم تصور عام عن عقليتهم وأيديولوجيتهم بما يساعده على التعامل معهم والتصدي لأي مخاطر من المحتمل أن يتعرض لها على أيديهم.
لكن الأمر مع السنوار كان مختلفًا، فالـ 23 عامًا التي قضاها في سجون الاحتلال كانت كافية وكفيلة لأن يدرس الرجل خصمه عن قرب ومن كافة المسارات وعلى مختلف الأصعدة، فتعلم لغتهم، وأتقن منهجهم، وغاص في أسبار عقيدتهم، وتنقل بين جداول أفكارهم بأريحية كاملة، ونجح في رسم خارطة ودليل واضح لفهمهم ومن ثم التعامل معهم، وكأنه كان يعد نفسه لمهمة مقدسة، لم تكن تفاصيلها تدور بخلده آنذاك.
ومنذ أن أفرج عنه في عام 2011 وشكل السنوار بما لديه من مخزون معلومات هائل عن الاحتلال وعقليته ومنهجه، عقبة ومعضلة كبيرة لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي كانت تعده خطرًا لا يمكن استمراره مهما كان الثمن، فما يعرفه عنهم كفيل أن يجعله أسبق منهم بخطوة إن لم يكن خطوات، وهو ما حدث في عملية طوفان الأقصى التي استبق بها مخطط التوسع الاستيطاني والتوغل في القطاع والضفة معًا.
السنوار، القدوة
كان المشهد رهيبًا، حابسًا للأنفاس، أقرب لمشاهد السينما الصامتة، منزل مهدم، يظهر بداخله رجل ملثم، يجلس وحيدًا على كرسيه، مثخن بالجراح، لا يظهر منه سوى بعض نظراته، بدت عليه أثار معركة وحشية شرسة، لا يملك من الأمر سوى عصا بيسراه، القاها على شيء ما يطارده أو يصوره.
قدم السنوار نموذجًا فريدًا في القيادة في بعدها الإنساني والأخلاقي، فالمشهد المرتبك في القطاع والحرب الضروس التي يشهدها الفلسطينيون، والثمن الباهظ الذي يدفعه المقامون وغيرهم من المسالمين، مقابل الوحشية والإجرام الإسرائيلي غير المحتمل، دفعه لأن يكون في الصفوف الأمامية من المعركة نهارًا، وعلى كرسي القيادة السياسية ليلًا.
ولم يكتف السنوار بدعم مقاوميه بالوقوف إلى جانبهم في المعركة فحسب، وإن فعل ذلك فلا لوم عليه، لكنه اختار أن يكون جنديًا قائدًا، وأن يتقدم الصفوف، وأن يكون في مقدمة الصف الأول الذي يواجه المحتل من المسافة صفر، حيث الاشتباك وجهًا لوجه، مثله مثل أيّ مقاوم، ليقدم رسالة واضحة مفادها أنه في ساحة الوغى لا فرق بين قائد وجندي، فالكل في سبيل القضية سواء، وليس بدماء القائد أزكى من دماء الجندي، رسالة كان لها مفعول السحر في صمود أبنائه من المناضلين على مدار أكثر من عام من الحرب.
واستطاع السنوار ببسالته أن يتحول من قائد سياسي وعسكري إلى قدوة يحتذي بها الأخرون، فكان بطارية القوة التي يشحن بها المقاتلون عزيمتهم، والسلاح الذي يفتكون به جدران اليأس والإحباط، والشعلة التي يوقدون بها شموس الأمل الذي يعزز إيمانهم بقضيتهم ويضخ في شرايينهم دماء الصمود والتحدي رغم الفوارق الكبيرة في الإمكانيات والقدرات العسكرية مع جيش العدو.
ميتة تليق ببطل
تكمن أيقونية مشهد استشهاد السنوار في تطابقه مع ما كان يتمناه وهو بكامل صحته وقبل بدء عملية الطوفان بأكثر من عامين تقريبًا، حين قال خلال لقاء صحفي له قبل 3 سنوات إن “أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدًا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس”، وتابع: “في هذا السن اقتربت من الوعد الحق وأفضل أن أموت شهيدًا على أن أموت فطيسة”.
لم يكن يتخيل الحاضرون أمام السنوار خلال هذا اللقاء، ولا من استمعوا له لاحقًا، أن الرجل لم يكن يعبر عن أمنية يتمناها قدر ما كان يتوقع سيناريو النهاية بتفاصيله الدقيقة، فمن يعيش على ما عاش عليه من نضال ومقاومة للمحتل، داخل السجن وفي الأسر وفي المخيم وفي المعركة، لابد وأن يكون السطر الأخير بهذه الأسطورية، وأن يكون الارتقاء بتلك الصورة المشرفة.
المثير للدهشة هنا أن السنوار قد رسم بنفسه مشهد النهاية قبل أكثر من عشرين عامًا تقريبًا، بينما كان أسيرًا في سجون الاحتلال لا يُرجى إطلاق سراحه، وكأنه قد اتخذ عهدًا على نفسه أن يتحقق هذا المشهد بتفاصيله التي دونها في روايته الشهيرة “الشوك والقرنفل” والتي كتبها في الأسر، حيث جاء فيها حديث يوجهه إلى أمه ويقول فيه: “الآن جاء الموعد يا أماه، فلقد رأيت نفسي أقتحم عليهم مواقعهم، أقتلهم كالنعاج ثم أستشهد، ورأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، وهو يهتف بي مرحى بك، مرحى بك!”، وهو ما يتطابق حرفيًا مع شهادات العدو الموثقة بالصور والمقاطع المرئية.
لم يمنح العدو نشوة الانتصار
لاشك أن مشهد استهداف السنوار ما كان له أن يخرج بهذه الكيفية لولا تسريب جنود الاحتلال لصور الاستهداف بشكل غير مدروس، إذ غلبت الصدمة والمفاجأة خبثهم وتركيزهم، فسارعوا بالاحتفاء والنشر دون العودة لقيادتهم، وإن كان ذلك من تراتيب الله أن يلقى القائد الشهيد خاتمة تليق به وتتوج مسيرة نضال سيخلدها التاريخ رغم كيد الكائدين.
فالمشهد الذي كان يتمناه نتنياهو إذا ما وصل إليه خبر استهداف قائد حماس قبيل النشر، أن يجلس الرجل على كرسيه، محاط بقادة جيشه وأجهزة استخباراته، داعيًا كافة وسائل الإعلام الدولية والعالمية للتغطية، ملقيًا كلمة استعراضية منمقة، مستعرضًا الجهود والإمكانيات الاستخباراتية والأمنية والسياسية المبذولة للإيقاع بالسنوار، ساعيًا لكسب انتصار مشهدي تُستخدم فيه كافة وسائل المونتاج الحديثة وتقنيات الفوتوشوب والجرافيكس وربما الذكاء الاصطناعي لتمرير سرديته التي حاول من خلالها تشويه قائد المقاومة على مدار أكثر من عام.
ونجح المحتل على مدار عقود طويلة في توظيف مثل تلك المشاهد التي كانت له فيها اليد الطولي في إيقاع قادة المقاومة، عبر استراتيجية الاغتيالات، للترويج لقدراته وإمكانياته، وإيصال رسائل تحذيرية وترهيبة في المقام الأول للمقاومة، فكرًا وعقيدة، قيادة وحاضنة، بداية من مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين (2004)، ومن قبله صلاح شحادة (2002) مرورًا بإبراهيم المقادمة (2003) وعبدالعزيز الرنتيسي (2004) وسعيد صيام (2009) وصولًا إلى رئيس مكتب الحركة السياسي إسماعيل هنية (2024)، ونائبه صالح العاروري (2024).
لكن السنوار لم يمنحهم هذا الانتصار، فالرجل استشهد مشتبكًا ولم يكُ هاربًا، مرتديًا زيه العسكري ثابتًا في الميدان فوق أرض غزة، وليس مختبئًا تحتها كما ردد نتنياهو مرارًا، مجهضا كافة القدرات العسكرية والاستخباراتية لجيش الاحتلال وحلفاءه، ممن فشلوا في العثور عليه على مدار أكثر من عام، إذ لم يسقط إلا مصادفة وأثناء الاشتباك المباشر وإيقاع الخسائر في صفوف الاحتلال، دون أي نفاذ للاستخبارات الإسرائيلية كما فعلت في عمليات الاغتيالات السابقة.
فالرجل الذي نسف سرديات الأمن والأمان للإسرائيليين، من خلال عملية الطوفان، وحول حياتهم كابوسًا، وأحالهم إلى الملاجئ والمخابئ تحت الأرض عبر النضال في ميدان المعركة طيلة عام كامل، ها هو يحرم حكومة الاحتلال نشوة الانتصار حتى في مشهد النهاية، ليتحول بموته من مجرد قيادي مقاوم إلى أسطورة، إلى أيقونة للصمود والتحدي، ليبقى – رغم الرحيل- صداعًا في رأس الإسرائيليين.
ويكفي السنوار شرفًا أنه أعاد الأمل مجددًا في تحرير فلسطين وهزيمة “إسرائيل” والقضاء عليها، ونسف ادعاءاتها الأسطورية المزيفة حول قوتها وقدراتها، إذ وضع اللبنة الأولى في بناء مرحلة جديدة، يكون فيها النصر على الاحتلال أمرًا سهلًا ومتاحًا وقابلًا للتحقق، شرط التخطيط الجيد على كافة المستويات، وتجفيف منابع الخيانة والتواطؤ، وإعداد العدة وتقدير قوة العدو بشكل دقيق.
وفي الأخير.. ما كان أحد يتمنى نهاية للسنوار كتلك التي كُتبت له، وكأنها هدية السماء العادلة التي لا تُرفض، تلك التي منحها الاحتلال له دون قصد، ليختم بها مسيرته النضالية الزاخرة، واضعًا أبجديات مختلفة لرمزية مغايرة من القيادة، ستمثل حتمًا دليلًا لكل من يخلفه في درب النضال والمقاومة، ومدشنًا لمرحلة جديدة من الصمود.. مرحلة بدأت برحيله ولن تتوقف.